من الصّعب استيعاب ما يجري في الشّقيقة ليبيا، أو تكهّن ما سيؤول إليه وضعها بعد أن تعدّدت الأيدي العابثة بأمنها، وهي في واقع الأمر ليست أيدي أبنائها المتصارعين على السّلطة فقط، وإنّما أيدي دول كثيرة تتنافس فيما بينها وتتسابق ليكون لها موطئ قدم على الأرض الليبية التي تنام على ثروات لا تنضب.
بالتأكيد، لن نضيف جديدا عندما نقول بأنّ التدخلات الخارجية هي في الغالب ما يصنع الأزمات ويشعل الحروب، والتوجّه نحو تأزيم الوضع بليبيا وجرّها إلى الاحتراب الداخلي، تجلّى واضحا منذ البداية، أي منذ أن أعطيت الأوامر لحلف « الناتو» بدكّ أرض شيخ الشهداء عمر المختار قبل ثماني سنوات بمبرّر ظاهري هو الإطاحة بالنظام السابق، وهدف خفيّ يتحدّد في زعزعة استقرار هذه الدولة ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي والثروات النفطية الهائلة.
وطبعا ساعدت الفوضى الأمنية التي سادت ليبيا منذ ذلك الحين، على إطلاق سباق محموم بين مجموعة من الدول لبسط هيمنتها هناك مستعملة كل ما يمكنها من وسائل، بما فيه تشكيل المليشيات وتسليحها، والزجّ بالإخوة الفرقاء في أتون صراع دموي نراه للأسف الشديد يتحوّل إلى حرب أهلية حقيقية.
والمفارقة العجيبة، أنّ الدول التي ظلّت ترافع للحلّ السياسي السّلمي في ليبيا، وتصدح به صباح مساء، هي ذاتها التي نراها في مجلس الأمن الدولي، تعترض على أيّ قرار يدعو لوقف التصعيد العسكري الذي يفرضه زحف المشير خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، بل والأمر المثير للعجب، أن الدول الكبرى التي ظلّت طول الأعوام الثمانية الماضية تتقاذف ورقة الفيتو فيما بينها لتباين مواقفها حول الأزمة السورية، نراها اليوم تقف في صفّ واحد وراء حفتر، وتتبنى نفس الموقف الداعم لعمليته العسكرية.
لأوّل مرّة إذن، نسجّل تجانسا وتوافقا في الموقفين الرّوسي والامريكي حول أزمة معيّنة، ما يعني أن حفتر لم يتحرّك غربا بمحض إرادته، وما يجري في العاصمة الليبية من تصعيد أمر مقصود الهدف منه الزجّ بالبلاد في صراع دموي بهدف إيجاد المبرر والذريعة للتدخل العسكري الخارجي، وقد حذّرنا في الكثير من المرّات من أن بؤرة التوتّر القادمة بعد سوريا قد تكون ليبيا لا قدّر الله.
يبقى في الأخير أن نتساءل عن موقف الأمم المتحدة من كل ما يجري في ليبيا، ونطرح أكثر من علامة استفهام عن إصرار فرقاء ليبيا على الانزلاق إلى حرب أهلية ستحرق البلاد والعباد، وغفلتهم عما يحاك ضدّهم من مؤامرات؟.