في رحــاب الخلود..لمـسة وفاء لرجل بأمـّة

الشيخ العلاّمة يوسف جمعــة سـلامة

بقلم: د - سامي سعيد

بهدوء تام ودونما ضجيج وكأنّ المولى اختار له الوقار حتى في رحيله إلى العلياء، ترجّل الشيخ العلامة يوسف جمعة سلامة “أبو إياد” والذي لم يكن عالماً ربانياً فحسب، بل كان قنديلاً من قناديل النور، وركناً راسخاً من أركان الدعوة والعلم والإصلاح. كان علماً من أعلام فلسطين، وخطيباً لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى المبارك، ووزير الأوقاف والشؤون الدينية الأسبق، وعضو المجلس المركزي الفلسطيني، الذي ارتقى إلى العلا شهيداً برفقة زوجته الطاهرة في قصفٍ غادر طال منزلهما في مخيم المغازي بقطاع غزة.

 رحل الجسد، لكن الروح بقيت حيةً تنبض في ضمير الأمة ووجدانها، يرن صوته في المآذن، وتُحفر خطاه في دروب الخير، وتنهال ذكراه كالدعاء على ألسنة من عرفوه وأحبوه. لم يكن الشيخ يوسف مجرد عالم أو مسؤول، بل كان قلباً يخفق بالإيمان، ويداً تسبل العطاء، ولساناً ينطق بالحق، وجسراً يصل الأرض بالسماء، يحمل هم الدعوة، ويجبر كسر القلوب. لم لا، وقد ترك الشيخ يوسف جمعة سلامة إرثاً خالداً وبصمةً من نور، وإنجازاتٍ عظيمة في المشهد الديني والتعليمي والدعوي في فلسطين؟ حيث سأكتفي بالإشارة إلى بعض منها، فالمقام لا يتسع لحصرها. فقد اقترن اسم فضيلته بالنهضة الشرعية وروح التجديد الدعوي في فلسطين، وكانت إنجازاته شاهدة على إيمانٍ راسخ، وهمةٍ عالية، وعزيمةٍ لا تلين، وعطاءٍ لا يعرف الحدود، وصدقٍ مع الله عز وجل، ومع رسالته السامية التي كان يحمل همها ليل نهار. بدءًا من تأسيس ثلاث كليات للدعوة الإسلامية في قلب الوطن، وهي: كلية الدعوة الإسلامية في غزة، ونظيرتاها في الخليل وقلقيلية، حيث انطلقت هذه الكليات برسالة سامية تهدف إلى تأهيل الدعاة وتزويدهم بالعلم الشرعي، مع ضمان التعليم المجاني للبنين والبنات.
هذا فضلاً عن تأسيس العديد من المدارس الشرعية التي غرست القيم الإسلامية في قلوب الأجيال، وعزّزت الهوية الدينية في زمنٍ تكاثرت فيه التحديات. ولم تكن المساجد غائبة عن وجدان رجلٍ نشأ وترعرع وقلبه معلق بها؛ فلم تكن المساجد مجرد مبانٍ في نظره، بل كانت بيوت الله التي تستحق العناية والاهتمام. فقاد بنفسه مشاريع بناء وتوسعة مئات المساجد، وألحق بكل مسجد مركزاً لتحفيظ القرآن الكريم، وعين الحفاظ أئمةً ومعلمين، ليظل كتاب الله محفوظاً في الصدور والقلوب.
وأسس فضيلته إذاعة القرآن الكريم في فلسطين، ومن أبرز منجزاته التي ستبقى شاهدةً على عظمته طباعة “مصحف بيت المقدس”، كأول مصحف يُطبع في أرض فلسطين، ليكون رمزاً للقدس والمسجد الأقصى المبارك، وتأكيداً على مكانتهما في وجدان الأمة الإسلامية وضميرها الحي.
وممّا يؤثر عن شيخنا الجليل، سعيه الدائم والدؤوب لنقل هموم القدس وفلسطين إلى الدول العربية والإسلامية، وذلك من خلال المشاركة في المؤتمرات والندوات والمحاضرات واللقاءات التلفزيونية. وكذلك إسهاماته المتميّزة في مجالات العمل الخيري والإغاثي، حيث أقام العديد من المشاريع الخيرية والتي تقوم بمساعدة الفقراء والأيتام والأسر المحتاجة، وكذلك مساعدة الطلاب والمرضى من خلال إنشاء الصناديق الخيرية لذلك، والمساهمة في تخفيف نسبة البطالة بين الخريجين من خلال تنفيذ العديد من المشاريع الإنتاجية المشتركة بين الخريجين والمحسنين.
وبذل الشيخ يوسف جهودا كبيرة في مواجهة مظاهر الغلو والتطرف والتشدد، من خلال نشر تعاليم الدين الإسلامي السمحة، التي تقوم على الاعتدال والتسامح والتيسير في الفهم والتطبيق. وقد حرص في خطبه ودروسه ومؤلفاته على التأكيد أن الإسلام دين رحمة وعدل، ينبذ العنف والانغلاق، ويدعو إلى الحوار والتعايش مع الآخر، مستشهداً بالقرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ترسيخ قيم الوسطية ونبذ كل ما يؤدي إلى الفرقة أو التشدد.
وفي أزقة مخيم المغازي حيث نشأ وترعرع، كان الشيخ يمشي بين الناس لا بجبروت المنصب أو الجاه، بل بحنان الأب وعطف الأخ، يمسح دمعة اليتيم، ويُقوي عزيمة المحتاج، ويُحيي الأمل في عيون أنهكها اليأس.
لم تكن مواقفه خطباً تُلقى، بل إرثاً يُروى، وحياةً تُعاش، ومواقف تُخلد. وقف الشيخ يوسف على منابر المساجد كالجبل الأشم، صوته صداً للحق في زمن الغفلة، وكلماته دواءً للنفوس المتعبة، وهتافاته للقدس شعلةً تُذكي الهمم. جمع بين عمق العالم ورحمة الواعظ، فكان كما يُنتظر من العلماء الربانيين: علماً في العقل، وأخلاقاً في القلب، وثباتاً في الموقف.
لم تزده المناصب إلا تواضعاً، ولم تُغره الأضواء عن خدمة الخلق. كان يعرف الناس بأسمائهم، يشاركهم أفراحهم ببسمته التي كأنها شعاع من نور الأقصى، يُذيب الصقيع من القلوب، ويُنير الدرب للسائلين، كما لم يكن يتخلف عن أحزانهم التي كان يعيشها معهم بقلبه المرهف وإحساسه الصادق. ورغم الفراق في وقت الشدائد الصعاب، لا يزال حضوره كالشمس في كبد السماء:
- شهادته دمعة على جبين الوطن.
- صوته صاعقة في وجه الطغيان.
- سيرته ومسيرته وصية للأجيال: أن طريق القدس يُسطر بدماء الشهداء.
لقد خطّ الشيخ يوسف جمعة سلامة مسيرةً من النور والعطاء، أسّس فيها للمستقبل، وغرس القيم، وبنى للعلم والدين حصونهما في وجه الاحتلال والتحديات. وسيبقى اسمه محفوراً في ذاكرة فلسطين، منارةً تضيء الطريق، وسنداً للثبات والصمود. إنه بحق، وبدون مبالغة، رجل بأمة.
رحم الله الشيخ الشهيد يوسف جمعة سلامة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين. غاب عن أعيننا، لكن سيرته ستظل ملهمة للأجيال القادمة كشعاع من النور يُضيء الدرب، ويُحرك الضمير، ويُذكرنا أن الربانيين لا يموتون، بل يصيرون نجوماً تُرشد السائرين والحائرين والتائهين.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19831

العدد 19831

الخميس 24 جويلية 2025
العدد 19830

العدد 19830

الأربعاء 23 جويلية 2025
العدد 19829

العدد 19829

الثلاثاء 22 جويلية 2025
العدد 19828

العدد 19828

الإثنين 21 جويلية 2025