بحثا عن موقع مميّز في ظل المتغيّرات

المرأة الرّيفيّة...رحلة تحدّ متواصلة

فتيحة كلواز

في مناطق نائية بعيدا عن المدن، بحثت المرأة الريفية عن تحقيق ذاتها وسط مجتمع ذكوري يرفض بشدة أي تواجد لها خارج إطار المهام والمسؤوليات الأسرية، الموروث الشّعبي حوّلها مع مرور القرون إلى مجرّد آلة لا تتعدّى طموحاتها الزّواج وإنجاب الأولاد لأنّهما المقياس الذي يكال به نجاحها وفعاليتها الاجتماعية.
هذه الصّخرة التي كانت أكبر عقبة أمام المرأة الريفية، بدأت مع التحاق الفتيات في المناطق الريفية إلى المدارس التي كانت ذات نظام داخلي بسبب بعدها عن المناطق التي تقطن فيها، وحتى يقبل الآباء إرسالهنّ إليها للتعلم، وبالفعل استطاعت هذه السياسة من فتح آفاق المرأة الريفية التي كانت في البداية تتعلّم إلى غاية شهادة التعليم الابتدائي، ثم شهادة التعليم المتوسط ثم شهادة البكالوريا إلى أن أصبحت اليوم تتمتّع بمستوى تعليمي أقلّه جامعي.
التّحوّل الذي عرفه المجتمع الريفي في نظرته إلى تعليم الفتاة انعكس إيجابا على اهتماماتها، لتصبح في رحلة بحث دائمة وتحقيق الذات من خلال المشاركة في النمو الاقتصادي، حتى وإن كان ذلك من خلال المؤسّسات المصغّرة التي غالبا ما تكون في منزلها حتى تتحاشى أي رفض من الرجل أو تعنّته، لعل تلك السيدات التي ذاعت أسماؤهن في مجالات مرتبطة بالبيئة الريفية كالصناعات التقليدية خاصة صناعة الزرابي، الحلي وكذا الزراعة والفلاحة وأصبحن سيدات أعمال رغم البيئة الريفية التي ترعرعن فيها.
عملي كصحفية أعطاني الفرصة للقاء الكثيرات منهن، سيّدات تخجلن حتى من النظر في عينيك لكنّهن يصنعن المعجزات بأناملهن وطموحاتهن التي لا تنتهي، في إحدى المرّات التقيت سيّدة من خنشلة شاركت في إحدى المعارض للصناعات التّقليدية، جاءت إلى العاصمة رفقة زوجها الذي يرفض سفرها لوحدها، ولكنّه لا يقبل في المقابل الوقوف في وجه أحلامها عندما تراه باللّباس التّقليدي الشاوي، وذاك البرنوس الأسود الذي يتوشحه تعرف أنّه مؤمن يقينا بقضية تراث وذاكرة أمة في تلك التحف التي تصنعها زوجته في بلدية «بربار».
سيّدة أخرى عملت معها منذ سنتين، أنشأت مؤسّسة مصغّرة لصناعة المربّى، استطاعت بعد تخرّجها من الجامعة التحول إلى مجال التصنيع، مستغلّة في ذلك تخصّصها في الفلاحة الذي درسته لخمس سنوات كاملة، سألتها إن لم تجد صعوبة في قبول محيطها بفتح مجال عمل خاص بها، فقالت إن فكرتها قوبلت في البداية بالرفض لأنّ عمّها كان يضغط على والدها لتزويجها ابنه وفقا للعادات والتقاليد، و»لكن مع مرور الوقت قبل والدي خروجي لتحقيق ذاتي، ولكنه بقي دائما مراقبا لما أقوم به عن قرب بسبب تدخلات العائلة التي لا تنتهي».
الغريب أنّ كلّهن استطعن الوقوف في وجه تلك العادات والتقاليد، التي ترفض الإذعان للتطور الحاصل على مستوى العالم أجمع، ولعل تلك السيدات وضعن قدمهن على طريق التغيير الذي نلمسه اليوم في مختلف المناطق الريفية عبر التراب الوطني، ولكن لا ينكر جاحد فضل السياسة التنموية التي اتبعتها الجزائر اتجاه تلك المناطق بتوفير المدارس ومختلف المؤسسات التعليمية وفتح جامعات في مختلف ولايات الوطن، إنشاء طرق ربطت مناطق كانت تعتبر إلى وقت قريب نائية ويصعب الوصول إليها، طبعا مع التركيز على تطوير الدور الذي تلعبه المرأة الريفية في المجتمع.
وحتى ندرك الخطوات التي تقوم بها الجزائر من أجل ترقية المرأة الريفية، علينا أن نعلم أن الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر في 2018 خصّصت مبلغا ماليا قدره مليار و500 مليون، غطى 15000 قرض مصغر وسمح بخلق 22 ألف منصب شغل من أجل ترقية المرأة الريفية، وهي الصيغة التي ساهمت بصورة ملفتة في فتح المجال الاقتصادي أمام المرأة الريفية، وتحفيزها من أجل تحقيق ذاتها من خلال المشاريع المصغّرة التي تقوم بها خاصة اللواتي لا تستطعن الخروج من المنطقة التي تعشن فيها.
التغير في حياة المرأة الريفية جعلها مع مرور الوقت تكتسب الكثير من الحقوق التي كانت مستحيلة التحقيق قبل خمسين سنة مضت، فحتى الرجل في المناطق الريفية تغيّرت نظرته المحدودة إليها، وتقبّلها كسيدة أعمال لها استقلالية مادية ومعنوية عن الرجل، وأصبح يراها شريكا اقتصاديا وليس عبئا ثقيلا على ظهره، ولعل إيجاد صيغ لتكون المرأة الريفية سيدة أعمال دون الخروج من بيئتها، ساهم بقوة في تطور الدور الذي تلعبه داخل المجتمع الذي تعيش داخله، لتتوّج رحلة الكفاح والتّحدّي الذي خاضته المرأة الرّيفية بذهنية جديدة تتطوّر مع كل خطوة تخطوها نحو تحقيق ذاتها وأحلامها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024