ظهـــر أبــــي

وردة بوعفار - سكيكدة

 منذ أن طوّقت ظهر أبي، وأنا أجلس خلفه على مقعد دراجته كل مساء بعد خروجي من المدرسة خاصة المساءات الشتائية القارسة، متلفعا بقشابيته البنيّة..كنت أدسّ وجهي فيه وأتشبثّ بكلتا يدي الصغيرتين بقماشها، لم أكن أعلم أن هذا الظهر الحبيب سيصبح رميما يوما ما حقيقة تبيد القلب وتحرق المشاعر يرتعد كياني الآن وأنا أكتب عنه...ها أنا أجلس على المقعد الخلفي لليتم ويداه تطوقاني الآن..أتحسسهما..أقبلهما...خشنتا الملمس..عليهما تجاعيد جميلة تبهرني تستقيم ثمّ تتفرّع كالسّواقي...أخالها خيوط دونثيل لقطعة آسرة...تلك الشرايين الرقيقة والأوردة منبعي... أنثى أنا تأسرني تفاصيل التفاصيل أصنع منها سعادتي أو تعاستي....يداه آه من يديه! أستطيع أن أملأ كتابا فقط في تلك اليدين كان يطوح بهما وهو يتحدث أو يغني، وحين يلف عيدان الخيزران بحرفية ليصنع تلك الروائع التي كان يبيعها لنقتات منها..كان يسحب سجائره من العلبة كعاشق يسحب حبيبته من يدها لرقصة لطيفة..وحين يعمل على تجديد خيط مسبحته..وحين يغازل أمّي فيرسم قلبا على سجّادة الصّلاة..وحين يصلح شباكا..أو يدير المفتاح في خرم الباب...أو يرمي صنّارته في البحر ليصطاد السمك..الكثير من الحركات لازلت احفظها في ذهني..تخصّه هو فقط..لا يحقّ لأي رجل غيره أن يقلّدها.
توفي أبي ذات شتاء سنة 1994، الرجل الأميّ ويداه انتقلتا إليّ بل صارت يداي، وكلما طوّقت نفسي بهما في المساءات الشتائية القارسة يشرق منّي وجهه، ويعبق المكان بعطر قشابيته المبلّلة التي عايش أنفي ليومنا هذا..ظل بشوشا بسيطا، وعلمني الحرية وصون النفس عن التوافه...الآن لا أستطيع أن أحصي أياديه الكثيرة عليّ التي بفضلها اليوم أنا هنا....

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024