باسم خندقجـي يوقّــع “سـادن المحرقة”

الإنسـان الـذي يفقــد ظلّــه ويخاف لعنـــة الذكريـات

بقلــــــم: سلمــــى جـــبران

تبدأ الرواية بمحاولة البطل أور شابيرا فَصْلَ نفسِهِ عن “ضوضاءِ الواقع”. فيستهلّ كتابة مذكّراتِه بِـ:«ليس كلّ الألمان نازيّين وليس كلّ النازيّين ألمانًا”! في الصفحة الأولى من الفصل الأوّل في الرواية. تبدأ الرواية قبل البدء/قبل التكوين وكانت الأرض خربةً وخالية..

دلالات إنكار صلته بهويّته لا تحتاج إلى إيضاح وتفسير لكي تطغى على إحدى الثيمات المركزيّة العميقة في الرواية. انتقل أور من الكيبوتس إلى تل أبيب وكره حياة تل أبيب وقال: “تل أبيب ليست امرأة عاشقة بل هي زانيةٌ لعوب”. (ص94).
واستمرّ في لوم ذاته (ص97-96): “قمتُ بتخييب آمال أبي وأمّي، ولم تكن البوست تراوما هي السبب فحسْب، وإنّما الانتقام ربّما أو الإسهام أكثر في خيبتهما معًا”. صعد إلى عيادة أمّه ليخبرها بتعيينه في شركة محاماة “ووجدها متمدّدة أسفل زميلها مودي الكلب”(ص97.) كلّما حاول الاقتراب من أهله أكثر كلّما ازدادت خيباته وخيباتهما! بالإضافة إلى كلّ ذلك، ظلّت “طفلة القبو” تلاحقه أيضًا في تل أبيب، فقالت له: “أنت أفاتار أحمق، هل تعلم لماذا؟.. أنت أحمق لأنّك لم تنجح بالهروب منّي فأنا أُقيمُ فيك!”. (ص97-98).
وظلّ أور يتخبّط بين العربيّة والعبريّة حتى تحوّلت الكلمات إلى مسخ لحروف اللغتين: “كانت الكلمات ملتصقة ببعضها البعض، من دون أن أنجح بفضّ الاشتباك بينها حتى أخرج بشيء من معانيها”. ما أعمق وأبعد دلالات كلام أور هذا فهو يختصر تاريخًا من الصراعات والتعقيدات التي عاشها! وفي الفصل الثالث هناك تكثيف للرموز والصور التي تسبّبُها البوست تراوما والتي تركّز على التقاء وتشابك اللغتين: العربيّة والعبريّة! وهذه الحالة تتأرجح بين الهذيان والإدراك وبين الخيال والواقع! وهذا الوضع يتخاطب ويتناظر ويتكاتب مع قضية الخلط بين الخاص والعام الذي بحثه مع طبيبته عندما سألتْه عن حالات نبذ وإقصاء في طفولته، (ص100-101)، فقال: “إنّ جرحي الصغير هو جرح الأمّة الكبير”. يتحوّل حديثُهُ مع الطبيبة إلى تحليل لذوبان الفرد بالمجموع وفقدانه ذاته، فقدانه هويّته كفرد، وبهذا هو يحاول أن يفهم انفصام الشخصيّة الذي تحدّثت عنه الطبيبة، ويقول: “ماذا يعني هذا؟ هل هذا الدمج بين الخاص والعام انفصام؟ إذن كلّنا نعاني من انفصام الشخصيّة”. تحليله هذا يشير إلى عقليّة القطيع التي تقع فيها كلّ عقائديّة يتبنّاها شعب أو قوميّة! ولكنَّ طبيبته تفسّر ذلك (ص101): “أنت أشكنازي ومحامٍ فاشل وأحمق يسعى لتعلُّم اللغة العربيّة من لدن معلّمة تدسّ سمّها في عسل لغتها، عبري يحلم بالعربيّة، ألا يكفيك هذا؟!”. كتب أور في يوميّاته أيضًا عن الضحيّة والجلّاد وحواره مع الطبيبة عن ذلك، وكتب على لسان طبيبته: (ص102) “القضيّة أنّ اليهودي يرى في الفلسطيني ذاته، يرى الضحيّة. يرى تاريخ الاضطهاد والمنبوذيّة، الذي مورس بحقِّهِ. يرى الانكسار. وعندما يخشى من الفلسطيني، فإنّه بالحقيقة يخشى من نفسه، ولهذا فهو يسعى نحو التخلّص من مرآته، من الفلسطيني”. كل هذا الحوار كان وهو، في حلم، تخيّل أنّه في وضع جنسي مع طبيبته حين كان هائجّا وهي لم تتفاعل معه وفي النهاية شتمته عندما لفظ اسم أيالا (بدل اسمها) وقالت: “من أيالا يا ابن الزانية!؟”.
هذا المشهد كان خليطًا هجينًا بين الخيال والواقع، بين الفلسفة المتخيّلة والممارسة الواقعيّة، بين البساطة والتعقيد، ووصل به الأمر إلى المقارنة بين أور الحقيقي وأور المنتَحَل، بين الكابوس واليقظة وبين أيالا والطبيبة حتّى أنّه، أي أور الحقيقي، ضاع في كلّ هذا المزيج الغريب وضاع القارئ معه! ومن ثمّ هرَبَ إلى معلّمة العربيّة مريم، وأخذ يهذي ويخلط بين معسكرات الإبادة الجماعيّة وبين ما يعيشه الآن: (ص104-105) “كما أرى الأمر اليوم أنا كنتُ AVATAR جدّتي!”. في هذا الفصل ترد مشاهد كثيرة من الانفصام والبوست تراوما، مشاهد اخذت الرواية معها إلى حالة تشبه تعقيدة خيوط كرة الصوف عندما تتدحرج على الأرض دون توقُّف! فضاع أور وضعنا معه... (ص108): “اللعنة! لستُ متأكّدًا الآن من أيّ شيء. خيال واقع. واقع خيال. أيالا! من أيالا؟ هل هي حقيقة بالفعل؟ ألا لعنة السماء عليّ لأنّني طردتُها بكلّ ما أوتيت من غضب وذعر ومارشميللو؟”.
كلّ هذه الفوضى في الخيال وفي الواقع وفي الماضي وفي الحاضر تركّز على أوضاع الاضطراب وفقدان التوازن التي تبرزها الرواية في نفوس وواقع وخيال وماضي وحاضر كلّ شخصيّاتها وكلّ التشعُّبات التي يعيشونها!، كلّ هذا النقاش السفسطائي بين أور ومريم يدخل في مسالك فلسفيّة وجوديّة: “الذاكرة هويّة والهويّة قوميّة والقوميّة تمنح الشرعيّة” فأجابته مريم: “بل تمنحك شرعيّة قتلي وإقصائي من قوْميّتك”، وربط أور هذا النقاش بالقوّة والقذائف الحارقة والاقتحامات التي عاشها كجندي. احتدم النقاش بهذه الحدّة بعد أن قالت له مريم: “أبحثُ (في مشروع الماستر) عن معلومات تتعلّق بالناجين من المحرقة، من الذين انخرطوا بالعصابات الصهيونيّة إبّان نكبة 1948”. هذه المعلومة عن بحث مريم زادته تعقيدًا واضطرابًا (مثل كلّ المعلومات التي تلقّاها من مريم)، قال: “لم أكن أدرك حينذاك أنّ حفيد الناجين من المحرقة، في داخلي، هو من كان يدفعني نحو معارك الدفاع عن حقّنا بالوجود في أرض لنا”، وقد شرح هذه الفكرة وفلسفها وشرحها بتوسّع.
«طفلة القبو” ترافقه أينما حلّ وتأخذ مكانًا دائمًا في الرواية، ففي ص128 كان جالسًا مع دوريت صاحبته السابقة تحت شجرة من أحراش جفعات شاؤول، فاهتزّ جذع الشجرة بعنف بعد أن تحدّثا عن الأقنعة، فهتفت منشدة: “ الأقنعة للموجوعين ... الأقنعة للمنبوذين ... الأقنعة للتائهين”. عندما أراد طردها انتقلت إلى أعلى شجرة أخرى وتحدّتْه.
نهاية الفصل الرابع، استمرّ أور بالخلط بين الخيال والواقع مكوّنًا مساحة كبيرة كان يبحث فيها عن ذاته بكلّ السبل حتّى ظهرت له “طفلة القبو”، وهذه المرّة على سطح القمر.
اعتقد أور في هذه المرحلة أنّه لا يعاني من البوست تراوما بل يعاني من الأقنعة، (ص150)، ووصل به الوضع إلى الحوار مع المرآة، وفي المرآة أيضًا ظهرت له “طفلة القبو” وأثارت أعصابه فحطَّمَ المرآة بضربة من رأسه (ص154). في كل هذه الفترة كان يبحث عن أور الذي انتحله في مكتب شركة الآثار الذي عمل فيه. طُرد أور من المكتب وظلّ يلاحق الموضوع حتى كشفوا له عن أنّ شخصًا عمل معهم كان يُلقِّب نفسه أور شابيرا ولكنّه في الحقيقة يُدعى نور الشهدي. وهنا التحمت هذه الرواية مع رواية “قناع بلون السماء”.
في الفصل الخامس والأخير، بعد أن يعثر أور على نور الشهدي، افتراضيًّا، يبدأ أور بحديث وحوارات معه. أحيانًا يحكي معه من منطلق القوّة وأحيانًا أخرى يقول: “أنا أنت لا أقلّ ولا أكثر”، ثمّ يعود فيقول: “بإمكاني تحطيمك وسحقك عبر التسبُّب بإلقاء القبض عليك وجعلك تشارك صديقك المخرِّب الآخر زنزانة قذرة داخل أحد سجوننا”. يعتبر أور نفسه يلعب مع نور، كما لعب معه نور وانتحل اسمه، ثمّ يقول أور لنور: “أنت مثقّف إذن ولست لصّ آثار وحفّار قبور قديمة”.
هذا التأرجح بين الإعجاب والانتقام ينتج عن قراءة أور لما يكتبه نور ويقارن مع ما تربّى عليه في عائلته وفي الجيش، ومع ذلك أعجبه اقتراح نور لإنشاء تطبيق تحرير الوطن افتراضيًّا، وقد سمّى التطبيق “حرّر وطنك”.
وسأل أور نور عن معلّمته للغة العربيّة، ويقول: “ألا تعرفها، إنّها عربيّة من جماعتك”. ثمَّ يعود أور مرّة أخرى ليحدِّث نور عن نفسه، ويبرّر ذلك قائلًا: “أنت منّي وأنا منك، أليس كذلك؟ ما الضير بإدخالك إلى عالمي الجوّاني؟! (ص180)، دعنا لا نتشاجر على التاريخ والهويّات والأسماء والرموز.. أنت أحَلْتني إلى قناعك الأزرق والأبيض”. (ص183-184).
في البودكاست الثالث يتحدّث نور عن الكائن الكولونيالي: مخلوق بدون ملامح، ينظر في المرآة ويرى كائنًا آخر بدون ملامح. المرآة صنعها الكائن الكولونيالي المسيطر وليس الكائن الكولونيالي الخاضع. وبدأ يحكي ويحلّل وضعه بمقياس: إيجابي – سلبي، مسيطر – خاضع، وقال: “إنّ الكائن المسيطر حدّد صورتي، ككائن خاضع، بالطريقة التي يريد: إرهابي، متخلّف، عصبي...
كلّ الفلسطينيّة صاروا كائنات كولونياليّة خاضعة.” الكائن المسيطر لديه شيفرا مزدوجة: مخرّب← قمع وتحييد، حركة←إقصاء... وهكذا الشيفرا المزدوجة تعمل على الدلالة على الكائنين بشكل مشوّه: الجندي لا اسم له ولا ملامح... المخرّب لا اسم له ولا ملامح..
وهكذا يسمّيان بعضهما البعض: مخمّد-أخمد-مخمود، وموشي-شلومو-كوهن. ولكنّ الطبيبة قالت ان ملامح أور أشرقت في الآونة الأخيرة (بعد تعرُّفه على نور) ولذلك صار أور يتخيّل أنّه يأخذ نور معه إلى عيادة الطبيبة ويخبّئه وراء الأريكة، وبعدها، ازداد تفاعله مع هداس واقترح عليها أن يكتب رواية قائلًا: “الرواية قد تكون في بعض الأحيان المثوى الأخير لكلّ ما نخشاه ونعاني منه”.
يقول أور: “عثرْت أخيرًا على نقطة التعيين النهائيّة، نقطة الخلاص”...”أنت نقطة التعيين يا نور”. من المثير للانتباه أن نور يكتب باللغة المحكيّة وأور يكتب باللغة المعياريّة. وهذا يشير إلى تعلّم أور للعربيّة على أصولها. ص194 كتب نور عن وجوب تغيير البنية الكولونياليّة إلى بنية كوْنيّة تتّسع لكلّ الناس. أور يبحث في كتاب نور، ويقول: “عليّ أن أكتب...أن أغنّي... أن أصلح العطب الذي أصابني”.
وممّا ورد في كتاب نور: “أنظر نحو العالم الذي أُقصيت منه، لا لأصوّر المشهد بل لأبحث عن ذاتي فيه، عن أناي الإنسانيّة. أنظر محدّقًا (نحو عالم الكولونيالي المسيطر) ليس بتلك التحديقة ذات النظرة الحلم المتسلّلة، والهادفة لأن تصير الآخر، إذ أحدّق بالآخر من دون أن يراني، لا لأصيره، بل لأتحرّر منه ويتحرّر منّي”! وفي مدوّنته الصوتيّة، قال نور: “هادي هي الميتافيزيقيّة الغربيّة...ازدواجيّة معايير أخلاقيّة...باختصار، احنا منعاني من السكيزوفرينيا الأخلاقيّة الغربيّة”.
هذا التحليل الفلسفي العميق يؤدّي بأور إلى استنتاجه: “ليس ثمّة تضامن يا نور، فإمّا تتّحد بي وإمّا أتّحد بك، أو نبحث معًا عن اتحادٍ ما، يقينا شرور الأقنعة والأفاتارات والمحارق والنكبات، وهذا ما أجده نمطًا من أنماط التسوية العادلة في لقاءاتي مع مريم.” أور شابيرا يحكي كل ما يمكن أن يحكيه أشكنازي صهيوني عن (الكيان الصهيوني) كوطن له وعن الجيش وعن كل ما يختلجه عن الفلسطيني ومريم تجيبه بالمثل.
هذا الحوار المحتدم أصبح شرعيًّا في الرواية، وفي كثير من الأحيان، طبيعيًّا. وفي هذا الأفق تشكّل الرواية امتدادًا لوعي ذاتي واقعي فرداني إنساني برز عند محمود درويش في سياق تواجده داخل حصار رام الله عندما كان يسكنها، قال درويش في قصيدة “حالة حصار”: “أيها الواقفون على العتبات، أدخلوا/واشربوا معنا القهوة العربيّة/قد تشعرون بأنّكم بشرٌ مثلنا/ أيها الواقفون على عتبات البيوت/أُخرُجوا من صباحاتِنا /لكي نطمئنَّ أنّنا بشرٌ مثلكم.”
وعظمة هذا الفكر أنّه أنسن العدوّ، أنسن الآخر ولم يشيطنه! وكذلك عارف الحسيني في رواية “ نُصّ أشكنازي” حيث سمعنا صوت المستوطن متمثِّلًا بحديث الزوجين رونيت وتسفيكا الذي يحكي لسانُهُ عن المستوطنين كلّ الحكاية بكل ما فيها من معتقدات تمثّلهم.
 في ص190 ذكر أور حادث اغتصاب الطفلة البدويّة. كذلك كان هذا الحادث قد ذكر سابقًا أيضًا مذيّلًا بالمصدر العبري (مقال أفيف ليفي في هآرتس 28/10/2006)، وهذا الحادث ورد في سياق طبيعي من قراءاته خلال تعلّم اللغة العربيّة مع مريم، ولكنّ الشرح المطوّل عنها وتحليلها بإسهاب ص122-126 يسرق من وهجها وتأثيرها في الرواية كرواية، حيث تحوّل مسارها فعرّجَتْ على كتب التاريخ، وهذا ما حدث في الشرح المطوّل عن ضمير الغائب (ألا يكفي أن ضمير الغائب يذكّر القرّاء بنهج “حاضر غائب”؟).
وهذا تكرّر أيضًا في تكثيف الكتابة عن تاريخ دير ياسين والقرى المهجّرة الأخرى. في الأدب، حدّة الإشارة إلى الحدث تجعلك تعيشه مرّة أخرى وتربطه بالواقع، ولكن عندما نقرأ كتاب تاريخ لا ننسى أنّ الحدث كان قبل عقود.
أعتقد أنّه تكفي الإشارة فقط، إلى الحدث، وتذييل المصدر يشكّل إمكانيّة أمام القارئ للرجوع أو عدم الرجوع إليه.
تتحدّى هذه الرواية كلّ الأنماط المتعارف عليها في الرواية الفلسطينيّة وتنحى منحى مغايرًا للحديث عن الفلسطيني. فهْم أور لما فهِم من مريم ونور هو أمرٌ يتعدّى السرد العادي، إنّه خوْض في “العالم الجوّاني” للطرفين وخلْق فلسفة عميقة تحوّل الطرفين إلى إنسانين مكبّلين بنظرة كلٍّ منهما للآخر، رواية سادن المحرقة أزالت كلّ الأقنعة عن الطرفين وجعلَتْهما يلتقيان كإنسانين تدور بينهما مناظرات جدليّة ترفع من شأن المسيطِر والخاضع وتوحّد بينهما في الجوهر الإنساني، وتطرح جانبًا، بالسخرية أحيانًا، وبالجدل المنطقي أحيانًا أخرى، كلّ مظاهر شيطنة الآخر ومصطلحاتها وتضع المشاعر الإنسانيّة فوق كلّ البِدَع والأمراض الايديولوجيّة!
هنيئٍا لنا بهذا الإنسان الكاتب الشاعر المبدع باسم خندقجي. لك الحريّة والحياة

الحلقة الثانية

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19797

العدد 19797

الأحد 15 جوان 2025
العدد 19796

العدد 19796

السبت 14 جوان 2025
العدد 19795

العدد 19795

الخميس 12 جوان 2025
العدد 19794

العدد 19794

الأربعاء 11 جوان 2025