سوف أستعير هذا العنوان: “رسائل مهرّبة من شق في الجدار”، والذي نشرت الكاتبة ياسمين كنعان تحته مجموعة من النصوص النثرية في موقع مجلة الجديد الإلكترونية كمدخل للكتابة عن إصدارها البكر “أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر”، وذيّلته بوصف “دفتر ليليات”، والذي صدر عن دار “جليس الزمان في العاصمة الأردنية.
في عتمة الليل قد يتسلّل بصيص ضوء من شقٍّ في الجدار، ومن خلاله قد نُهرِّب رسائلنا كما يُهرّب سجين رسائله في عتمة اعتقاله من خلف الأسلاك الشائكة، أو يطلقها للريح عبر نافذة مسوّرة بالقضبان. لم تصلني نسخة ورقية من هذا الكتاب، كما أنّها لم تصل إلى كاتبته (كما أخبرتني) عندما طلبت نسخة ورقية منه، بل وصلتني نصوصه في نسخة إلكترونية مرفق بها غلاف الكتاب. أعتقد أنّ لهذه التفاصيل الشكلية ضرورة هنا، لماذا؟! أولا: أعتقد إنّ النسخة الإلكترونية التي بين يديّ ليست النهائية لأنّها غير مرقمة مما يتعذّر الإشارة إلى أرقام صفحات نصوص الاقتباس؛ أو حتّى معرفة عدد صفحاته؛ وثانيا: قد تكون قراءة النصوص في نسخة كهذه مرتبكة مما قد ينعكس على الكتابة عنها أيضا.
توزّعت نصوص الكتاب على ستة فصول، وهي: أسلاك كهرباء مكشوفة؛ لا شيءٍ يدل عليّ؛ لا أذهب إلى النهر؛ أن تقرأ ما أكتب؛ رسائل ليلية؛ وغرق مركب من ورق. لن أذهب إلى تصنيف فنيٍّ للكتاب، وإنما أنظر إلى محتواه كنصوص مفتوحة، بمعنى أنّ اللغة المستعملة في بعضها هي لغة شعرية، والتكثيف الذي استخدمته الكاتبة فيها، والصور الشعرية التي صبغتها، كذلك الشكل الخارجي للنصوص، يوحي كلّ ذلك للناظر بأنّها نصوص شعرية، وفي المقابل هناك نصوص مكتوبة بلغة نثرية خالصة، وبسرد قصصي، وبالتأكيد أنّ هذه الأمور لا تُنقِصُ من قيمتها الفنية، وإنما رأيت وجوب التنبيه إليها هنا. تصف ياسمين كنعان ما تكتبه بـ “رقصة الديك الذبيح” وتقول:
«لا أعرف الشّعر ولا أنثر النثر ولا أكتب القصيدة،
أصابعي ترقص على الورق رقصة الديك الذبيح،
عنقي متدلية على صدري، ودمي يسح على ريشي،
الريشة قلمي والدم محبرة! “
في النص السابق، يبدو أنّ الكاتبة تختصر على القارئ المسافة بين النص وبين تأويله، فالخاص يطغى على العام، حيث تبدو معظم نصوص الكتاب كأنّ الكاتبةَ تكتب ذاتها، ويبدو ذلك جليّا في النصوص التي تستعيد فيها طفولتَها، ومنها: خدش في الواقع، طيش، موت الآلهة، حزن مستطيل، الطريق إلى المدرسة، حاكورة أمي، زقاق، لا شيء يدل عليَ، وصية، ونهج الجدات.
وهذا لا ينفي أن عشرات النصوص الواردة في الكتاب يطغى عليها الخاص على العام، وبالتأكيد أن هذا أمر لا يعيبه. في نص “خدش في الواقع” تقول الكاتبة: “أنا البنت التي كانت تتصرف مثل الأولاد الأشقياء / كنت أسرق حبات اللوز الأخضر من أرض جارنا وجار جارنا/ أضع طرف ثوبي القصير المتسخ بين أسناني / وأضع حبات اللوز في طية الثوب وأركض / أركض بركب وسيقان نحيلة ممتلئة بالخدوش والجروح / أفترش زيتونة عتيقة / وألتهم حبات اللوز مع كمشة ملح / ملفوفة بصرة صغيرة من دفتر مدرسي عليه كتابات أو أرقام بقلم الرصاص / وكنت أسرق اللوز الذي قسى قلبه أيضاً / أكسر القشرة الصلبة بالحجر وألتهم القلب وأعود إلى أمي / متسخة تماما وقد علق على جديلتي ما علق من التراب وأوراق الشجرة / وأتجهز للعقاب المنتظر”.
عطفا على هذا النص، هل نحن أمام سيرة ذاتية؟! أم أنّ مخيال الكاتبة رصد كل أوجاع قهر النساء في مجتمعاتنا وحوّلها إلى النصوص التي بين أيدينا؟! وفي الحالتين لا يعنينا ذلك بقدر ما تعنينا النصوص ذاتها.
لقد حاولتُ رصد بعض الكلمات التي تتكرر فيها علّها تعطينا دلالة عن الواقع المكتوب عنه. كانت كلمات مثل: (موت/الموت/ميت) طاغية إذ وردت ما يزيد عن مائة مرة في النصوص، كما وردت كلمة (الغياب) خمسا وسبعين مرة (والغياب قرين الموت)، ووردت كلمة حزن ثمانٍ وأربعين مرة، وأما كلمة أمل فوردت سبعا وخمسين مرة. هل في ذلك دلالة على واقع معيش؟! وهل يُمكننا وصف نصوص الكتاب بالنصوص التي كُتِبَت في عتمة الليل وكان أملها بظهور بصيص ضوءٍ من شق في الجدار ضئيلًا؟!
«لا شيء يدل عليَّ / لا شيء يدل عليَّ حتى اسمي / لا شيء ولا حتى ملامح وجهي / ربما لأنّني قررت في زمن القهر والقمع أن أكون غيري / ربما لأنّ وجهي المفضوح بالحزن والهزائم والخسائر لا يروقكم/ ربما هي محاولة يائسة لرتق الجرح بالكلمات../ لا شيء يدل عليَّ إلا كلماتي! في رحلة قراءتي للكتاب أسرتني نصوصه المكثّفة، والتي جاءت كومضات أضاءت النص، وهنا أقتبس منها ما يلي:
تلويح
غبت؛
لم يعد يجدي التنويه، كان لا بدَّ من التلويح.
^^^^^
عرق مريمية
مثل عرق مريمية
أُقلّب مواجعي في الشمس.
------
تفاصيل
لا أريد من الحب إلا التفاصيل.
--------
كأس المرارة
- هل تذوّقت الكأس المرّ؟
- مراراً.
- ثم ماذا؟
- أصبح الطعم مستساغاً حين كسرته بدمعي.
-------
قاطع طريق
الصمت قاطع حديث العشاق؛
الكلام قافلة من القلب إلى القلب
والصمت قاطع طريق.
وإن أشرت فيما سبق إلى غلبة الخاص على العام، إلا أنّ ذلك لا ينفي حضور العام في النصوص، الناس والمكان، كما في نص اغتيال – على سبيل المثال – ونص غواية، والعديد من النصوص التي تستحضر فيها الشهداء، وهناك نص جميل استحضرت فيه الشهيد غسان كنفاني وخاطبته بـ “حبيبي غسان” رغم أنّها ولدت بعد استشهاده كما ورد في نصّها. في نص (غواية) تقول الكاتبة:
«الجبل الناتئ فوق خاصرة المدينة / لا يحمي المدينة من الغزاة / إنهم يدكون المخيم والحارة القديمة / الجبل الناتئ فوق خاصرة المدينة / التي تصطاد أقدام المارة وتحولهم إلى شهداء / لا يحمي المارة من الموت / لكنه يمارس غواية قديمة/ كأن يغري غيمة أو سرب حمام!”.
تلك بعض الإضاءات على كتاب: “أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر...دفتر ليليات” للكاتبة ياسمين كنعان علّها أوفت نصوصه بعض حقّها.
لا أملك رأس الحكمة ولا ذيلها؛
أكتب حزني بشفافية مطلقة!”
ياسمين كنعان

شوهد:129 مرة