الموت في فلسطـين محاصـر..مثل الحياة

الكيـان الصّهيوني يرتهـن جثامـين الفلسطينيـــّين

الدكتور حسن العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

ضغوط لاأخلاقيـة ولاإنسانيـة علــى أهــالي الشّهداء والمقاومــة الفلسطينيـّة

مئـات الجثامـين محتجـزة في ثلاجـات الموتــى والمقابــر سريـــة..أرقـام دون أسمــاء 

ضحايـا الإجــرام الصّهيــوني..لا كفن..لا قـبر ولا وداع

 ورث الكيان الصهيوني سياساته الاستعمارية من الانتداب البريطاني البغيض الذي مهّد الطريق أمام قيام دولة الاحتلال، فمنذ الإعلان عن نشأته، مارس الكيان الصهيوني سياسة السيطرة وإحكام القبضة على كافة مناحي الحياة في فلسطين، وشملت هذه السياسات البشر والشجر والحجر، عبر السجون واعتقال الآلاف من الفلسطينيين، وبناء جدار الفصل العنصري، وعبر الحواجز والبوابات، وأبراج المراقبة، والدوريات، ومصادرة الأراضي، والقتل، والإعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين، وهناك أساليب أخرى يتبعها الاحتلال للإمعان في ظلم الفلسطينيين، من ضمنها سياسة احتجاز جثامين الشهداء.


 يقوم الاحتلال الصهيوني بسرقة جثامين الشهداء، أو جثامين بعض الأسرى، والاحتفاظ بها لفترات متفاوتة في مقابر الأرقام، أو في ثلاجات الموتى، ومؤخراً في معسكر “سديه تيمان”. كما حصل - على سبيل المثال - عندما أقدمت سلطة السجون الصهيونية على احتجاز جثمان الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد، الذي توفي في السجن بسبب مرض السرطان، ورفض الكيان تسليم جثمانه.
ويهدف الاحتلال من خلف ذلك إلى حرمان العائلات الفلسطينية من حقها الإنساني في وداع أبنائها الشهداء، ودفنهم في المكان الذي تختاره، وحين يقوم الاحتلال الصهيوني بسرقة الجثامين واحتجازها، فإنه يحرم العائلات من حق التحقق والتأكد من استشهاد أبنائهم، ومنعهم من رؤية ومعاينة الجثامين. وهو بذلك يهدف إلى ممارسة الضغوط غير الأخلاقية وغير الإنسانية على أهالي الشهداء وعلى المقاومة الفلسطينية، وبذلك يعكس الرغبة الصهيونية في محاصرة الفلسطيني والسيطرة عليه حياً وميتاً، ويتّخذ من ذلك وسيلة لردع الفلسطينيين عن مقاومة الاحتلال.
ورغم أنّ هذه السياسة هي وسيلة لمعاقبة عائلات الشهداء، إلاّ إنها أيضاً سياسة استعمارية مركّبة تهدف إلى تحطيم النظم الاجتماعية والقيم الحياتية المرتبطة بالمجتمع، وعلاقته مع جثامين الشهداء وقدسيتها، فقد شهد تاريخ فلسطين النضالي مثل هذه الممارسات الشنيعة في عهد الاستعمار والانتداب البريطاني، الذي قام بإعدام الشهداء المناضلين محمد جمجوم، وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد، يوم 17 حزيران / يونيو 1930 في سجن القلعة بمدينة عكا، ودفنهم لاحقاً في مدينة عكا بعيداً عن مدنهم ومقابر عائلاتهم.
يحدّد القانون الدولي الإنساني خمس قواعد عرفية لمعاملة قتلى الحرب ورُفاتهم ومقابرهم تشمل: القاعدة 112 المتعلقة بالبحث عن الموتى وجمعهم، والقاعدة 113 التي تنص على حماية الموتى من السلب والتشويه، والقاعدة 114 المتعلقة بإعادة رفات الموتى وممتلكاتهم الشخصية، والقاعدة 115 بشأن التخلّص من الموتى، والقاعدة 116 بشأن تحديد هوية الموتى.
كما تؤكّد اتفاقيات جنيف الأولى لعام 1949 في المادة 17 على أهمية إجراء دفن لائق وكريم، وتنص على أنّه ينبغي على أطراف النزاع “ضمان الدفن الكريم للموتى، وإن أمكن وفقاً لطقوس الدين الذي ينتمون إليه، واحترام قبورهم، وتجميعها إن أمكن حسب الجنسية الوطنية، ثم صيانتها وتمييزها بحيث يمكن العثور عليها دائماً”. وتنص المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 34 من البروتوكول الإضافي على الالتزام بتسهيل إعادة جثث ورفات الموتى.

الشّهـداء المحتجـــزون

 يحتجز الاحتلال الصّهيوني حالياً جثامين 676 فلسطينياً في “مقابر الأرقام” وثلاجات، وفقًا للحملة الوطنية لاستعادة جثامين ضحايا الحرب الفلسطينيين، من بينها رفات 71 معتقلاً و60 طفلاً و9 نساء، و5 أشخاص من أراضي 1948، وستة أشخاص من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. منها 256 في المقابر المرقمة، بالإضافة إلى مئات الجثامين من قطاع غزة.
إنّ ما يُسمّى “مقابر الأرقام”، هي قبور بلا شواهد، محاطة بحجارة، تحمل كل منها لوحة معدنية تحمل رقماً بدلاً من اسم المتوفى، وتتوافق هذه الأرقام مع ملفات فردية تحتفظ بها أجهزة الأمن الصهيونية، ومنذ بدء العدوان الصهيوني في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، صعّد الاحتلال من احتجاز الجثامين، حيث يحتجز 149 جثة، وهذا العدد لا يشمل الشهداء المعتقلين من قطاع غزة.
كما احتجز الجيش الصهيوني جثامين نحو 200 شهيد فلسطيني قتلهم عام 2024، وهذه البيانات لا تشمل شهداء قطاع غزة، حيث يقدّر عدد المعتقلين من غزة لدى الاحتلال بالمئات، لكن لا يوجد بيان رسمي من الاحتلال حول العدد الفعلي لجثامين شهداء غزة المحتجزين حتى الآن. مع العلم أنّ بعض الجثامين تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. مع ذلك، لا تشمل البيانات الجثث المحتجزة في قطاع غزة لعدم توفر معلومات دقيقة، مع أنه تم توثيق إعادة 325 جثة من غزة من قِبل سلطات الاحتلال الصهيوني سابقاً.
إمعانــــاً في الانتقــــام مــــن الفلسطينيّــــــين
في سبتمبر / أيلول 2019، قضت المحكمة العليا الصهيونية بأنه يحق للقادة العسكريين احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، الذين قُتلوا على يد قوات الاحتلال الصهيوني مؤقتاً لاستخدامها “كأوراق مساومة” في مفاوضات مستقبلية، وذلك بموجب تشريع جديد سنّه الكنيست الصهيوني، والمُطبّق مباشرةً في القدس الشرقية المحتلة، إضافةً إلى ذلك، يُطبّق الكيان الصهيوني ممارسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة.
تجدر الإشارة إلى أنّ سلطات الاحتلال الصهيوني لديها تاريخ طويل من هذه الممارسات وممارسات مماثلة، بما في ذلك استخدام الاختفاء القسري و«مقابر الأرقام”، حيث يُدفن الفلسطينيون سرًا ليتم التعرف عليهم فقط، وإهانة إنسانيتهم، من خلال الأرقام، وهذا يرقى إلى ممارسة تمييزية للاختفاء القسري، ومعاملة قاسية ولاإنسانية للأسر المفجوعة، وعمل من أعمال العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين.
بموجب قرار تاريخي صدر عام 2017، قضت المحكمة العليا الصهيونية بأن الكيان “لم يشر إلى مصدر سلطة [قانونية] يسمح لها باحتجاز الجثث حتى يتم منح الموافقة على ترتيبات جنازة معينة” من قبل عائلات المتوفى، وأقرّت المحكمة بأنّ “هناك عدداً من الحقوق الأساسية على المحك، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية” التي تنطوي عليها عملية احتجاز الرفات، في حين أنّ المحكمة لاحظت الحق الأصيل في دفن لائق ومحترم، إلا أنّها ادّعت بشكل متناقض إلى حد ما أن الدولة قد تُشرّع صراحةً للسماح بانتهاك الحقوق الأساسية، ومع ذلك، أمرت المحكمة بإعادة الجثث في غضون 30 ساعة من صدور حكمها، مع إشعار عائلات المتوفين قبل ساعتين.
في أعقاب قرار المحكمة، أقرّت الحكومة الصهيونية بدعم من مختلف الأحزاب في الكنيست، قانون مكافحة الإرهاب (التعديل رقم 3. 2018)، والذي يسمح لقوات الاحتلال الصهيوني باحتجاز الجثث، في انتظار قبول عائلات الضحايا قسراً لقيود معينة على دفنهم.
ومن أبرز هذه القيود اشتراط أن تتم عمليات الدفن ليلاً فور إعادة الرفات، وهو ما أشار إليه الأقارب ممّا يجعل الدفن وفقاً للتقاليد وإجراء تشريح الجثة مستحيلاً، إلى جانب إقرار التعديل، طلب الكيان الصهيوني، وحصل على إذن، بتأخير إعادة رفات الفلسطينيين في انتظار جلسة استماع إضافية في ضوء التشريع الذي تمّ اعتماده. وكما أشارت منظمة عدالة وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإنّ المحكمة العليا الصّهيونية: “أصدرت قراراً يُمكّن الكيان الصهيوني من مواصلة انتهاكها للقانون الإنساني الدولي. يحظر القانون الدولي الإنساني على القوة المحتلة احتجاز الجثث واستخدامها كورقة مساومة. إضافةً إلى ذلك، يُؤخر قرار المحكمة العليا نقل الجثث للدفن، ممّا يُعطي الضوء الأخضر للانتهاك الجسيم لحق العائلات والمتوفين أنفسهم في دفن سريع ولائق”.
وبموجب القانون الإنساني الدولي العرفي، يجب على أطراف النزاع المسلح احترام الموتى، و«يجب التخلص منهم بطريقة محترمة”.  علاوة على ذلك، يجب إعادة رفات الموتى، كما هو موضح في اتفاقيات جنيف الأربع، إلى عائلاتهم. علاوةً على ذلك، تُعتبر ممارسة احتجاز الجثث بمثابة سياسة عقاب جماعي، وهو أمر محظور صراحةً بموجب المادة 50 من لوائح لاهاي، المادة 33. من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 75 (2) (د) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، وجميعها الكيان الصهيوني طرف فيها، أو يُعترف بأنها تُشكّل جزءًا من القانون الدولي العرفي.
كما لوحظ أنّ هذه الممارسة تتعارض مع حظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة. يستند القرار النهائي لمحكمة العدل العليا الصهيونية، الذي صدر بأغلبية الأصوات، إلى إنكار صارخ لأحكام القانون الدولي: ومن المفارقات أنّ القاضية “إستر هايوت” جادلت بأن “الاحتفاظ بالجثث ينطوي على انتهاك لحقوق الإنسان وكرامة المتوفى وعائلته”، بينما جادلت أيضاً بشكل غير مقنع إلى حد ما بأن “القانون الإنساني الدولي أو القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان الدولية لا تتضمن حظراً على حجب إعادة الجثث أثناء النزاع المسلح”. وعلى الرغم من اعتراف البعض بالانتهاك الواضح للقانون الدولي، إلا أنّ القاضي “باراك إيريز” من الأقلية أقام “تمييزاً غريباً وغير مبرر بين جثث الإرهابيين من غزة، والتي يسمح القانون الدولي للكيان الصهيوني بالاحتفاظ بها، وجثث الإرهابيين من الضفة الغربية أو المواطنين أو المقيمين الصهاينة”.
لذلك يبدو أنّ المحكمة غير معنية عمداً بالتزامات الكيان الصهيوني باحترام الموتى بموجب اتفاقيات لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، بالإضافة إلى القانون الدولي الإنساني العرفي وأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة، فيما يتعلق بالسكان الفلسطينيين.

شرعنـة الانتهاكـات الإنسانيــة

وفي عام 2024، أقرّ الكنيست الصّهيوني مشروع قانون يمنع إعادة جثامين الفلسطينيين إلى عائلاتهم،  حيث يهدف القانون إلى دفن الفلسطينيين المتهمين بهجمات في مقابر يسيطر عليها الكيان الصهيوني. ويُلزم القانون بدفنهم في “مقبرة ضحايا العدو” أو “مقبرة الأرقام” الصهيونية.
جاء هذا التشريع في خضمّ موجة من الإجراءات تستهدف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل حدود الكيان الصهيوني عام 1948، في ظلّ حكومة تُهيمن عليها أحزاب اليمين المتطرف.
ينص التشريع على أنّ “الأفراد الذين يموتون أثناء تنفيذ هجمات يُدفنون في مقابر مخصّصة للعدو داخل الأراضي المحتلة”. ويمنح رئيس الوزراء سلطة تقديرية لتسليم الجثمان لعائلة المتوفى في ظروف استثنائية. ويبرّر القانون نفسه بالادعاء بأنّ “جنازات الإرهابيين (في إشارة إلى منفذي العمليات) تُستخدم للتعبير عن دعم الإرهاب، حيث شهدت العديد من الحالات لافتات وهتافات وخطابات تحرض على المزيد من الأعمال الإرهابية”.
إنّ مقبرة ضحايا العدو هي مقبرة تابعة للجيش الصهيوني، مخصّصة لدفن جثث الأفراد المشاركين في العمليات المسلحة وجنود جيوش العدو، تضم مئات الجثث لفلسطينيين ومصريين وعرب آخرين قُتلوا على يد الجيش الصهيوني على مدى عقود، ولم تُكشف رفاتهم عن عائلاتهم لأسباب سياسية. تُرقم القبور بدلاً من أسماء المدفونين، بينما يحتفظ الكيان الصهيوني بمعلومات عن هوياتهم، وفقًا لمصادر حقوقية.

مقابـر الأرقـــام

ما يُسمّى “مقابر الأرقام” هي قبور بلا شواهد، مُحاطة بحجارة، يحمل كل منها لوحة معدنية تحمل رقمًا بدلًا من اسم المتوفى. تتوافق هذه الأرقام مع ملفات فردية تحتفظ بها سلطات الأمن الصهيونية.
إنّ الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية هم أسرى حرب، ممّا يستلزم الإفراج الفوري عن جثثهم. وفي هذا الصدد، تؤكّد المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في زمن الحرب، على أنّ “على السلطات الحاجزة ضمان دفن أسرى الحرب الذين قضوا في الأسر باحترام، وإذا أمكن وفقًا لشعائر دينهم، وأن تُحترم قبورهم وتُصان وتُعلّم بشكل مناسب بحيث يسهل العثور عليها في أي وقت”.
وفي السياق نفسه، تعتبر لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب احتجاز الشهداء شكلاً من أشكال التعذيب والمعاملة القاسية. كما ينبغي اعتباره شكلاً من أشكال العقاب الجماعي. وناقش عادل التدابير الدولية التي يمكن اتخاذها بشأن هذه القضية، مثل تقديم طلبات امتثال فردية إلى لجنة مناهضة التعذيب، والمحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال الولاية القضائية العالمية، بالإضافة إلى السعي إلى إصدار قرار في مجلس الأمن، حيث سيكون من المقلق أن تستخدم الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى حقها في عرقلة قرار يطالب بإعادة جثامين الشهداء، والضغط من أجل التحقيق في مزاعم الاتجار بالبشر والسرقة بشكل انتهازي.

لا نهايــة لمأســــاة العائــــلات الفلسطينيّـــــة

أسرد لكم - على سبيل المثال - حكاية الشابين الفلسطينيين يوسف أبو جزر، وإسحاق إشتيوي، يبلغ كل منهما خمسة عشر عاماً واللذان صادرت القوات الصهيونية جثمانهما.

عائلــة أبو جــزر

في 29 أبريل / نيسان 2018، انطلق “يوسف أبو جزر” و«أنيس الشاعر” البالغان من العمر 15 عامًا، نحو السياج الحدودي الفاصل بين غزة والكيان الصهيوني، الواقع شرق حي النهضة في رفح، جنوب قطاع غزة. على أمل زيارة عمته التي تسكن على الجانب الآخر من السياج الحدودي داخل الأراضي المحتلة، أراد يوسف التسلل عبر السياج، وفقًا لأنيس.
يُعدّ السياج الصهيوني المُجهّز بالأسلحة المحيط بقطاع غزة الحاجز الرئيسي الذي تستخدمه القوات الصهيونية لفرض إغلاق عسكري على القطاع منذ عام 2007. وتُعتبر سياسة الإغلاق الصهيونية بمثابة عقاب جماعي بموجب القانون الإنساني الدولي. في حين يحتل الكيان الصهيوني قطاع غزة لأنها تُحافظ على “سيطرتها الفعلية” على حدوده، وساحله، ومجاله الجوي، واقتصاده، واتصالاته، وإمدادات الطاقة فيه، وشبكات المياه والصرف الصحي.
تتجاهل السلطات الصهيونية بشكل روتيني التزاماتها بموجب القانون الدولي تجاه السكان الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال.
ومن المعلوم، يعيش ما يقرب من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وبسبب سياسة الإغلاق الصهيونية، نادراً ما يتمكنون من المغادرة إلا في حالات استثنائية، مثل حصول الفرد على إحالة طبية غير متوقعة لتلقي العلاج الطبي في مستشفى صهيوني.
بدأ جنود الاحتلال الصهيوني بإطلاق النار على يوسف لحظة عبوره السياج، وفقاً للمعلومات التي جمعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال. قال أنيس: “كنت مختبئًا على مسافة قريبة، وكنت مرعوباً. عرفت أن يوسف مصاب برصاصة في ساقه؛ لأنني سمعته يصرخ..كان صراخه وصوت إطلاق النار والقنابل المضيئة مرعبين”.
أخبر أبو جزر الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال أنه كان يعلم أن ابنه يوسف كان مع أصدقائه في 29 أبريل / نيسان، وعلم لاحقاً - في اليوم نفسه - أنهم على الأرجح بالقرب من السياج الحدودي مع غزة.
احتجزت القوات الصهيونية أنيس، لذلك لم يتمكّن من إبلاغ عائلة يوسف بما حدث، وبحثت عائلة يوسف عن أي أخبار عن ابنها، لكنها لم تعرف ما إذا كان ميتاً أم حياً. بدأوا بالتواصل مع وكالات الأنباء والمسؤولين الحكوميين ومنظمي مسيرات العودة الكبرى، وطلبوا من أقاربهم المقيمين في الكيان الصهيوني الاستفسار عن مكان يوسف وحالته في المستشفيات الصهيونية.
يقول ياسر، والد يوسف، للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، متذكراً تلك الليلة الأولى التي لم يعد فيها يوسف إلى المنزل: “لقد كانت ليلة صعبة لن أنساها طوال حياتي. لم تكن هناك أي أخبار عن يوسف. كانت تلك الليلة طويلة جداً. كنت مستيقظاً طوال الوقت، في انتظار أي أخبار عنه”.
ويضيف والد يوسف: “أتخيل يوسف واقفًا أمامي يومياً. لا أستطيع نسيانه. لو دفناه لانتهى الأمر، ولكن مصيره مجهول، إنه لأمر مؤلم، ولكنه يمنحنا أيضاً الأمل بأنه لا يزال على قيد الحياة”.
ولا يزال أبو جزر للآن ينتظر من السلطات الصهيونية إعادة رفات ابنه، عقب حادثة عام 2018 التي أطلقت فيها القوات الصهيونية النار على يوسف أبو جزر، البالغ من العمر آنذاك خمسة عشر عاماً، مما أدى إلى مقتله.
عائلة أبو جزر هي واحدة من عدة عائلات فلسطينية اضطرت، وسط حزنها، إلى النضال من أجل حقها في توديع ودفن طفلها.

عائلــة إشتيـوي

أدّى انكماش الموارد في قطاع غزة المحاصر إلى أزمة بطالة، حيث تكافح العديد من العائلات لتلبية احتياجاتها اليومية. في عام 2019، أفاد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن معدل البطالة في قطاع غزة بلغ 45.1 %، وهو ما يزيد عن ثلاثة أضعاف معدل البطالة في الضفة الغربية البالغ 13.7 %.
حاول الطفل الفلسطيني إسحاق إشتيوي، البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، واثنان من أصدقائه التسلل عبر سياج غزة الحدودي مع الكيان الصهيوني، شرق رفح، بحثاً عن عمل داخل الكيان في 3 مارس / آذار 2019، حوالي الساعة الثامنة مساءً، أطلق جنود الاحتلال الصهيوني النار على إسحاق، فأصابوه في ذراعه اليمنى وبطنه، وفقاً لمعلومات جمعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال.
وكانت وكالات الأنباء قد نشرت تقارير عن مقتل ثلاثة فلسطينيين مجهولين على يد قوات الاحتلال الصهيوني بعد أن عبروا السياج الحدودي. تواصلت عائلة إسحاق مع العديد من منظمات حقوق الإنسان واللجنة الدولية للصليب الأحمر في محاولة للحصول على أي معلومات عن ابنهم. بعد أربعة أيام، وبعد اتصالهم بأحد أقاربهم العاملين في مكتب الارتباط المدني الفلسطيني، تلقى والدا إسحاق تأكيداً بمقتل ابنهما..لم يتلقيا أي معلومات إضافية، مثل وقت وفاته، أو ما إذا كانا سيستلمان جثته ومتى.
بعد وفاة إسحاق بفترة وجيزة، قدّم والده، عبد المعطي إشتيوي، بمساعدة مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، التماساً إلى النيابة العسكرية الصهيونية مطالباً بالإفراج عن رفات ابنه. بعد أربعة أشهر، في يوليو / تموز 2019، أُبلغ إشتيوي بإمكانية استلام جثمان ابنه من معبر إيرز الصهيوني. وأُبلغ بأنه سيُزوَّد بتقرير طبي مكتوب باللغة العبرية.
قال إشتيوي للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال: “كان كتلة من الثلج”، متذكّرًا لحظة رؤيته جثة ابنه البالغ من العمر 15 عاماً هامدة. “كان في كيس أسود بسحاب، وغطاه 15 سم (6 بوصات) من الثلج. عندما انحنيت لأقبله، شعرت وكأنني أقبل كتلة من الثلج”.

حتــى في الموت يُحرم الفلسطينيّـون مـن حقوقهـم

تطبّق السلطات الصهيونية سياسة احتجاز جثث الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. في عام 2019، قضت المحكمة العليا الصهيونية بأن للجيش الحق القانوني في احتجاز جثث الفلسطينيين لاستخدامها كوسيلة ضغط في المفاوضات المستقبلية مع الفلسطينيين، وفقاً لمركز عدالة.
يُرسّخ هذا القرار تعديل الكنيست الصهيوني لعام 2018 لقانون مكافحة الإرهاب رقم 5776، والذي يمنح الشرطة الصهيونية سلطة احتجاز جثث الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد الجيش أو الشرطة الصهيونية. ويُلغي القرار حكماً تاريخياً أصدرته المحكمة العليا عام 2017، والذي اعترف بحق العائلات في الدفن، مُشيراً إلى أن وقف إعادة الجثث يُهدد بانتهاك عدد من الحقوق، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية.
يُخوّل تعديل قانون مكافحة الإرهاب الصهيوني لعام 2018 قادة المناطق في الشرطة الوطنية الصهيونية بوضع شروطٍ للإفراج عن جثث الفلسطينيين المحتجزة، بما في ذلك وضع قيود على حجم الجثث وموقعها وتوقيتها وعدد الحضور في مراسم الدفن، ويمكن احتجاز الجثمان حتى توافق العائلة على الشروط. كما قد يُطلب من العائلات إيداع مبلغ مالي لدى السلطات الصهيونية كضمانٍ لاستيفاء العائلة لأي شروط.
يمكن للسلطات الصهيونية أن تطلب من العائلات استلام الجثمان المحتجز فقط في الصباح الباكر أو في وقتٍ متأخر من الليل. وتشمل الإجراءات “الاحترازية” التي اتخذتها السلطات الصهيونية تقييد عدد الأشخاص الحاضرين في مراسم الدفن، في محاولةٍ مزعومة للحد من الاحتجاجات المحتملة التي قد تنشأ عن الفلسطينيين عقب الجنازة.
من أخطر الشروط التي فرضتها السلطات الصهيونية عدم تشريح رفات الضحايا. وحتى في غياب هذا الشرط، تحتجز السلطات الصهيونية جثث الفلسطينيين المصادرة في ظروف شديدة البرودة لأشهر، ممّا يُسيء إلى حالتها، ويُصعّب على الفاحصين الطبيين التحقيق في أسباب الوفاة.
يُعيق هذا الشرط إجراء تحقيقات قائمة على الأدلة في عمليات القتل غير المشروع والاستخدام المفرط للقوة ضد الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الصهيونية.
في عام 2019، قدّمت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال تقريراً مشتركاً إلى لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن احتجاجات عام 2018 في الأرض الفلسطينية المحتلة، يُفصّل فيه قتل القوات الصهيونية للأطفال الفلسطينيين خلال احتجاجات عام 2018 في قطاع غزة، وهو سلوكٌ ارتقى في بعض الحوادث إلى جرائم حرب. وخلص التقرير إلى أنه في الغالبية العظمى من الحالات، قتلت القوات الصهيونية أطفالاً لم يُشكّلوا أي تهديد وشيك بالموت أو الإصابة.

جرائـم ضــد الإنسانيــة

بالنسبة للعائلات الفلسطينية المقيمة في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، تُفرض عليها شروطٌ إداريةٌ لا قضائية. هذا يعني أنه لا يوجد سبيلٌ حقيقيٌّ للطعن في الشروط المفروضة على إطلاق سراح أحبائهم، علاوةً على ذلك، تراجعت السلطات الصهوينية أحياناً عن الاتفاقات المبرمة مع العائلات لتسليم جثمان أحد أحبائها، وفقًا لمركز عدالة.
منذ عام 2018 وثّقت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال خمس حالات صادرت فيها السلطات الصهيونية جثث أطفال واحتجزتها عن عائلاتهم. في حالتين، أُفرج عن الرفات البشرية في نهاية المطاف، ولكن في الحالات الثلاث الأخرى، لا تزال الجثث في عهدة الكيان الصهيوني، محجوبة عن العائلات.
قُتل يوسف وإسحاق أثناء محاولتهما الهروب من منزليهما المحاصرين في قطاع غزة. في الموت، كما في الحياة، حُرموا من الكرامة الأساسية وحقوق الإنسان الأساسية التي يستحقها جميع الأشخاص بموجب القانون الدولي.
بالنسبة للعائلات الثكلى، تُعتبر السياسة الصهيونية المتمثلة في مصادرة واحتجاز جثامين الفلسطينيين بمثابة عقابٍ جماعي. إنّها سياسةٌ تمييزيةٌ وضارةٌ للغاية تُفرض على الفلسطينيين، ولا تنتهك حقوق العائلات في دفن رفات أحبائها فحسب، بل تنتهك أيضاً الحقوق الشرعية والدينية للمتوفى في دفنهم وفقاً لطقوسهم الثقافية والدينية.
لقد أصبح الموت ساحة أخرى للصراع والقهر ومحاولة السيطرة، يستخدمه الكيان الصهيوني وسيلةً للضغط، والعقاب، والمساومة، فيما يبدو أن موت الفلسطينيين ليس نهاية الاضطهاد في العقلية والعقيدة الصهيونية. من أبسط حقوق الفلسطيني أن يدفن كاملاً بعد استشهاده غير منقوص في الأرض، وأن يوضع شاهد على قبره، يُكتب عليها اسمه وتاريخ ميلاده، وتاريخ وفاته. ويُكتب عليها أيضاً أنه ابن هذه الأرض منها خُلق وإليها يعود. وأنّه ينتمي لهذا الوطن الذبيح. والأهم أن يكون قبره في مقبرة حقيقية، ليس في قبر جماعي، ولا في شارع، ولا على الرصيف، ولا في ثلاجة، ولا في مقابر الأرقام.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19846

العدد 19846

الإثنين 11 أوث 2025
العدد19845

العدد19845

الأحد 10 أوث 2025
العدد 19844

العدد 19844

السبت 09 أوث 2025
العدد 19843

العدد 19843

الخميس 07 أوث 2025