لم تخل قوانين المالية منذ تولي رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة مقاليد السلطة في الجزائر من الطابع الإجتماعي الثابت، بعنوان «التحويلات»، مهما كانت التداعيات الناجمة عن الإختلالات في الإيرادات البترولية، التي بلغت سقفا صعبا ومقلقا في سياقات معنية، ليست ببعيدة عنا.
هذا الحرص الشخصي والقناعة العميقة إنما تترجم مسؤولية الدولة الجزائرية تجاه تلك الفئات المعوزة والهشة التي تحتاج حقا إلى التكفل بها، من خلال حمايتها من كل التأثيرات المتولدة عن الإضطرابات الظرفية لمداخيل النفط، وإدراجها ضمن انشغالات السلطات العمومية حتى تكون في منأى عن كل الإنعكاسات المباشرة والتي قد تؤدي إلى إتساع جيوب الحاجة في هذه الأوساط.
هذه الرؤية السديدة والنظرة الاستشرافية مبنية على منظومة متكاملة، في استحداث مسار استقرار دائم، بالنسبة لكل أولئك الذين تأثروا بفعل حركية الأداء الإقتصادي وفي ذروة ما سمي بالأزمة، فإن البديل الفوري كان الحضور القوي للدولة من أجل التخفيف من وطأة كل الإفرازات المضرة بيوميات المعيشة.
الأمر لا يتعلق هنا أبدا بواحد زائد واحد أو عملية حسابية، إنما بسياسة اجتماعية ممتدة جذور في أعماق كل الوطنيين الأحرار، الذين وقفوا على ما عانه الجزائريون خلال عهد الإستعمار، على أن يعيش هؤلاء في كنف العزة والكرامة، وأن لا يقصوا من أي مسعى في هذا الشأن، القائم على توفير التغطية لهم، في مجالات الصحة، التعليم، السكن والعمل، دون أن ننسى حماية قدرتهم الشرائية.
هذه السياسة الاجتماعية مصنوعة من قيم واردة في المواثيق الأساسية للثورة الجزائرية وممتدة في النصوص ما بعد الإستقلال، كالعدالة الإجتماعية والتضامن ومبادئ راقية أخرى كانت دائما مرجعية قائمة بذاتها عند الجزائريين. وفي خضم هذه الإرادة الحاضرة، فإن هذا التوجه يظهر جليا في المنحى المتصاعد وفي النسبة المخصصة للتحويلات الإجتماعية التي ارتفعت بـ٨٪، أي من ١٦ مليار دولار إلى ٥، ١٧ مليار دولار وهذا بالرغم من انخفاض المداخيل إلى النصف، إلا أنه لم يسجل أي تغيير في هذا الجانب، وماتزال التحويلات الإجتماعية العنوان البارز في قوانين المالية المتعاقبة.
الأصوات المتعالية، اليوم، والمطالبة بتغيير هذه السياسة، لا تراعي أبدا ما ذكرناه سلفا، إنما تنزلق إلى دعوات غير مسؤولة لا تفرق بين الثابت والمتغير وهذا الخلط هو الذي أدى إلى التفكير بمنطق الحسابات وهذا خطأ إن تمادى البعض في اتباعه لاحقا.
وتركيز البعض على مسألة تحديد الشخص المحتاج إلى دعم، وأن هذا الأخير يذهب إلى غير مستحقيه، إنما هو فعل تقني مخول لجهات أخرى القيام به، وفي هذا الصدد شرعت وزارة الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية في إعداد هذا التصور من خلال وضع ما يعرف بالبطاقية الوطنية.
غير أن المسألة لا تحتاج إلى كل ذلك التهويل من قبل المتابعين للشأن المالي في الجزائر، بخصوص تعديل وتصحيح هذا الإتجاه، إذا ما قارنوا ذلك بتدخل الدولة من أجل إحداث التوازنات الكبرى في بعض المواد واسعة الإستهلاك، وهذا بتحمل الفارق المالي، مهما كان الأمر.
ولهذا، فإن الأولوية اليوم هي من أجل الحفاظ على استقرار وتماسك المجتمع، وتفادي الوقوع في تلك الحلول السهلة الصادرة عما يسمى بالمحللين أو الخبراء الذين تبقى قراءاتهم أحادية بحتة، لا تراعي الخلفيات التي قد يفرضها أي قرار يعاكس هذا الخيار الإجتماعي.