وُلد عبد الكريم راتب يونس عويس عام 1973 في مخيم جنين، شمال الضفة الغربية، لعائلة فلسطينية عُرفت بارتباطها العميق بالأرض والمقاومة. تنتمي العائلة إلى قبيلة «عويس» التي اشتهرت بصلابتها وكرامتها المتجذرة.
ثورة ياسر عرفات
نشأ عبد الكريم في بيت متواضع، لكنه غني بالقيم الوطنية؛ فقد كان والده «راتب» فلاحًا بسيطًا يحمل في قلبه إيمانًا عميقًا بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. منذ نعومة أظفاره، تنفس عبد الكريم رائحة المخيم الممزوجة بالغبار والرصاص.
عاش طفولة تتخللها الاقتحامات والاعتقالات، وشهد مبكرًا كيف يتسلل الموت إلى الزقاق دون موعد. هناك، بين الأزقة الضيقة، بدأ وعيه يتشكّل: أدرك أن الاحتلال لا يفرّق بين صغير وكبير، وأن النضال ليس خيارًا، بل قدرًا لا مفر منه.
بداية الطريق.. والاعتقال الأوّل
في سن المراهقة، وتحديدًا عام 1987، أسّس عبد الكريم مع رفاقه أول خلية شبابية لتنظيم النشاطات الشعبية داخل المخيم.
لم يطل الوقت حتى اعتقله الاحتلال، وكان لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره. كانت صدمة السجن الأولى قاسية، لكنها لم تُضعف عزيمته، بل زادته وعيًا وصلابة، لتكون تلك التجربة شرارة انطلاق لمسيرته النضالية الطويلة.
انتفاضة الحجارة... الدم والرصاص
خرج عبد الكريم من السجن عام 1988 تزامنًا مع اشتعال انتفاضة الحجارة.
انخرط بقوّة في العمل الميداني، وتحول إلى أحد أبرز النشطاء في مخيم جنين. خلال إحدى المواجهات، أُصيب برصاصة دمدم محرمة دوليًا في ساقه، إصابة كادت أن تترك أثرًا دائمًا، لكنه نجا منها بعد علاج طويل دام أكثر من ثلاثة أشهر في المستشفى، بعيدًا عن أمه وأهله ودفء المخيم.
الفهد الأسود... التنظيم والمواجهة
لم يكن الألم عائقًا أمام الإصرار. بعد تعافيه، ساهم عبد الكريم في تأسيس مجموعات «الفهد الأسود» في جنين، إلى جانب رفاق السلاح، من بينهم الشهيد نجيب حويل. كانت تلك المجموعات تشكل نواة مقاومة شعبية مسلّحة، تتصدى للاجتياحات وتنفذ عمليات نوعية ضد الاحتلال. في أوج نشاطه، اعتُقل مجددًا، ليُحكم عليه بالسجن المؤبد. قضى في السجن أربع سنوات صعبة، لكنها كانت غنية بالمعرفة والنضوج السياسي. حوّل زنزانته إلى مساحة للتعليم والتثقيف، وبثّ في رفاقه روح الوعي والانتماء.
وفي عام 1994، وبعد توقيع اتفاق أوسلو، أُفرج عنه ضمن صفقة شملت آلاف الأسرى، لكنه لم ينعم طويلًا بالحرية. فسرعان ما أُغلِق منزل عائلته، وتم تهجيرهم بالكامل، في محاولة ممنهجة لكسر إرادته، دون جدوى.
الانتفاضة الثانية... والاعتقال الطويل
مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، عاد عبد الكريم إلى الميدان، متصدرًا الصفوف التنظيمية في جنين. وفي عام 2002، اعتُقل مرة أخرى، في وقت كانت زوجته فيه حاملًا بطفلهما الأول، سامر. لم تُتح له فرصة أن يراه، أو حتى أن يهمس له باسمه، ليبدأ رحلة أسر جديدة دامت أكثر من عشرين عامًا. خلال سنوات اعتقاله، ذاق عبد الكريم أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي. مُنع من زيارة عائلته لسنوات طويلة، وتعرّض لعقوبات مستمرة، لكنه لم ينكسر.
حفظ القرآن الكريم كاملًا، وأمضى وقته في تثقيف الأسرى وبناء وعي نضالي داخل السجون.
العائلة الصامدة.. والأسر الجماعي
في عام 2018، بلغ المشهد قمة الرمزية والمرارة حين اجتمع عبد الكريم داخل السجن مع ابنه راتب، الذي حكم عليه الاحتلال بالسجن لعامين، وابنه سامر الذي كان يقضي حكمًا لخمس سنوات، إلى جانب شقيقه حسان، الذي أمضى 23 عامًا في الأسر. كانوا جميعًا في الزنزانة ذاتها، يتشاركون الألم والذاكرة، وكأن النضال قد تحوّل إلى ميراث دم لا ينقطع.
وفي لحظة استثنائية، خرج عبد الكريم وحسان معًا من الأسر، بعد أكثر من عقدين من الظلم المتواصل، لكن فرحة التحرر لم تكتمل، إذ لم يُسمح لعبد الكريم بالعودة إلى جنين، بل نُفي قسرًا إلى مصر، في محاولة جديدة لتمزيق صلته بالأرض التي لم ينسَها يومًا.
الكتابة خلف الجدران
رغم الأسر، لم يكن عبد الكريم صامتًا. شارك في تأليف كتاب جماعي مع مجموعة من الأسرى المناضلين من حركة فتح وكتائب شهداء الأقصى. الكتاب، الذي تجاوزت صفحاته الخمسمئة، وثّق تجاربهم اليومية داخل السجون، من الألم إلى الأمل، ومن التحقيق إلى التنظيم، وكان شاهدًا على جيلٍ لم ينكسر رغم العتمة.
يُعتقد أن هذا العمل صدر لاحقًا وتوفر في الأسواق، ليكون ذاكرة مكتوبة من خلف القضبان.
عبد الكريم اليوم... في المنفى والصوت الحر
اليوم، يعيش عبد الكريم في منفاه القسري في مصر. بعيدًا عن وطنه وأحبته، لكنه لم يتخلَّ عن رسالته. لا يزال يكتب، يتحدث، يوثّق، ويحمل صوت الأسرى إلى العالم، كأن الزنزانة انتقلت معه، وكأن المخيم لا يزال في قلبه حيًّا نابضًا. قصة عبد الكريم عويس ليست مجرد سيرة شخص، بل حكاية وطن. هي وجع الأسرى، وثبات العائلات، وكبرياء المقاتلين. من زقاق في مخيم جنين، إلى زنزانة مظلمة، إلى منفى بعيد، ظلّ عبد الكريم شامخًا، يجسد مقولة المخيم الأولى:
«من يولد في المخيم لا يعرف الانكسار، بل يعرف الطريق إلى فلسطين.»