انطلقت من إنجلترا عام 1872

رحلة بحرية غيّرت مسار علوم البحار والمحيطات

بدأت السّفينة «إتش إم إس تشالنجر» رحلتها من إنجلترا عام 1872، وغيّرت عبر مهمتها مسار تاريخ العلوم على سطح كوكبنا في بهو المركز الوطني لعلم المحيطات بمدينة ساوثامبتون البريطانية، ينتصب نموذج ملون لتمثال، من تلك التي تُوضع عادة في مقدمة السفن. ويصوّر التمثال، الذي يزيد ارتفاعه عن ارتفاع قامة الإنسان العادي، فارسا ذا شارب، يبدو أشبه بمقود دراجة، وعلى رأسه خوذة ترتفع مقدمتها لأعلى قليلا، ويغطي صدره درع معدني فضي اللون، وتحدق عيناه - على ما يبدو - في الأفق البعيد.
ويشكّل هذا التمثال الخشبي، القطعة الوحيدة المتبقية من سفينة ذات أشرعة رئيسية مربعة الشكل حملت اسم «إتش إم إس تشالنجر»، قامت ذات يوم برحلة استغرقت ثلاث سنوات ونصف السنة، قصدت خلالها بقاعا تقع في أقاصي الكرة الأرضية. وأعادت هذه الرحلة صياغة علوم البحار، وكشفت النقاب عن الكثير من أنواع العجائب الموجودة تحت سطح الماء، وغيّرت ــ إلى الأبد ــ طبيعة علاقتنا مع المحيطات الواقعة، على سطح كوكبنا.
ولم تكن الرحلة، التي استمرت بين ديسمبر 1872 وماي 1876، بالبسيطة أو اليسيرة، إلى حد أنه لو كان بوسع ذاك التمثال - الموجود الآن في ساوثامبتون – الحديث عنها، لروى كيف تناثر عليه خلالها رذاذ المياه المالحة، عندما كانت «تشالنجر» تمخر عباب المحيطيْـن القطبي الشمالي والجنوبي. كما كان سيتسنى له أن يحكي لنا رحلة السفينة، عبر مساحات واسعة من المحيط الهادئ، بل وخوضها مغامرة بلغت في خضمها، ما هو أبعد من الدائرة القطبية الجنوبية. (...)
وظهرت تلك السفينة الخشبية إلى النور في فبراير 1858، بعدما بُنيت في حوض «وليتش» لبناء السفن بإنجلترا، الذي لم يعد قائما في الوقت الحاضر. وصُمِّمَت «تشالنجر»، التي يبلغ طولها نحو 61 مترا، لتكون سفينة حربية، تجوب البحار بقوة الرياح والبخار أيضا.
المفارقة أنه لم يكن بوسع أحد، أن يتنبّأ مسبقا بالشهرة التي ستتمتّع بها تلك السفينة. فعندما دُشِنَت، كان العالم بأسره تقريبا، يتحدث عما سبق دخولها الخدمة ببضعة أسابيع، من تدشين سفينة أخرى حملت اسم «إس إس غريت إيسترن»؛ صمّمها المهندس البريطاني إسامبارد كينغدَم برونيل، وكانت تعمل بالبخار وذات هيكل مدعم بالحديد ويزيد طولها على 210 أمتار. لكن محدودية شهرة «تشالنجر» لن تستمر طويلا.
وبدأت قصة الرحلة، التي باتت أسطورية الآن لتلك السفينة، قبل 150 عاما؛ وتحديدا في عام 1870، عندما أقنع بروفيسور في جامعة إدنبره كان كذلك خبيرا في علم الكائنات البحرية يُدعى تشارلز وايفيل طومسون، جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية، والمعروفة اختصارا باسم الجمعية الملكية، بتقديم الدعم لرحلة بحرية طويلة الأمد، ترمي لاستكشاف محيطات العالم. لم تكن الفكرة مألوفة وقتذاك، وطُرِحَت في وقت كانت فيه أعالي البحار، تشكّل ما هو أكثر من مجرد عائق، يعترض طريق التجارة البرية ويعوق استكشاف الأصقاع المجهولة من العالم. كما كانت الحياة في أعماق البحار والمحيطات، تشكل لغزا إلى حد كبير.
وحتى العالم الشهير تشارلز داروين، الذي كان قد قام برحلة بحرية رائدة بدوره قبل ذلك بنحو 40 عاما، لم يكن يرى في المحيطات سوى «مساحة ممتدة بشكل لا نهائي ومثيرة للضجر» ووصفها بأنها «صحراء من المياه».
ولذا سعى القائمون على الرحلة، لنيل موافقة الحكومة البريطانية عليها، وهو ما حدث بالفعل. ثم استعار هؤلاء من الأسطول الملكي؛ السفينة «تشالنجر»، التي كانت في ذلك الوقت سفينة قوية ومتينة، قضت العقد الأول من حياتها في الخدمة الفعلية في البحار. (...).
اكتشفت السفينة خلال رحلتها الكثير من أنواع الكائنات الحية الجديدة، وصاغت طبيعة فهمنا لطبيعة الحياة في البحار وبحلول أواخر 1872، كانت السّفينة جاهزة للإبحار. وقد بدأت رحلتها يوم السبت السابع من ديسمبر، من بلدة شيرنيس على الساحل الجنوبي الشرقي لإنجلترا، تاركةً خلفها البلاد فريسة لأحد أكثر فصول الشتاء الأشد مطرا، منذ بدء التسجيل. واتجهت «تشالنجر» في البداية جنوبا صوب مدينة لشبونة وجزر الكناري، وذلك في مستهل رحلة ستستمر 42 شهرا، وستقطع خلالها السفينة قرابة 127 ألفا و600 كيلومتر. وتوقفت «تشالنجر» أثناء رحلتها في ما لا يقل عن 362 محطة، وذلك «على فترات منتظمة بقدر الإمكان»، كما جاء على لسان وايفيل طومسون. واستهدفت هذه التوقفات، جمع عينات من قاع البحر، ودراسة الحياة البحرية، وقياس درجة حرارة مياه المحيطات، وتقدير أعماقها.
وقد تسنّى لنا تكوين فكرة عن ملامح الحياة على سطح «تشالنجر»، بفضل رسائل خطّها شاب يُدعى جوزيف ماتكين، كان يعمل خادما مساعدا على متنها، ولم يكن عمره يتجاوز 19 عاما حينما بدأت السّفينة مهمّتها. وفي خطاب كتبه خلال اللّحظات الأولى للرّحلة، قال ماتكين: «كل العلماء على متن السفينة انشغلوا طيلة أسبوع كامل بتخزين معداتهم. هناك آلاف من القوارير الصّغيرة محكمة الإغلاق، وكذلك الصّناديق صغيرة الحجم. كُدِّسَت هذه الأشياء في خزّانات حديدية، لكي تحفظ فيها العينات التي ستحوي حشرات وفراشات وطحالب ونباتات وغيرها. هناك غرفة للتّصوير على السطح الرئيسي للسفينة، وكذلك غرفة للتحليل والفحص». (...).
لكن حصيلة ما اكْتُشَفَ خلال الرّحلة، كانت أكثر وفرة من ذلك بكثير. وربما يكفي للدّلالة على ذلك، توضيح أن نتائجها عُرِضَت لاحقا عبر تقرير تألّف من 29 ألفا و500 صفحة؛ وقُسِّمَ لـ 50 جزءاً، وهو ما يعطينا فكرة عن القدر الهائل من المعلومات، التي جمعها العلماء الذين كانوا على متن السفينة.
ومن شأن إلقاء نظرة على المجموعة المتاحة على شبكة الأنترنيت للعينات المادية التي جُمِعَت خلال الرحلة، والبالغ عددها 4772 عينة، كشف النّقاب عن صورة ثريّة بشكل استثنائي للحياة البحرية. فهذه المجموعة تتضمّن قواقع بحرية من جزر الأزور، وحيوانات حبار من المياه المحيطة باليابان، وأسنان أسماك القرش، وحيوانات سلطعون، وخنازير بحر وأسماكا من فصيلة الأنقليس الثعباني، بجانب ما يُعرف بـ «الكائنات المُتغذية بالترشيح» التي جُرِفَت من على عمق يصل إلى 550 مترا تحت جزر هاواي.
وتتوزّع هذه العيّنات الآن، على متاحف مختلفة في المملكة المتحدة وأيرلندا والولايات المتحدة، مثل متحف التاريخ الطبيعي في لندن، وهناك البعض منها لا تزال معروضة للزوّار بالفعل. (...)

المصدر: BBC Travel

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024