المقامة النسبية

محمد ربيعي -الجزائر

حدثنا دحمان بن سنان قال:اشْتَهَيْتُ الكُسْكَس، وأَنَا بِتنَس، ولَيْسَ مَعِي
دِيْنَار وَلا فِلْسْ، فَبَدأتُ أبْحَثُ عَن أقرب عُرْسْ فَإِذَا بِرجل رُبْعَة مِنَ القَوْمِ، كَثِيْفْ اللْحَى لاَ
يُرَى مِنْهُ لاَ السِنَ والفَمْ، وأذُنَاهُ كَبِيرَتَان كأنّهُمَا
الدُّشُّ، وشَعْرَهُ كَثِيْف مُكَرْكَب كأنه عُشْ
وعَليْهِ مَسّحَة مِنَ الغَبَاءِ، تَظهَرُ مِن عُيُونِهِ
الشَهْبَاء، ويَجُر عَربَتهُ عَلَى حِمَارَهُ النَحِيْف
ويَتَقَوّتُ بِمَاءٍ وكَسْرَةٍ عَلَى الرَصِيْف !!!
وبَطْنِي يَقَرْقِرُ وَخَاوِيًا، وكُنْتْ للخَدِيعَةِ نَاوِيًا
فَقُلتُ فِي نَفْسِي ظَفِرْتُ بِفطُور، وأنا العبد
الذّكِي الفَطِن الصَبُورْ، والسّلَامُ عَلَيْكَ يَا أبَا
عُمَر ضَعْ راحِلَتُكَ وهُنا المُسْتَقَر، فَقَالَ الرَجُل
لسْتُ بِأبِي عُمَر، وَلَكِنِي أبُو بَدر !!
فَقُلتُ: فَمَن يُصَاحِبُ لرّجَان، سَيُصَابُ
بِالخَرَف وَالنِسّيَان، فَكَيفَ حَال وَالدُكَ دَحْمَان؟
أمَازَالَ يَعمَلُ فِي غَزّلِ الصُّوف، وَيُحِبُ أكلَ
السّبَانِخ والمَلفُوفَ، فَقَالَ: لَقَد مَاتَ فِي
زِلزَال الأصنَام، ونَبَتَ عَلى قَبرِهِ شَجَرَة
جِذعُهَا مَائِل وبُنِتُ عَليْهِ قُبّة خَضْرَاء مِن
رِيشِ النَعَام، وأصبحَت تُنْصَبُ عِندَ مَرقَدِهِ
الأنْصَاب وتُذبَحُ الأغْنَام، وكَانَ عَمَلُه
يَبِيعُ الحُلي مِنَ الذَهَب الفِضَة، فِي وَاد الفَضَة
أظُنّكَ لَم تُشَاهِدُه مُنذُ مُدّة، كَأنّكَ كُنتَ فَي
عِدّة !!! فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
ونَحنُ عَلى فِراقَك يَا دحمَانَ صَابِرُون
وجائعون، فَكَمْ أشتَاقُ إلى أبِيكَ فَقَد كَان
ذَا كَرمِ وَجُود، لايَهُمه كَم أخرجَ مِن نقُود
يَا ويلي ياَ ويلي يَاويلي
فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى
السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ
أَطْيَبُ، فذهَبنَا إلى السُوقِ، فَشَرِبْنَا لبَن النُوق
فقلت للبائع وجدت فيه حِنٌطَة، ستعيد لنا
النُقُود وإلاّ نَبْلغُ ونُبلغُ الشُرطَة، فَسَكَبنَا مَا
بَقِي للقِطَة، وبائع اللبن سَقط مَغْشِيًا عَليهِ
كَأنّها الجَلطَة !!!
ثُمَّ أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقاً، وأنا
لعابي يتسايل كتسايل جوذاباته مرقا،
فَقُلتُ لأبِي بًدر: أريدُ الكِبْد مقليًّا على الزُّبْد !!
ومِن هَذا القَلب نِصفَهُ، ومِن هَذا العِجْلِ
لسَانَهٌ، وشِوَاءً مِن لحمِ الضأنِ، مَع حَسَاء
البَطن، وخُبز المَطلُوع، فَلقَد أهلَكَنَا الجُوع !!!
ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ، وعَلى السُفرةِ شَمَرْتُ
وارخَيْتُ الحِزَام، كِي يَمُر بِسَلاسَة الطَعَام
فجِيئ بالكَبِد بدمِهَا، فالكَبِدُ تُؤكل بِدمِهَا
والسَمكة بِسُمِهَا، والكَرشَة بِشَحْمِهَا !!!!
وأبو بدر يُراقب فِي دَهشَةِ، ثُم جَاءت
الكَرشَة، فَكَان الهُجُوم، فَلمْ نَتُرك إلا التُخُوم!!
فَأكلنَا حَتى شَبِعنَا، فَنَاديتُ الشَوَاي وقَلت: مَاذا
يَفْعَلُ هَذا الفَأر فَي الشَاي، فَاستَحَى وقَالَ:
أستُرانِي فَليسَ هذا كَعَهْدي، لاَ قَبلِي ولاَ بَعْدِي
فَخَرجنَا مِن عِند الشّوَاي وهُو يَندب حَالهَ
وأبَو بَدر قد نَبَتَ الخَيُزران عَلَى لِحيَتِه !!!
ثُم وصَلنَا عِند بَائِع العَصَائِر، وأبُو بَدر أصَابَهُ
الجَائِر، فَطَلبتُ كُوبًا مِن عَصِير الليمُون البَارِد
فَشَربتُه عَلى الطَعَام المُتصَاعِد، فَتركتُه حِينَ
سَرح، فَهرولتُ وضَربتُ النَح، وأبُو بَدر مِثلَ
البَحر المُنسَرِح، مِن هَول مَا شَاهد مِن جَشَع
ودَهَاء وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ أَتَيْنَا إلَى
عُرس قُبَالة السُوق، وأبُو بِدر يَتبعُني كَالنُوق!!!
فدخلنا في الحَال، مِن دُون سُؤال، كَأنّنَا مِن
أهْل الوَلِيمَة، وأبُو بَدر ورَائِي كَمثل البَهِيمَة !!
فجيء بالكُسكُس مَع المَرق، وأبو بَدر يَسِيل
بِالعَرق، فَلم يَأكُل مَخَافة أن يُكشَف أمرُنَا ومَا كَانَ في السُوق مِنَا، فإذا بالعَريس بَائع العَصَائِر
فَعَرفَنِي فأشْبَعُوني ضَربًا وأطفُؤوا عَلى بَطنِي
السَجَائِر، فَجَاء لرّجان كالسَبع الزَائِر الثَائِر ويَقُول سَأذبحُكُ لتَكُون عِبرَة لكُل العَشَائِر !!!
فقلت: اشتَهيتُ الكُسكَس والطعام، فَطَاوعَتنِي
نَفسِي إلى أكل الحَرَام، ولسِان حَالي يَقُول:
ليس هذا بزمانك، وليست هذه بدارك
ولا السوق سوقك، بئست الكتب وما وسقت
والأقلام وما نسقت، والمحابر وما سقت
والأسجاع إذا اتسقت، واللوم ولا هذي العلوم.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024