لا تيـأس..ستشــرق حروفـــك يومــا

عبد الغني نائلي دواودة

 في يوم من الأيام انقطعت أخبار صديق عزيز، وكاتب لا يعرف الجمهور العريض؛ رغم جمال حرفه وأهمية مواضيع كتاباته...فقررت أنا وصديقي عمر أن نسأل عن أخباره، وتوجهنا إلى منزله ذات صباح، وكان في استقبالنا أحد أبنائه، الذي أخبرنا أن والده مقيم منذ مدة طويلة في منزله الريفي؛ وهو معتكف على كتابة كتاب جديد.
وقبل انصرافنا قلنا له بلغه أن فلان وفلان يبلغانك التحية والسلام، ويودان قضاء يوم معك للدردشة وتذكر الأيام الجميلة. وتركنا له أرقام هواتفنا لضبط الموعد في حالة موافقته على استقبالنا، وما كدنا أن نصل إلى وجهتنا حتى رنّ هاتفي النقال، ولم أعرف رقم المتصل، فسلمت الهاتف إلى مرافقي للرد في انتظار أن أركن السيارة في مكان آمن.
ومن حسن الصدف أن المتصل كان صديقنا جابر، الذي اشتقنا إلى لقائه. ومن سرعة اتصاله بنا يبدو  أن الشعور كان متبادلا؛ وكانت المكالمة قصيرة جدا، أوجز فيها قائلا: «أنا الآن مشغول ولا أستطيع أن أطيل في الكلام كثيرا، أنا في انتظاركم غدا، ورتّبوا أموركم على أن الزيارة قد تطول إلى عدة أيام، لأن في جعبتي وخاطري كلام كثير أرغب في أن أبوح به لأقرب أصدقائي، سلام سنلتقي غدا إن شاء الله».
كانت فرحتنا كبيرة لسماع صوته بعد مدة طويلة من انقطاع أخباره، من جهة ولأنّه أسرع في الرد علينا، وهذا ما يثبت صداقته واحترامه لنا، وعشرة ومودة تعود إلى أيام الجامعة الجميلة.
الكثير من لا يعرف صديقنا جابر جيدا؛ يقول عنه، أنه شخص غريب الأطوار، متعجرف ونرجسي ومتقلب المزاج؛ والحقيقة هي عكس ذلك، إنه ببساطة أديب مرهف الحس، ينزوي أحيانا في عالمه الخاص.
في اليوم الموالي لمكالمة صديقنا جابر، توجّهت أنا وصديقي عمر إلى مكان إقامته في الريف، وكانت رحلة ممتعة في صبيحة يوم من أيام الخريف.
وعند وصولنا إلى عين المكان وجدنا صديقنا جابر في انتظارنا، وخصّنا باستقبال مميز. وبعد تناول وجبة الغذاء تحت شجرة زيتون عتيقة، رافقنا صديقنا إلى محل الإقامة وهو عبارة عن بيت صغير، يقع على أطراف الغابة، تحيط به مناظر خلابة، مكون من ثلاثة غرف وقاعة كبيرة لاستقبال الضيوف، جلسنا في قاعة الضيوف في انتظار وصول إبريق الشاي بالنعناع.
ومن خلال نبرات صوته وطريقة كلامه وتلميحاته، يظهر أنّ أمرا معينا يقلق صديقنا جابر. ولكي نحاول معرفة ما يشغله بدأنا في توجيه أطراف الحديث نحو المواضيع التي تشغل باله. فقال له صديقي عمر: «علمنا أنك معتكف على كتابة كتاب جديد»، قال: نعم. وقلت له: «ما عنوانه؟ «قال لي، بعد تنهدات عديدة، أن عنوانه: «لا تيأس، ستشرق حروفك يوما «.
ومن طريقة إجابته وفحواها، فهمت أنا وصديقي عمر أن ما يقلق صاحبنا جابر، له علاقة بنشر كتبه وما يعانيه من صعوبات في هذا المجال. وقال له صديقي عمر «أين وصل موضوع نشر كتبك القيمة والهادفة؟»، ردّ عليه وعلامات الحزن والوجع بادية على محياه: «من خيبة إلى خيبة ومن وعد إلى وعد ومن رفض إلى رفض، ولكل ناشر أعذاره وتبريراته وأولوياته». وأضاف قائلا: «هناك من يتاجر بالحروف، وهناك من يعمل على شروق الحروف؛ فالأول تاجر والثاني مثقف واع يقدر الحرف وأصحابه، ويساهم في الإشعاع الثقافي والحضاري لمجتمعه، فالقليل من الناشرين يقدر الإبداع ويعمل على الترويج له. قد يكون اسم الكاتب غير معروف، ولكن قد تعبر حروفه وكتاباته عن إبداع حقيقي يحتاج إلى من يأخذ بيده ويرافقه حتى تشرق حروفه».
وأردف قائلا: «كتاب لا تيأس، ستشرق حروفك يوما»، صرخة كاتب مبدع تكدست مخطوطات كتبه على سطح مكتبه القديم، ولم يكتب لها أن تنشر وتعرض في المكتبات والمعارض، لأن ناشرو هذا الزمان ينشرون كتب التراث وكتب المشاهير من الكتاب التي تعود عليهم بأرباح طائلة، ولا يغامرون مع الكتاب المبتدئين، لأنّ همهم الوحيد هو تحقيق الأرباح، ولا يهمهم الترويج للإبداع والتعريف بأصحابه.
وأصل حكاية هذا الكاتب ووجعه تعود إلى كونه في أمسية من الأمسيات تلقى مكالمة هاتفية من إحدى دور النشر التي كان قد أرسل لها مخطوط كتابه الأخير، الذي كان يعول عليه كثيرا، وأخبره صاحب الدار بأن لجنة القراءة رفضت نشر كتابه على حساب دار النشر. وقال له: «وإن أردت طباعته ونشره على حسابك، فأبواب الدار مفتوحة لمؤلفاتك في كل وقت».
ومن شدة الصدمة والتأثر قال لصاحب الدار: «إذا كان الكتاب غير قابل للنشر على حساب الدار، كيف لأصحاب الدار أن يقبلوا بطباعته باسم الدار على حساب الكاتب».
وقرّر أن يكسّر قلمه ويدفن حروفه، وهمّ إلى جمع مخطوطات كتبه ليحرقها. وهو يجمع
مخطوطاته من رفوف مكتبة قديمة، وهو في حالة انفعال شديدة؛ سقط كتاب قديم من كتب والده من أحد الرفوف، وتناثرت منه أوراق منفصلة، جمعها، وأخذ يتصفحها.
واكتشف بذهول أن الأوراق عبارة عن قصة كتبها والده بخط يده منذ أكثر من عشرين سنة خلت وكانت تحت عنوان: «ستشرق الحروف حتى ولو جفت الأقلام «.
كان هذا الاكتشاف عبارة عن رسالة إلهية هدأت من روعه في لحظة يأس ووجع وقنوط من رحمة الله. والغريب في الأمر أنه كان يعرف أن والده من عشاق المطالعة والمعرفة، لكنه لم يكن يعرف بأنه من كتاب الحرف الجميل.
وطرح على نفسه عدة تساؤلات، لماذا لم تنشر هذه القصة؟ ولماذا وضعت في هذا الكتاب؟ وهل ما أبقاها في الكتاب هو ما أبقى مخطوطاته على الرف؟
وبعد حيرة وتساؤلات كثيرة، رجع إلى صوابه وأرجع مخطوطاته إلى مكانها على الرف، وهمّ بقراءة القصة بشغف.
ومن قراءته للقصة اكتشف أن بطل القصة معلم متقاعد قضى حياته في تعليم الأجيال وتربيتها؛ وكان راتب تقاعده لا يسد كل مطالب حياته اليومية هو وأسرته. وزادت متاعبه عندما اقترب موعد فرح ابنته، وعجزه في أن يوفر لها كل متطلبات الفرح. هذا ما جعله يقرر البحث عن مصدر دخل أخر لتحسين دخله وضمان توفير متطلبات فرح ابنته.
ودامت رحلة البحث عن عمل ثان عدة شهور. وفي يوم من الأيام، وهو في رحلة البحث هذه، دخل إلى مكتب من مكاتب دور النشر، وأكتشف عن طريق الصدفة أن دار النشر التي دخل مكتبها هي لصديق قديم انقطعت عنه أخباره منذ مدة. وكان اللقاء بينهما حميميا، أحيوا من خلاله ذكرى أيام جميلة جمعتهم في زمن بعيد. وقصّ المعلم لصديقه قصته ومعاناته وكان صديقه يتابع سرده بكثير من الاهتمام والتأثر. وفي الأخير قال له إن الدار في حاجة ماسة إلى مدقق لغوي يراجع مخطوطات الدار قبل طبعها. واتّفق معه بأن يمر على الدار من حين لأخر ليأخذ مجموعة من الكتب لمراجعتها لغويا.
ومرت الأيام وتحسّنت أوضاع هذا المعلم، وتمكّن من إقامة فرح ابنته. وظل يعمل مع صديقه لعدة سنوات. ولما ساءت حالته الصحية، اضطر إلى التوقف عن العمل. ومكث في البيت يكتب مذكراته في المدرسة. ودامت الكتابة عدة سنوات. وبعد الانتهاء من كتابة مذكراته، أخذ المخطوط إلى صديقه الناشر، وتفاجأ بخبر وفاته منذ سنة، واكتشف أن دار النشر تعيش ظروفا سيئة. والتقى بمسير الدار وهو أحد أبناء صديقه.
وكان مسيّر الدار الجديد قليل التحمس لمواصلة النشر، وكان يعمل على ترتيب الأمور هو وبقية الورثة لبيع دار النشر واقتسام التركة، وسلمه مخطوط الكتاب لنشره. وكان هذا المخطوط نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ دار النشر وأصحابها الجدد.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024