الأديبـة الصحراوية مـريم حسنـة الطالب لـ”الشعـب”:

الصحراويـون والفلسطينيــون.. شعبان يعيشـان ظلمــًـا متشابهاً

حوار: فاطمة الوحش

 الحرية حق كوني لا تحــدّه الحدود الجغرافية ولا السياسات 

الروايـة هي الإطار الأوسع الذي يحتوي الذاكرة الصحراوية

تستعيد الكاتبة مريم حسنة الطالب، في رواية “فينيق الصحراء” خيال الجدات وحكايات الناجين، لتعيد تشكيلها بلغة أدبية تنبض بالحنين والجرح الإنساني. هي باحثة في الأدب الإسباني ومترجمة، وناشطة في العمل الإنساني داخل مخيمات اللاجئين الصحراويين، لكنها أيضا كاتبة ترى في الأدب أفقا للحلم وأداة للمقاومة. بين الخيمة التي تتحوّل إلى بيت، وبين المرأة التي تعيد بناء مجتمعها من العدم، وبين ذاكرة تنزف لكنها تضيء الطريق، تنسج مريم روايتها الأولى، شهادة على أن الحرية لا تُنسى وأن الوطن يمكن أن يولد من الرماد.
في هذا الحوار، نرافق الكاتبة في رحلة داخل “فينيق الصحراء” ونتوقف معها عند البدايات، عند سرّ ولادة الحكاية، عند دور اللغة والهوية في تشكيل النص، ونتأمل كيف تتحول الكتابة من فعل شخصي إلى مقاومة ضد النسيان.

- الشعب: بداية، كيف تقدمين للقارئ روايتكِ الجديدة؟ وما الذي تودين أن يعرفه عن هذا الإصدار قبل أن يفتح صفحاته الأولى؟
مريم حسنة الطالب: أقدّم “فينيق الصحراء” كرحلة تنبض بصوت المنفى والذاكرة، وتوثّق كيف يستطيع الإنسان أن ينهض من الرماد كلما حاولت النكبات ابتلاعه، قبل أن يفتح القارئ صفحاتها، أود أن يدرك أنّه أمام نص لا يسرد فقط، إنما يعي معنى الحكاية: كيف تتحوّل الخيمة إلى بيت، والخراب إلى لغة بقاء، والجدار إلى ندبةٍ في الروح، لكنها ندبة تعلّمنا الصمود. الرواية لا أعتبرها مجرّد حكاية عن شعب، لكنها عن الإنسان في لحظة ضعفه وقوته، في انتصاراته الخفية.
- كيف وُلدت فكرة كتابة هذه الرواية؟ وما الذي دفعكِ لتحويل يوميات اللجوء والذاكرة إلى مشروع سردي طويل يتجاوز حدود النصوص النثرية القصيرة؟
ولدت فكرة الرواية من حكايات الجدّات اللواتي عشن تلك اللحظات الصعبة بكل ما حملته من خوف وألم وحنين، ومن أصوات الناجين الذين يحفظون في ذاكرتهم تفاصيل الرحيل والنزوح كما لو أنها حدثت البارحة. لكن الدافع الأكبر كان دهشتي أمام جهل العالم بقضيتنا؛ كنت ألتقي بأشخاص من ثقافات مختلفة، مثقفين وقرّاء، ومع ذلك يجهلون تمامًا ما تعنيه الصحراء الغربية وما عاشه شعبها..شعرت أن هذه الحكايات لا يجب أن تبقى حبيسة المخيمات، وأن عليّ أن أمنحها مساحة سردية واسعة، قادرة على حمل الذاكرة إلى العالم، لتروي وجعنا وأملنا في آن واحد.
- روايتكِ تبدو مزيجا بين السيرة الفردية والذاكرة الجماعية للشعب الصحراوي، إلى أي مدى كان من الصعب عليكِ أن تحوّلي معاناة ممتدة لعقود إلى نص أدبي لا يقتصر على التوثيق فقط، بل يتجاوز ذلك ليقدّم رؤية إنسانية وجمالية؟
الكتابة عن الذاكرة الصحراوية كانت بمثابة مشي فوق حقل ألغام. ليس من السهل أن تقترب من ذاكرة مثقلة بالألم، من دون أن تسقط في فخ التوثيق البارد أو الميلودراما المفرطة. كنت أبحث عن لغة متوازنة؛ لغة تمنح المعاناة إنسانيتها قبل أن تمنحها عنوانًا سياسيًا، وتفتح بابًا للقارئ كي يرى في حكايتنا حكاية العالم كله: صراع الإنسان مع المنفى، مع فكرة أن الزمن يتجاوزك بينما تبقى عالقًا عند حدود لا تعترف بك. أردت نصًا يخلّد الذاكرة لكنه لا يحبسها في الماضي، نصًا يضيء الطريق أمام الحاضر والمستقبل معًا.
- شخصية “فاطمتو” تحمل ثقل الذاكرة وتتحرك بين محطات كبرى: الاحتلال الإسباني، النزوح، ثم الاحتلال المغربي المشؤوم والتهجير. هل كتبتِ هذه الشخصية بوصفها تجسيدا لصوت جماعي  يمثّل النساء الصحراويات، أم أردتِ أن تكون صورة أكثر حميمية لطفلة تكبر وسط الدمار وتتحوّل مع الوقت إلى رمز؟
شخصية “فاطمتو” نشأت من تقاطعات كثيرة؛ هي الطفلة التي سمعت أصوات الرصاص  قبل أن تتعلم أبجدية الحياة، وهي المرأة التي أصبحت مرآة لنساء كثيرات عشن التجربة ذاتها. كتبتها بوعي أنها صوت جماعي يعكس وجع النساء الصحراويات وقوتهن، لكنها في الوقت نفسه كائن حميمي جدًا؛ طفلة تخاف، فتاة تحلم، امرأة تحب وتتألم وتنهض. لم أرد لها أن تكون رمزًا جامدًا، بل رمزًا حيًا يتنفس، يتغيّر، ويكبر كما كبر جيل بأكمله في ظلال المنفى.
- في العمل الأدبي، هناك حضور قوي للمرأة بوصفها من تبني المجتمع وسط الخراب، بينما الرجال يقاتلون في الجبهات. هل كان هذا خيارا واعيا لإبراز دور النساء في القضية الصحراوية، أم أن التجربة الواقعية للمخيمات فرضت نفسها على خيالك السردي؟
وجود المرأة في الرواية بهذا الحضور القوي كان انعكاسًا للواقع الحقيقي أكثر من كونه خيارًا سرديًا واعيًا..التجربة علمتني أن النساء لا يكتفين بالصبر، لكنهن يخلقن حياة وسط العدم. هنّ من بنين الخيام، أعدن ترتيب الفوضى اليومية، وأعطين للمكان معنى. كل امرأة في المخيم تحمل في يدها جزءًا من معجزة البقاء. حين كتبت، لم أكن أختار أن أُبرز هذا الدور؛ بل كنت أكتب عن واقعٍ يفرض نفسه بكل وضوح وقوة.
- ربطتِ في الرواية بين القضية الصحراوية والقضية الفلسطينية، لكن على مستوى أعمق: هل هو مجرد تقاطع في المأساة، أم محاولة منكِ لتأسيس خطاب إنساني كوني يرى في العدالة والحرية حقوقًا مشتركة تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية؟
الربط بين القضية الصحراوية والفلسطينية لم يكن مجرد تقاطع عاطفي، لكنه وعي  إنساني عميق. نحن شعبان يعيشان ظلمًا متشابهاً: احتلال يسلب الأرض، وحلم لا يتوقف. لكن الأهم بالنسبة لي أن أكتب نصًا يؤمن أن العدالة ليست محلية، وأن الحرية حق كوني لا تحدّه الحدود الجغرافية ولا السياسات. أريد أن يقرأ القارئ الرواية فيرى أن ما يجمعنا بالبشر في أي مكان هو الحلم المشترك بالكرامة الإنسانية.
- بدأتِ الكتابة من نصوص نثرية قصيرة وسرديات متفرقة حول الهوية والمنفى، كيف حدث الانتقال نحو الشكل الروائي؟ وهل تعتبرين أن الرواية هي الإطار الأمثل لاحتواء الذاكرة الصحراوية وتقديمها للعالم؟  
الانتقال إلى الرواية كان خطوة طبيعية. النصوص النثرية منحتني بدايات الحكاية، لكنها لم تمنحني الفضاء الكافي لبناء شخصيات، ولا لرسم المشاهد التي تحتاج إلى نفس طويل. الرواية سمحت لي أن أبطئ الإيقاع، أن ألتقط تفاصيل الحياة اليومية في المخيمات، أن أعطي كل شخصية حقها في النمو والتطور. شعرت أن الرواية هي الإطار الأوسع الذي يمكن أن يحتوي الذاكرة الصحراوية، ويقدّمها للعالم بعمق وجمال، لا كخبر عابر ولا كوثيقة جامدة.
- ككاتبة شابة تعيشين يوميا بين العمل الميداني الإنساني في المخيمات والكتابة الأدبية، كيف أثّرت هذه التجربة العملية على رؤيتكِ للعالم، وعلى رسمك للشخصيات والأحداث داخل النص؟
 عملي الإنساني في الميدان منحني عينًا أكثر حساسية للتفاصيل. تعلّمت أن أرى البشر في هشاشتهم وقوتهم، أن ألتقط مشاعرهم الصغيرة التي لا تُقال، لكنّها تصنع معنى الحياة. هذه التجربة انعكست على الرواية؛ فجعلتني أكتب شخصيات واقعية وحيّة، شخصيات تتحرك في النص مثلما تتحرك في الحياة: متناقضة أحيانًا، لكنها دائمًا إنسانية. العمل الميداني جعلني أؤمن أن القصص ليست ملكي ككاتبة، إنما هي أمانة عليّ أن أوصلها بصدق واحترام.
-   الكتابة عن الجرح الجمعي ليست سهلة، فهي قد تتحول إلى عبء أو إلى أداة مقاومة. هل شعرتِ أثناء الكتابة أن الرواية انتزعت منك شيئا شخصيا، أم منحتك بالمقابل نوعا من المصالحة مع جراحك الخاصة ومع ذاكرة شعبك؟
الكتابة عن الجرح الجمعي كانت رحلة مؤلمة ومحرِّرة في الوقت ذاته. أحيانًا كنت أشعر أن كل صفحة تُنتزع من روحي، لكن مع كل جرح أكتبه، كنت أجد مساحة جديدة للمصالحة مع ذاكرة شعبي ومعاناته الصعبة. الرواية منحتني سلامًا هشًا لكنه حقيقي، سلامًا يجعلني أؤمن أن الحكاية ليست عبئًا إذا تعلمنا كيف نرويها بطريقة تمنحنا القوة بدل الضعف.
- بما أنكِ متخصصة في الأدب الإسباني والترجمة، كيف انعكست هذه الخلفية اللغوية والثقافية على تجربتك الروائية؟ وهل حاولتِ الإفادة من تقنيات السرد في الأدب الإسباني أو اللاتيني لكتابة الحكاية الصحراوية بروح جديدة؟
 دراستي للأدب الإسباني وانغماسي في ترجمته جعلا أدواتي السردية أكثر مرونة وحداثة. تأثرت بتقنيات مثل تعدد الأصوات، اللعب بالزمن، وبناء الحكاية على طبقات، كما تأثرت بالسرد اللاتيني الذي يخلط الواقع بالرمز. لكنني كنت حريصة أن يظل النص صحراوي النبض والهوية؛ فحتى عندما أستعير تقنيات من عوالم أخرى، أحرص أن تبقى الروح التي تسكن النص هي روح الصحراء.
- بين العربية والإسبانية، كيف تعيشين هذه الثنائية اللغوية في كتابتك؟ وهل ترين أن الكتابة بالعربية تمنحك إحساسا بالانتماء، بينما الإسبانية تفتح لك أفقا للتواصل مع الآخر ونقل القضية إلى دوائر أوسع؟
 الثنائية اللغوية بالنسبة لي رحلة يومية بين الجذور والأفق. العربية تمنحني الأمان والانتماء؛ بها أكتب وأحلم وأحاور ذاكرة جدّتي وحكاياتها التي شكّلت وعيي. أما الإسبانية، فهي نافذتي الأوسع نحو العالم، الأداة التي أطمح أن أنقل بها صوتي وصوت شعبي إلى دوائر أوسع. لم أترجم هذا العمل الروائي بعد، لكنني أعمل على هذا المشروع بروح حذرة؛ أريد أن تصل الرواية بالإحساس ذاته الذي وُلدت به بالعربية، بنفس الدفء والصدق، دون أن تفقد لغتها الداخلية أو نبضها الصحراوي. أحيانًا أشعر أنني أعيش بين لغتين، بين عالمين، لكنني أرى في ذلك نعمة تتيح لي فضاءات أعمق للتعبير والتواصل.
- هل تعتبرين أن الترجمة بالنسبة لكِ مجرد أداة مهنية، أم أنها في جوهرها جسر ثقافي يمكن أن يُعيد تقديم الرواية الصحراوية للعالم بلغاته المختلفة؟
 الترجمة بالنسبة لي ليست مجرد مهنة، بل جسر ثقافي يعيد تقديم الحكاية بأصوات مختلفة. حتى الآن، اقتصرت تجربتي في الترجمة على الأدوات العملية والنصوص الوظيفية، ولم أخُض بعد تحدّي ترجمة عمل روائي بهذا العمق. لكنني مؤمنة أن ترجمة “فينيق الصحراء” ستكون نافذة واسعة، تتيح للرواية أن تعبر الحدود وتفتح حوارًا مع قارئ قد يسمع لأول مرة عن الصحراء الغربية. أرى أن الترجمة ليست فقط وسيلة للوصول إلى الآخر، بل فعل مقاومة هادئ ضد العزلة والنسيان، وطريقة لنقول للعالم إننا حاضرون، وإن حكايتنا تستحق أن تُروى بلغات مختلفة.
- لو اختصرتِ رسالتكِ الأدبية والإنسانية في جملة واحدة، ماذا تقولين للقارئ الذي سيحمل روايتكِ بين يديه؟
إذا أردت أن أختصر كل شيء في جملة واحدة، فسأقول: “هذه الحكاية ليست بعيدة عن كل إنسان، إنها مرآة لروحه أيضًا. لأن الحرية حين تُسلب من أي إنسان، فإنها تُسلب منا جميعا”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

19868

19868

السبت 06 سبتمبر 2025
العدد 19867

العدد 19867

الخميس 04 سبتمبر 2025
العدد 19866

العدد 19866

الأربعاء 03 سبتمبر 2025
العدد 19865

العدد 19865

الثلاثاء 02 سبتمبر 2025