يُقدم فلاديمير كريزينسكي في مقال “باختين ومسألة الأيديولوجيا” قراءة نقدية دقيقة ومُحكمة لتناول ميخائيل باختين لمفهوم الأيديولوجيا، متتبعًا مسار هذا المفهوم في أعماله، ومُسلطًا الضوء على التطوّرات والتناقضات التي تشوبه. ويُشير إلى أن سعي باختين لتأسيس “علم للأيديولوجيات” قد انتهى به المطاف إلى الوقوع في فخ “إغراء أيديولوجي شامل”، وهو ما أفضى إلى نوع من “تأليه الأيديولوجيا” طغى على منهجه النقدي الأصيل.
يستهل كريزينسكي تحليله بتحديد الأهمية المحورية للكلمة في فكر باختين، واصفًا إياه بـ«المتتبع العظيم للكلمة البشرية”. فالكلمة، في منظور باختين، لا تتجسّد كأداة تواصل سلبية، بل ككيان ديناميكي، يحمل في طيّاته تناقضات جوهرية، فهو “طارد ومركز في آن واحد”. هذه الديناميكية لا تقتصر على مستوى الكلمة الفردية فحسب، بل تتجلى في الطبيعة الحوارية المتأصلة للذات البشرية، فالذات، حتى في سكونها، تظلّ “تحاور الآخر باستمرار”، مما يؤكد أن الوجود الإنساني يتشكل ويتحدّد ضمن شبكة معقدّة من التفاعلات الخطابية مع العالم الخارجي.
غير أن كريزينسكي يُشير إلى مفارقة تكمن في هذه الرؤية: فبالرغم من الطبيعة الحوارية، يرى باختين أن الذات المتكلمة هي “مركز وهمي غير متوازن بسبب اللّغة، في مواجهة هروب وعودة كلمتها، التي لا تخصّها”.. هذا يعني أن الكلمة، بمجرد تلفظها، تُفلت من سيطرة منتجها وتندمج في المجال الاجتماعي الأوسع، لتُصبح ملكًا للمجتمع..
«الجوهر الخطابي” - كما يُشير كريزينسكي - “خاص وعام على حدّ سواء”، يخضع للتشكل والتشتت “وفقًا لضغوط المجتمع”. وسعيًا لتأطير هذه التعقيدات نظريًا، اتجه باختين نحو تحويل “نظريته اللّغوية الماوراء لغوية إلى علم للأيديولوجيات”، أو بتعبير أدّق، إلى “سيميائية للأيديولوجيا”، بهدف تحليل كيفية بناء المعاني الأيديولوجية من خلال العلامات اللّغوية والتفاعلات الخطابية.
التحوّل الأيديولوجي في فكر باختين
يُشكل الانتقال من المفهوم الحواري للكلمة إلى مفهوم الأيديولوجيا، نقطة تحوّل محورية في نقد كريزينسكي، فهو يرى أن سعي باختين “يصطدم بعقبات أيديولوجية” داخلية وخارجية؛ لهذا يُجادل بأن باختين نفسه لم يكن بمنأى عن “تأليه معين للأيديولوجيا”، وأن هذه “النزعة الأيديولوجية الشاملة” قد ألقت بظلالها على منهجه النقدي الدقيق.
يُبرز كريزينسكي وجود “قرابة بين الذات الحوارية والذات الأيديولوجية” في فكر باختين، حيث “يتعايشان في حركة واحدة ومتواصلة للتواصل الاجتماعي”.. هذا التلازم الذي قد يبدو بديهيًا في سياق التفاعل الاجتماعي، يصبح إشكاليًا عندما يتجاوز حدود التوصيف ليُصبح فرضًا منهجيًا، فيُصبح: “من الحوار إلى الأيديولوجيا لا توجد سوى خطوة واحدة”.. هذه الخطوة، - بحسب كريزينسكي - “تم تجاوزها من خلال فولوشينوف وميدفيديف”، مما يُشير إلى أن تأثير هذين المفكرين قد أحدث تحولًا جذريًا في كيفية تناول باختين للأيديولوجيا، وربما قاد إلى بعض التبسيطات النظرية.
إشكالية الإسناد الفكري
يُكرس كريزينسكي جزءًا كبيرًا من تحليله لمناقشة الجدل حول التوقيعات المزدوجة لبعض الأعمال المنسوبة إلى باختين، وعلى رأسها “الماركسية وفلسفة اللّغة” و«المنهج الشكلي”.
يرفض كريزينسكي تبني القول الفصل بإرجاع هذه الأعمال بالكامل إلى باختين، ويستعير مقارنة بليغة من الأدب البرتغالي ليُوّضح تعقيد العلاقة: “فولوشينوف ليس لباختين ما هو ألفارو دي كامبوس لبيسوا” (في إشارة إلى تعدد شخصيات الشاعر فرناندو بيسوا). هذه الاستعارة تُشير إلى أن العلاقة بين باختين وفولوشينوف وميدفيديف ليست علاقة مؤلف واحد بأسماء مستعارة، بل هي تفاعل فكري أعمق، حيث كان فولوشينوف وميدفيديف “موجودين حقًا” و«شاركا في الأنشطة النقدية المستوحاة من باختين”.
ومع ذلك، يُبقي كريزينسكي “مشكلة التوقيعات المزدوجة مفتوحة”، ويُشير إلى أن “خيط فولوشينوف” الذي يُسمى أيضًا “الخيط الماركسي”، قد يكون هو الذي دفع باختين “ليقول ما يُنسب إليه”. هذه الفرضية النقدية ذات أهمية بالغة، فهي تُلقي بظلال من الشك على مدى أصالة بعض المفاهيم الماركسية المطروحة في الأعمال المنسوبة لباختين، وتُقدم تفسيرًا مقنعًا بأن الضغوط الأيديولوجية الخارجية في تلك الفترة قد لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل هذه النصوص، مما أثر على التوجه الفكري الظاهر فيها.
من التعقيد الفنّي إلى التبسيط الرسمي
تُشكل التناقضات في تناول باختين لمفهوم الأيديولوجيا عبر أعماله المختلفة جوهر النقد الذي يُقدّمه كريزينسكي. ففي حين أن باختين في “شعرية دوستويفسكي” يُقدم تحليلًا دقيقًا “للأفكار والأيديولوجيين” كعناصر عضوية وحيوية في بناء شخصيات دوستويفسكي، فإن الأيديولوجيا في “الماركسية وفلسفة اللّغة” وفي “المنهج الشكلي” تُصبح “فئة قوّية وحتى طاغية”، تُهيمن على السرد الفكري.. هذا التحوّل الصارخ يُثير تساؤلات جدية حول الاتساق الفكري في مسيرة باختين.
يُبرز كريزينسكي “اختلافًا كبيرًا” بين “الاعتبارات الدقيقة والحسّاسة حول ‘المحتوى القيمي للواقع المعيش” في أعمال باختين المبكّرة، مثل دراسته المتميّزة لعام 1924 بعنوان “مشكلة المحتوى، المادة والشكل في العمل الأدبي”، وبين الطريقة التي عولجت بها الأيديولوجيا “مسبقًا وأرثوذكسيًا” في “الماركسية وفلسفة اللّغة”. ففي الدراسة المبكّرة، يُنظر إلى الفن “كمشاركة في عملية تتم فيها تقييمات أخلاقية وجمالية للواقع”، مما يمنح الفن استقلالية نسبية عن الأيديولوجيا ويُظهر حساسية باختين الفنية العميقة.. على النقيض من ذلك، تُقدم الأيديولوجيا في العمل اللاّحق كـ«بنية فوقية غير مميّزة، جامدة وموحّدة، مظلة عقلية تحمي من الأفكار الفردية والنقدية للغاية”.
يتساءل كريزينسكي بلهجة استنكارية: “من يحتاج إلى مثل هذه الماركسية ومثل هذه الرؤية للأيديولوجيا؟” ويُجيب بوضوح: “هذا بالتأكيد ليس باختين”، في إشارة إلى أن هذه النظرة التبسيطية لا تتوافق مع الروح الحرّة والجدلية لفكر باختين الأصيل الذي يُعلي من شأن التعددية الصوتية والحوار.
السياق الأيديولوجي القسري
يُفسر كريزينسكي هذا التحوّل العميق والمثير للجدل في فكر باختين بالظروف التاريخية والسياسية القاسية التي سادت الاتحاد السوفييتي في عام 1929.
في تلك الفترة، كانت “أجهزة الدولة والحزب الأيديولوجية” تُمارس ضغوطًا هائلة، وتسعى إلى فرض “خطاب موحّد ومتجانس” لتعزيز سيطرتها المطلقة على الحياة الفكرية والاجتماعية.
في هذا السياق، يُلمح كريزينسكي إلى أن “النزعة الأيديولوجية الشاملة لباختين التي ساندت فولوشينوف أو ساندها هو” قد لا تكون نابعة من قناعة فكرية خالصة، بل كانت بمثابة “جزية رسمية وغريبة مدفوعة للأرثوذكسية الماركسية في ذلك الوقت”.
هذا الافتراض لا يُقلل من قيمة باختين، بل يُلقي الضوء على التحدّيات الوجودية والفكرية التي واجهها المثقفون في تلك الحقبة، مما أجبرهم، أو أجبر من كتب باسمهم، على التوافق مع الخط الأيديولوجي الرسمي لتجنب العواقب الوخيمة. ويُقدم هذا التحليل بُعدًا حاسمًا لفهم كيف يمكن للظروف الخارجية القسرية أن تُشكل الفكر الأكاديمي، حتى لو كان ذلك على حساب أصالة التفكير النقدي.
الأيديولوجيا.. بين تعريفين
يُعمق كريزينسكي نقده من خلال مقارنة مفهوم باختين للأيديولوجيا بـ«الوعي الزائف” الذي دافع عنه مفكرون ماركسيون غربيون بارزون مثل كارل كورش وجورج لوكاتش، فبالنسبة لكورش، الأيديولوجيا هي فقط “الوعي الزائف”، أي شكل مشوه من الوعي ينجم عن العلاقات الاجتماعية القائمة. هذا المفهوم النقدي، برأي كريزينسكي، “تخلى عنه بسرعة دعاة الأيديولوجيا الماركسية الرسمية، الأداة المفاهيمية الفعالة للدولة الشيوعية”.
يُشير كريزينسكي إلى أن “إضفاء الطابع الرسمي على الأيديولوجيا” في الاتحاد السوفيتي أدى إلى “ثنائية” و«مانوية” متباينة، حيث الأيديولوجيا الماركسية الرسمية تُقدم كرؤية صحيحة ووحيدة، بينما تُعتبر الأيديولوجيات الأخرى، مثل “الرأسمالية”، خاطئة ومضللة.
يُشدد كريزينسكي على أن ماركس وإنجلز نفسيهما “لم يفكرا أبدًا في وصف الوعي الاجتماعي والحياة الروحية بأنها أيديولوجيا خالصة”، بل اعتبرا الأيديولوجيا “الوعي الزائف” في المقام الأول، كإطار فكري يُخفي التناقضات الطبقية ويُديم الوضع الراهن. وعلى النقيض من هذه الرؤية النقدية، فإن “الوعي الاجتماعي والحياة الروحية” في “الماركسية” لباختين-فولوشينوف “يُفترض أنهما كيانان أيديولوجيان بشكل أساسي”، مما يؤدي إلى “نزعة أيديولوجية شاملة” تُكرّس الأيديولوجيا بشكل مبالغ فيه وتجعلها مفهومًا شموليًا يُهيمن على جميع أشكال الوعي الإنساني. هذا التضخيم للأيديولوجيا، بحسب كريزينسكي، يُفقدها قدرتها على الشرح النقدي للواقع ويُحوّلها إلى دوغمائية غير قابلة للمراجعة.
تقييد الوعي الفردي في ظل الأيديولوجيا
يتناول كريزينسكي أيضًا تبعات مفهوم “الوعي الفردي” كما يُقدم في “الماركسية وفلسفة اللغة”، حيث يُصوّر هذا الوعي كـ«مستأجر” للبنية الفوقية الأيديولوجية، وليس “مهندسًا” لها أو صانعًا لها.
يرى كريزينسكي أن هذا التصور يُقلل بشكل كبير من الدور الإبداعي والتحويلي للوعي الفردي، ويُحوّل المبدع إلى “مجرد وسيط غير طوعي، أو بوق للأيديولوجيا”. فإذا كان الوعي الفردي مُجرد انعكاس للهياكل الأيديولوجية المهيمنة، فإن القدرة على التفكير النقدي المستقل، والإبداع الأصيل، والتمرد الفكري تُصبح محدودة للغاية، بل مُعدومة.
يُلاحظ كريزينسكي أن الأيديولوجيا في هذا العمل “لا تُعرّف بشكل صحيح”، بل تُقدم كـ«بنية فوقية تقع مباشرة فوق القاعدة الاقتصادية”، وهو ما يتعارض مع رؤية ماركس وإنجلز الأكثر تعقيدًا التي تتحدث عن “غرفة مظلمة” كاستعارة للوعي الزائف الذي يُشوّه الواقع. فبالنسبة لماركس وإنجلز، الأيديولوجيا هي “الوعي الزائف” الذي يُموه العلاقات الاجتماعية الحقيقية. أما لباختين في هذه الأعمال، تُصبح الأيديولوجيا “الموطن الاجتماعي للوعي حيث تستدعينا العلامات الأيديولوجية باستمرار”. هذا التبسيط والتحويل لمفهوم الأيديولوجيا، بحسب كريزينسكي، يُفقدها قدرتها على التحليل النقدي العميق للواقع الاجتماعي وتحدياته.
استعادة باختين “الحواري والمتعدّد الأصوات”
في ختام مقاله، يُقدم كريزينسكي استنتاجًا نقديًا حاسمًا، مؤكدًا أن “العمل الفني لا يمكن اعتباره أيديولوجيًا بالكامل، ولا حتى نتاجًا كاملاً للأيديولوجيا”. هذه الملاحظة تُعد بمثابة دعوة لتحرير الفن من الأسر الأيديولوجي المفرط الذي وجده في بعض أعمال باختين. ويُقدم توصية منهجية مفادها أن “الاستخدام الجيد لباختين الماركسي يمر عبر نسبية الأيديولوجيا كبنية فوقية”. هذا يعني أننا يجب أن نتعامل مع الأجزاء الماركسية في أعمال باختين بحذر، مع إدراك أن “جزء الماركسية” فيها يقتصر على “النزعة الأيديولوجية الشاملة” التي تفشل في التمييز بين أنواع الأيديولوجيا المختلفة، وتُبسط مفهومها إلى حد التطابق مع الدوغمائية.
يُشير كريزينسكي إلى أن هذا “الانسداد” أو “المتلازمة” في فكر باختين يعكس “الاحترام الواجب للأيديولوجيا الرسمية لمفهوم الأيديولوجيا” في السياق السوفيتي القمعي. وفي نهاية المطاف، يُوجه كريزينسكي دعوة قوّية إلى تجاوز هذا “الانسداد” والتركيز على “باختين الحواري والمتعدد الأصوات، باختين الكلمة الجدلية حقًا”. هذا هو باختين الذي يستحق الاهتمام والاحتفاء، والذي يظل “يواجه دائمًا اختبار الآخر” ويُقدّم رؤية أصيلة للغة والوعي تتجاوز القيود الأيديولوجية المفروضة، وتُبرز ديناميكية الكلمة البشرية في تفاعلها المستمر مع الواقع الاجتماعي المتغير. هذه الخاتمة ليست مجرد تلخيص، بل هي دعوة إلى قراءة نقدية مُتجدّدة لباختين، تُفصل بين أفكاره الجوهرية وتلك التي قد تكون تأثرت بضغوط الظروف الخارجية، وتُعيد الاعتبار لباختين كمفكر متعدّد الأصوات بامتياز.