ذاكرة

محمـد العربي بن مهيــدي.. سـيرة ومسار..

د. بن عبد المؤمن إبراهيم جامعة العربي بن مهيدي - أم البواقي

لو نجحنا الله في مدة ثلاثة أشهر، مثل ما توجد الشمس في السماء يوجد الاستقلال في الجزائر»، هكذا خاطب محمد العربي بن مهيدي محفزا زملاءه في الجهاد ليلة أول نوفمبر 1954 وهم يستعدون لتنفيذ عملية حرق الفلين بغابة احفير - صبرة بالمنطقة التاريخية الخامسة (وهران)، هذا الرجل الذي مهما كتبنا عنه لن نوفيه حق قدره لذلك سنحاول في هذا البروفايل أن نستعرض أهم المحطات الكبرى التي عايشها الشهيد الركز فيا ترى من هو العربي بن مهيدي ؟ وما هو الدور الذي لعبه لصالح الثورة والقضية الجزائرية في الداخل والخارج؟

هو ابن عبد الرحمن بن مسعود وعائشة قاضي بنت حمو من مواليد سنة 1923 بمشتة حدادة بدوار الكواهي، الذي يبعد عن عين مليلة بـ10 كلم (دائرة تابعة لولاية أم البواقي حاليا) من عائلة علمية، كان والده يمارس تجارة التبغ منذ عام 1929، واستطاع إنشاء مصنع صغير في الخروب (دائرة تابعة لولاية قسنطينة حاليا)، لكنه تعرض للمضايقات من طرف الإدارة الفرنسية مما اضطره إلى غلق المصنع، وأرغم الوالد على الانتقال إلى بسكرة عام 1937 ليشتغل في تجارة التمور هناك.
 دخل العربي بن مهيدي منذ صغره إلى الكتاب وزاوية عائلة ابن مهيدي بالكواهي، فتعلم القراءة والكتابة، وأجزاء من القرآن الكريم، ثم دخل بعدها إلى المدرسة الابتدائية بعين مليلة، ثم انتقل إلى باتنة عند خاله قاضي السعيد، ليتابع دروسه بالمتوسطة الفرنسية le collège coloniale de Batna . وقد تحصل على الشهادة الابتدائية بدرجة امتياز، ونظرا للظروف الصعبة، انتقل والده إلى بسكرة، وهناك واصل العربي بن مهيدي دراسته ببسكرة بـ école de Lavigerie ودرس هناك اللغتين الفرنسية والعربية، وقد درس ابن مهيدي في بسكرة على يد الشيخ علي مرحوم في بيته سنة 1942، كما التحق بمدرسة التربية والتعليم التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسست سنة 1943 فواظب على دروسها واحتك بعديد العلماء والمشايخ فيها، على غرار محمد العابد السماتي الجيلالي.

نشاطه في الكشافة والمسرح والرياضة

انخرط العربي بن مهيدي في فوج الرجاء الكشفي سنة 1941 ببسكرة، كما كون فرقة مسرحية هناك، وقدمت هذه الفرقة عدة مسرحيات على الركح مثل: مسرحية بعنوان «في سبيل التاج» سنة 1944 كلفته خلافا بينه وبين شرطي خاصة لما كان ابن مهيدي قد تقمص الدور بشكل جيد، مما سبب له مضايقات فيما بعد، منعته من السفر مع فرقته للمدن الأخرى لأداء المسرحية.
كان العربي بن مهيدي من المهتمين كثيرا بالرياضة حيث كان يقوم بممارسة العدو، وانضم أيضا إلى فريق كرة القدم الذي تأسس باسم الاتحاد الرياضي البسكري، كما نجده مع كل هذا محبا للسينما ومشاهدة الأفلام السياسية والتاريخية وصاحب مقروئية واسعة، يطالع الكتب والجرائد.

نشاطه المهني

ساهم التعليم والتكوين الذي تلقاه ابن مهيدي خلال مساره في تحصله على منصب عمل، حيث اشتغل كمحاسب في مصلحة التموين في ثكنة عسكرية تابعة للجيش الفرنسي لعدة أشهر، واستطاع أن يختلس فيها مسدسين دون أن يشعر به أحد، وبالرغم من أن الشكوك كانت تحوم حوله إلا أنه لم يكتشف، وقدم استقالته من المنصب بعدها، وعاد إلى بسكرة ليعمل في التجارة، لكن ما لبث أن ترك العمل، ليشتري لنفسه عربة تقليدية ويقوم بنقل البضائع القادمة من وإلى السكة الحديدية وإيصالها لأصحابها، وقد زاوج في ذلك بين العمل المهني والعمل السياسي.

نشاطه السياسي

نظرا لقدراته الكبيرة على التنظيم والتسيير، كلف من طرف أحمد الشريف سعدان للقيام بمهمة الكاتب المداوم لفرع حركة أحباب البيان والحرية ببسكرة، وقد عمل ابن مهيدي بكل تفان على تعليم وتثقيف المنخرطين الجدد في الحركة، ولأن منطقة الشرق الجزائري عرفت هزة قوية سرعان ما تحولت إلى مجازر في مظاهرات ماي 1945، فإن العربي بن مهيدي كان أحد المشاركين فيها، فأوكلت له مهمة رفع العلم الجزائري والسير به في الصفوف الأولى، وعقب المشادات بين المتظاهرين والشرطة، تم اعتقاله من طرف البوليس بصفته أحد أعضاء قسمة بسكرة وواحداً من أبرز مناضلي حركة أحباب البيان والحرية، تعرض للاستنطاق والتعذيب بتهمة التظاهر ورفع العلم، بحيث قضى واحدا وعشرين يوما بمركز الشرطة ببسكرة، امتنع فيها عن الأكل متأثرا بما حصل، وذلك حسبما روى زميله المجاهد الذي اعتقل معه محمد عصامي.
نشاطه في حزب الشعب الجزائري والمنظمة الخاصة
قضى العربي بن مهيدي مدة في السجن، وقد تأثر بالفترة التي قضاها هناك، وتشبع أكثر بالروح الوطنية خاصة بعدما رأى المجازر التي طالت الجزائريين الأبرياء شهر مايو 1945. بعد تأسيس المنظمة الخاصة سنة 1947 وقع الاختيار مباشرة على العربي بن مهيدي باقتراح من محمد عصامي، ومنها بدأ نشاطه بربط علاقاته واتصالاته بتجار الأسلحة بوادي سوف على الحدود الجزائرية التونسية، واستطاع شراء بعض الأسلحة زود بها مصطفى بن بولعيد ليتم تخزينها في الأوراس، ونظرا لكفاءة ابن مهيدي ميدانيا استدعي إلى سطيف عام 1949 ليتولى مهمة الإشراف على المنظمة الخاصة بها، ثم عين بعد ذلك نائبا لبوضياف مسؤول المنظمة على عمالة قسنطينة وقد زاوج بين النشاط في قسنطينة وسطيف في نفس الفترة.
أسندت له بعد ذلك مهمة الإشراف على التنظيم بناحية الشرق الجزائري خلفا لمحمد بوضياف، وقد نشط كثيرا من أجل تأسيس الخلايا في عنابة وقسنطينة إلى غاية اكتشاف المنظمة الخاصة في 18 مارس 1950 بتبسة فيما عرف بقضية عبد القادر خياري المدعو رحيم، وبحسب المصادر التاريخية فإن ابن مهيدي هو من أرسل بعض المناضلين وعلى رأسهم مراد ديدوش لتأديب خياري، ولما تعرض للضرب والإهانة استطاع الفرار من قبضتهم واتصل بالشرطة وكشف سر المنظمة وبالتالي، كشف كل شيء، وقد شنت قوات الأمن الفرنسي والمخابرات سلسلة اعتقالات موسعة شملت حوالي 400 شخص مشتبه في أنهم أعضاء في المنظمة في الشرق والغرب، لكن من حسن حظ العربي بن مهيدي أن الأوراس وبعض خلايا الشرق لم تكتشف، وقد فر على إثرها إلى الغرب الجزائري متخفيا وبقي هناك، وقد حكم عليه غيابيا بعشر سنوات سجن مع حرمانه من الحقوق المدنية.

التحضير للثورة التحريرية

راح ابن مهيدي يجول في عدة نواحي من العمالة متخفيا هنا وهناك لا يعرفه أحد، قبل أن تعينه قيادة الحزب مرة أخرى لتولي بعض المناصب، فعمل في منصب رئيس دائرة لحزب الشعب (حركة الانتصار) بمستغانم، ثم بوهران وعين تموشنت، وتلمسان ونواحيها، واستطاع أن يلتقي هناك بأحمد زبانة، والحاج بن علا وعديد المناضلين، وقد زار ابن مهيدي في هذه الفترة أيضا عدة مناطق على الحدود الجزائرية المغربية كمغنية وصبرة، وبني بوسعيد، وبني سنوس، والغزوات ومسيردة وجبالة وغيرها، كما ربط علاقاته بمسيري الحزب في هذه المناطق من أمثال « محمد سابق ولد حامد»، «محمد بلكبير » ، « قديري حسين»... إلخ، لكن العربي بن مهيدي ظل مراقبا من طرف المخابرات الفرنسية على أنه في الغرب الجزائري وبالضبط في وهران بحسب ما أورده أحد التقارير.

نشاطه في معسكر

بحسب شهادة المجاهد علي الشريف فإن ابن مهيدي كان على اتصال بعمار محمد المدعو دادي، ويضيف بأنه عرف الشهيد البطل في مارس 1952، عندما كان طالبا داخليا بثانوية بمعسكر، حيث تم تكوين خلية تتألف من ثلاثة أعضاء، يقودها عبد الدايم محمد وتضم كلا من الراحل أحمد مدغري والمجاهد علي الشريف، حيث كان يجتمع معهم كل شهرين، وطلب منهم الانتشار بشكل موسع عبر أرياف المنطقة، التي شهدت عدة عمليات فدائية.

نشاطه في عين تموشنت

كان ابن مهيدي يتردد على عين تموشنت للقاء المناضلين، وذات يوم بينما هو يتجول مع رابح بيطاط في مهمة لمراقبة خلايا الحزب تم الاشتباه فيهما بعدما نزلا من الحافة في عين تموشنت، أوقفا بعد ذلك من طرف الشرطة واقتيدا إلى المركز للتحقق من الهوية، ومن حسن الحظ أنهما تحايلا على الشرطيين المكلفين بهذا التحقيق واستطاعا أن ينسحبا من المقر بهدوء بعد انشغال الشرطيين بالتحقق من الهويات في قاعة الوثائق الخاصة بذلك، وبعد التدقيق في هويتهما حدثت بلبلة في مقر الأمن، فقد اختفى المشبوهان، وخرجت دوريات للبحث عنهما، فبن مهيدي ومعه بيطاط كانت لهما بطاقات حقيقية وهويات مزورة صادرة من طرف المصالح المتخصصة للحزب، وقد استطاعا الإفلات بأعجوبة، وقد عاد بعدها محمد العربي بن مهيدي إلى الجزائر العاصمة وبقي هناك لمدة بدون تكليف.

نشاطه في سيدي بلعباس

إن إعادة تشكيل قواعد الحزب مست رؤساء الدوائر، وعلى إثرها حول ابن مهيدي من العاصمة إلى الغرب الجزائري مجددا وبالضبط إلى مدينة سيدي بلعباس هذه المرة، ولقد كان يتردد في مدينة سيدي بلعباس على أحد محلات أحد أقربائه الذين كانوا يبيعون التمر، وكان على اتصالات بالعربي طيبي وعابد صحرواي.

نشاطه في وهران

أصبح الحاج بن علاً منذ سنة 1953 أمين مال حزب حركة الانتصار بقسمة وهران، ولأن العربي بن مهيدي كان في نفس المدينة، دخل هذا الأخير في أحد الأيام إلى محل للحلاقة يعمل به المناضل الحاج الغالي، فانتبه إلى صورة معلقة في المحل لرجل يرتدي زيا عسكريا، فسأله من هذا الشخص؟ وطلب ابن مهيدي من الحلاق أن يلتقي بصاحب الصورة ويتعرف عليه، التقى الرجلان ابن مهيدي وابن علاً بعد ذلك، وتدارسا الأمور وفهما من بعضهما البعض ميولهما الثورية الكبيرة في ظل الأزمة التي كان يمر بها الحزب، وقد سأله الحاج بن علا يومها عن السلاح، وأجابه ابن مهيدي بأن السلاح متوفر وقد أصبح بن علاً بعدها نائبا لبن مهيدي وأحد أبرز القادة الذين سيحضرون لتفجير الثورة في العمالة الوهرانية (المنطقة الخامسة) مع كل من بن عبد المالك رمضان، عبد الحفيظ بوصوف، أحمد زبانة، محمد فرطاس وغيرهم.
كان ابن مهيدي كثير التردد على بيوت المناضلين ومقراتهم في هذه الفترة خاصة لإعادة شمل شتات المنظمة الخاصة، وفي هذا تشير إحدى التقارير المطولة للحكومة العامة في الجزائر بأن العربي بن مهيدي كان متواجدا بوهران بمكتب الدكتور محمد الصغير النقاش في اجتماع مع عدد من أعضاء المنظمة السرية، وكان حاضرا في هذا الاجتماع السري المقدم بوزيان المدعو بلحسن، وبركاني المدعو مراد، وسابق محند ولد حامد المدعو الفقيه، والشيخ ميمون المدعو بوعزة، وقد عمل ابن مهيدي في هذه الفترة بوهران على انشاء لجنة سماها»شبكة التعبئة والتوعية» ترأسها غالي الجيلالي الذي كان حلاقا بوهران، وعين بائع الخضر بن عبو محمد نائبا له، أما أمناء المال فقد كلف بالمهمة كل من الحبيب جلول بومدين وعداد محمد، وعين امحمد مهامان سكرتيرا، وقد كلف هؤلاء بجمع الأموال وجمع المتعاطفين، والبحث عن مخابئ وملاجئ.

نشاطه في مستغانم

جاء العربي ابن مهيدي إلى مستغانم نهاية صيف 1954 في مهمة معينة وهي ربط الاتصال بمحمد بلكتروسي الذي كان مدرسا وخطيبا بمدرسة حزب الشعب الجزائري، وعرض عليه الخروج إلى مصر للقيام ببعض الأعمال لصالح الثورة الجزائرية، لكن الشيخ بلكتروسي قدم اعتذاراته عن هذه المهمة بسبب ارتباطه بمهمة التدريس في المدرسة التي كان يدرس بها أكثر من 500 طالب علم.

نشاطه في الغزوات

يروي المجاهد بعوش محمد أن أول لقاء جمعه ببن مهيدي بإحدى بيوت المناضلين راح ابن مهيدي الذي كان يرافقه بوصوف يشرح أسباب الخلافات الواقعة في الحزب ونتائجه، فأوصى المناضلين بالحيادية التي تعتبر موقفا سياسيا في نظره تأسست من خلاله اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وأن الثورة التحريرية المسلحة ستشمل كل أرجاء التراب الوطني، وستتمكن من تحقيق النصر بالسلاح، شرط أن يكون هناك تجاوب عميق بين قادة الثورة والجماهير الشعبية، ففي أحد الاجتماعات قال: إننا حياديون مستقلون عن الطرفين اللذين يتنازعان السلطة وأن اختيارنا وضع المصلحة فوق كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة لقضية الأشخاص والسمعة، ولذلك فهي موجهة فقط ضد الاستعمار الذي دخل بالسلاح ولا يخرج إلا بالسلاح.
وفي نفس السياق، يقول الرائد مستغانمي أحمد السي رشيد حول ترتيبات اندلاع الثورة منذ أن تولى مسؤولية المنطقة الغربية الأخ ابن مهيدي رحمه الله... بمساعدة الأخوين بوصوف والحاج بن علا بدأ العمل الجدي، وانضم الى صفوفهم مجموعة من المناضلين منهم السي عثمان رحمه الله وحسين قديري، وعند تقسيم العمل كلفنا نحن بالتدريب على مستوى الولاية (المنطقة الخامسة كما نذكرها)، وقد بدأ هذا الاعداد حوالي شهر أفريل 1954، ونجحنا في هذه العملية، وحصلنا على نتائج إيجابية، وكان الإخوان في ناحية الأوراس ينظمون خلاياهم من أربعة أشخاص لهذا قلت في البداية أن بعض الكيفيات تختلف من جهة الأخرى، لأننا نحن في جهتنا ونظرا لطبيعة الأرض المكشوفة كنا نشكل الخلايا من عشرة جنود بحسب النظام المعمول به في الجيش الفرنسي، وقد كونا نظاما عسكريا بأتم معنى الكلمة من مسيردة إلى الغزوات حتى الصحراء.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024