رجال تحمّلوا رسالة الثورة التحريرية المباركة..

عيسات إيدير.. مسار ومصير

د. محمود آيت مدور جامعة بجاية

 ازدادت أمور عيسات إيدير في السجون والمعتقلات تعقّداً منذ انعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956 وورود اسمه في قائمة أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ممّا جعل قيادة الجبهة تتخوّف على مصيره. وقال رفيقه بوعلام بورويبة في هذا الصدد ما يلي: « إحساسا بالخطر الذي أصبح يتربّص بعيسات إيدير منذ ظهور اسمه في قائمة المجلس الوطني للثورة الجزائرية، سعى قادة الجبهة لإنقاذه من أيّ تصفية جسدية كان يمكن أن يتعرّض لها، علماً أنّ الأمر كان أكثر خطورة في المحتشدات ممّا هو عليه في السجون. لذلك قاموا بالتخطيط لعملية فراره من السجن، وكلّف محامي الجبهة عمار بن تومي من قبل بن يوسف بن خدة بإبلاغ عيسات إيدير في محتشد “بوسوي” بالخطة وبالإجراءات الواجب إتّباعها.

لكنّ إفرازات إضراب الثمانية أيام والنتائج الوخيمة لمعركة الجزائر على الجبهة، أدّت إلى التخلّي نهائيا عن المخطط. وتجدر الإشارة إلى أنّ الوضع خارج السجون والمحتشدات خلال هذه الفترة لم يكن أحسن من داخلها إطلاقاً. أما فيما يتعلّق بالاتحاد العام للعمال الجزائريين، فقد توالت حملات الاعتقال التي كانت تطال أعضاء الأمانات العامة للاتحاد، إلى حدّ أضحى فيه أدنى نشاط نقابي شبه مستحيل. ولم يكن الأمر قد اقتصر على مناضلي وقيادات الاتحاد العام للعمال الجزائريين فحسب، إنما طال حتى مناضلي الاتحاد العام للنقابات الجزائرية المنبثق عن الكونفدرالية العامة للشغل.

محاكمة الاتحاد العام للعمال الجزائريين.
في شهر سبتمبر من عام 1958، أخذ عيسات إيدير مرة أخرى من بوسوي إلى سجن برباروس من أجل محاكمته في جانفي 1959 بالمحكمة الدائمة للقوات المسلحة للجزائر، وهناك وثيقتان تبينان مسار المحاكمة وهما كما يأتي:

الوثيقة الأولى: هي أمرية المحكمة الدائمة للقوات المسلحة للجزائر العاصمة الصادرة بتاريخ 30 سبتمبر 1958 والممضاة من قبل القاضي العسكري فارني 2 VERNET ضدّ 22 متهماً ومن بينهم 11 نقابيا وهم كالتالي:
- السجناء وهم غلال عبد القادر وإسكندر نور الدين وشماريخي عبد الحميد ورملي علي وشيخ مصطفى وجودي بوبكر وعيسات إيدير .
- الموجودون في حالة فرار وهم جيل مبارك ومعاش عبد القادر وابن عتيق محمد وابن تدريس براهم.
وكانت التهم الموجّهة إليهم تتمثل في المساس بأمن الدولة وتكوين جماعة الأشرار، كما تضمّنت الوثيقة ما يلي : « أما فيما يتعلّق بعيسات إيدير الذي تم توقيفه من قبل شرطة الجزائر يوم 24 ماي 1956 والذي وضع في الإقامة الجبرية ثم رهن الحبس والذي لم يتمكّن في هذا الصدد من النشاط ضمن الاتحاد العام للعمال الجزائريين لصالح جبهة التحرير الوطني، والذي لا يمكن أن تلصق به تهمة المساس بالأمن الخارجي، فنصرح بأنّه لا يمكن أن تلصق به تهمة الشرير. لكنّ معلومات جمعت حول عيسات إيدير تؤكّد عمله على المساس بأمن الدولة جراء نشاطه في سنتي 1955 و 1956.التي أدّت إلى تهديد سلامة الإقليم الفرنسي أو انتزاع جزء من الأقاليم التابعة لفرنسا، وهي تمسّ بالدفاع الوطني..».

الوثيقة الثانية: هي أمر بالمثول أمام المحكمة بتاريخ 12 جانفي 1959 طبقاً للأمرية الصادرة من المحكمة العسكرية، وقد ورد اسم عيسات إيدير الذي ألصقت به تهمة المساس بأمن الدولة. وتشير الوثيقة إلى الشهود الذين يثبتون التهم وهم كل من الكوميسار روبار سرایس Robert SEREIS من مديرية الأمن للجزائر، وضابط الشرطة بيار بواسيي من مديرية الأمن الإقليمي للجزائر.
وعلى هذا الأساس، كان الملف الذي جهز ضدّ الاتحاد العام للعمال الجزائريين يتمثل فيما يأتي:
- المسؤولية المسندة إلى عيسات إيدير من قبل جبهة التحرير الوطني، المتمثلة في العضوية في المجلس الوطني للثورة الجزائرية.
- إلقاء القبض على عبد القادر علال في مرتفعات الأطلس البليدي.
- رسالة علي مهساس التي وقعت في أيادي الشرطة في فرنسا والتي تدين كلّ من رحمون دكار وموسى مراكشي، مما يعني وجود علاقة وطيدة بين الاتحاد العام للعمال الجزائريين وجبهة التحرير الوطني.
عينت المحكمة رسمياً 03 محامين من أجل الدفاع عن المتهمين وهم كل من حايم (HEIM) هاران (HARAN) وغريزوني (GRISONI). لكن تم التخلي عن هؤلاء المحامين بعد قيام كلّ من الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية والوفد الخارجي للاتحاد العام للعمال الجزائريين في تونس وكذلك الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة بتعيين كلّ من الأستاذ هنري رولان (Henri ROLLIN) وهو وزير سابق وعضو مجلس الشيوخ البلجيكي، وريمون شيماما من هيئة محامي تونس والسيد غاليو GALLIOT من باريس، والذي كلّف من قبل جبهة التحرير الوطني بمتابعة ملف عيسات إيدير بالخصوص، ومساعدة السيد رولان، أما عن مجريات المحاكمة فقد حدثنا شيخ مصطفى عن أهمها، قائلاً إنّ عيسات إيدير صرح أمام المحكمة بما يأتي:
 كلّ منا اعترف بانتمائه إلى الحركة النقابية الوطنية التي أردنا إنشاءها منذ سنوات طويلة ولم يثبت ضدنا أي فعل قابل للتوبيخ. إن تصريحات ضابطي الشرطة قابلة للطعن، إذ كيف أشارك في مداولات المجلس الوطني للثورة الجزائرية وأنا حرمت من حريتي منذ ماي 1956؟ ناضلت من أجل تنظيم دفاع العمال في إطار قانوني منذ أكثر من 15 سنة، لكن وجدنا أمامنا جداراً منيعاً، وهو الذي وضعته الإدارة.. إنّ نتيجة هذه السياسة يمكن ملاحظتها بسهولة، وتتمثل في الفقر والبطالة وفي فلاحين بدون أرض، والتمييز العنصري والأمية.. سيدي الرئيس، نحن نقابيون ولم يسبق أن اعتبرنا أنفسنا خارجين عن القانون.. نطالب بحق العيش وأن نكون أناساً بأتم معنى الكلمة وليس عبيداً خاضعين ومهمشين في بلدنا. اليوم ونحن أمامكم، الاتهام الوحيد ضدي يتمثل في إنشاء مركزية نقابية، هذه المحاكمة تعتبر محاكمة للحركة النقابية العالمية والتي لم تحترم مبادئها في هذه المحكمة”.
أكّد شيخ مصطفى كذلك بشأن المحاكمة أنّ الكلّ كان يستمع إلى عيسات إيدير، وأنّ رئيس المحكمة تركه يتكلّم بكلّ حرية وأنه أذهل المحكمة العسكرية بما قاله، كما اعترف عيسات إيدير صراحة وبصوت عال بانتمائه إلى حزب الشعب الجزائري منذ عام 1942 وحركة انتصار الحريات الديمقراطية إلى غاية 01 نوفمبر 1954.
أما بوعلام بورويبة، فقد قال بشأنها ما يأتي: «عندما جاء موعد محاكمة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ثلاث سنوات بعد إنشائها، لم تكن السلطات القضائية تملك إلا ملفاً ضعيفاً. وبالإضافة إلى ذلك كانت هذه المركزية النقابية قد أوقفت كلّ نشاط حقيقي في الجزائر منذ عدّة أشهر».
كان قرار المحكمة كما يأتي: البراءة لكلّ من عيسات إيدير وشيخ مصطفى ورملي علي ومراكشي موسى وسحنون محمد وعباس تركي محمد.
الحكم بسنتين سجنا في حقّ كلّ من شاريخي عبد الحميد وسكندر نور الدين.
الحكم بثلاث سنوات سجناً في حق علال عبد القادر.
الحكم بست سنوات سجنا في حق أوزقان فاطمة. بثماني سنوات سجناً في حق عمار أوزقان. الحكم الغيابي بعشرين سنة حبساً في حق كل من جيلاني مبارك وابن عتيق موراد وابن دريس إبراهيم.
ويضيف بورويبة حول المحاكمة: «كان ظاهر المحاكمة ملائماً لعيسات إيدير، لكن نتائجه ستكون كارثية عليه وهو ما كان قد أحس به. فبمجرد خروجه من برباروس، أخذ من قبل المظليين الذين سلموه للأشخاص المكلّفين بالتعذيب في مركز بيرترارية (في ضواحي العاصمة)، لأنّ السلطات الفرنسية لم تكن لتتقبّل إعطاء الحرية لشخص عين من قبل الجبهة في أعلى هيئاتها وهي المجلس الوطني للثورة الجزائرية ..
وبعد أربعة أيام من وصوله إلى المركز، أيّ بتاريخ 17 جانفي 1959، حول إلى المستشفى العسكري للعاصمة. وكلّلت المساعي التي قامت بها الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة، وكذلك الاتحاد العام للعمال الجزائريين بتمكين المحامي كاريغاز من زيارة عيسات إيدير في المستشفى، وقد وجده محروقا بالكامل في عدّة مناطق من جسده. وأكّد عيسات إيدير لمحاميه أنه لم يحاول أبداً الانتحار، مكذّباً بذلك إدّعاءات فرنسا أنه قام بإضرام النار في أغطية فراشه من أجل الانتحار في بيرترارية واختلفت الروايات حول ظروف إقامة عيسات إيدير في مستشفى مايو العسكري بالعاصمة، فبينما كان بعضها يؤكّد أنّ عيسات إيدير لم يتلق العناية اللازمة طيلة فترة الستة أشهر التي قضاها هناك، وأنه كان على السلطات ربما أن تقوم بنقله للعلاج في فرنسا في مستشفى متخصّص في الحروق على اعتبار أن مستشفى مايو لم يكن مؤهلاً لاستقبال مثل هذه الحالات، تؤكّد روايات أخرى أنّ عيسات إيدير كان محلّ عناية فائقة طيلة الفترة التي قضاها في المستشفى، فحسب المندوب العام للحكومة الفرنسية بالجزائر دولوفريي Delouvrier يكون عيسات إيدير قد خضع لست عمليات جراحية لترقيع الجلد و 22 عملية تخدير والعديد من عمليات الحقن المتواصل بالمصل والدم في ظرف 06 أشهر. وعلى كل منا أن يتخيل العذاب الذي عانى منه عيسات إيدير طوال الفترة الممتدة من 17 جانفي إلى غاية 26 جويلية من عام 1959، وهو تاريخ لفظه لأنفاسه الأخيرة، إن كان ما صرح به هذا المندوب صحيحاً.
وقد يتوافق هذا مع ما صرح به بعض عمال المستشفى المنضوين تحت لواء نقابة القوّة العمالية في الرسالة التي وجهوها بتاريخ 24 أوت من عام 1959 للجنرال القائد الأعلى للقوات المسلحة في الجزائر والتي جاء فيها ما يلي: « لسنا مؤهّلين للحكم على نجاعة العلاج المتبع، لكن بإمكاننا تأكيد الأشياء التي يمكن لأيّ شخص أن يلاحظها. لم يكن عيسات إيدير طيلة الستة أشهر في قاعة مخصّصة للسجناء إنما كان في غرفة تحوي سريرين على مستوى قاعة بعد العمليات التابعة لقسم الجراحة وهي غرفة مجهّزة بكلّ مستلزمات التنفس الاصطناعي المركزي، شأن كلّ غرف المصلحة التي تتواجد فيها الحالات الخطيرة، سواء كانوا جنرالات أو جنوداً أو نساء أو متمرّدين..

مسرح الجريمة وخيوطه
بغرض تفسير ما حدث لعيسات إيدير حسب المنظور الفرنسي، ارتأينا أن نستعرض ما قاله المندوب العام للحكومة الفرنسية بول دولوفري Paul DELOUVRIER، ويعتبر إجابة لهنري رولان أحد محاميي عيسات إيدير وهو ما يأتي:
عندما كان عيسات إيدير في السجن، كان قد تم تعيينه خلال انعقاد المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني في 20 أوت 1956 في حوض الصومام كعضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية.. وفي شهر فيفري 1957، تم نقل عيسات إيدير إلى الجزائر العاصمة وتم استفساره حول هذه النقطة.. ولم تصدر أدنى شكوى من قبل عيسات إيدير، وكلّ شيء كان يدل على أن الاستنطاق أخذ اتجاهاً حسناً عكس ما ذهب إليه محاميه السيد رولان الذي أكّد على استعمال العنف أثناء ذلك.. وقد صرح عيسات إيدير بأنه جد متعجب من ورود اسمه في قائمة أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية ولجنة التنسيق والتنفيذ المنبثقتين عن مؤتمر الصومام..
وفي عام 1958، تم اتخاذ قرار بدء المتابعات ضدّ عدد من مسؤولي الاتحاد العام للعمال الجزائريين بتهمة المساس بأمن الدولة وتكوين جماعة أشرار.. ومن بين التهم المنسوبة إلى عيسات إيدير لم ترد مسألة الانتماء إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، لكن بعد تبرئته من قبل المحكمة، لم يكن بالإمكان إطلاق سراحه؛ لأنه كان يشكل خطراً أكيداً على الأمن القومي.. أتأسف لوفاة عيسات إيدير بدون شكّ أكثر من الذين يريدون استغلال وفاته لأغراض خاصة، لكن لن أتأسف أبداً عن القرار الشرعي الذي تمثل في عدم إطلاق سراحه بعد تبرئته. كيف لي أن أطلق سراح رجل تم تسجيله في قائمة أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية؟ وهل كان يجب إطلاق سراحه مع وجود خطر اختفائه دون ترك أيّ أثر؟
في مركز بيرترارية وبتاريخ 17 جانفي 1959، أيّ أربعة أيام بعد وصوله، تعرّض عيسات إيدير للحادث.. أصيب بحروق في رجليه بسبب الحريق الذي شبّ في أغطية فراشه.. وبعد ذلك أعلنت الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرّة نيابة عن النقابات المنضوية تحتها بأن عيسات تعرّض للتعذيب. هذا خاطئ، لأنّ التقارير التي وصلتني حول ما حدث سارعت إلى إثبات اعتقادي.. رجحنا فرضية قيام عيسات إيدير بإضرام النار في أغطية فراشه من أجل أن يتسبب في بعض الجروح الخفيفة، أو ربما فقط من أجل أن يلفت الانتباه إليه بغرض دفع السلطات لإعادة دراسة قضيته بسرعة والحديث معه أو إطلاق سراحه. وخلصت لجنة الإنقاذ التي أنهت تحقيقها الدقيق إلى نتيجة مفادها أنّ الجروح الخطيرة التي تعرض لها عيسات إيدير تعود إلى نقص اليقظة من جانبه.

الحلقة الثانية

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024