«الشعب» ترصد مختلف الآراء لمعرفة أسراره

«منبع المشاكي» بجيجل... لغز عجز عن تفسيره الباحثون

جيجل: استطلاع أمال مرابطي

مياه عذبة تتدفق من الصخور 10 دقائق لتتوقف فجأة لـ40 أخرى
يعرف «بعين الأوقات» منبع مائي طبيعي تزخر به ولاية جيجل وقرة عين السكان والسياح الوافدين، عليه... مصدر كبير للثروة المائية الصحية، الإخضرار الدائم والتنوع البيئي، الذي يمنح الزوار أوقاتا رائعة من المتعة والهدوء؛ إنه «منبع المشاكي» الذي تتوقف عنده «الشعب» وتروي القصة الكاملة عنه، استنادا إلى آراء باحثين ومسؤولين محليين ومهتمين بالمنبع.

قال الطاهر مزعاش، أمين عام ببلدية سلمى بن زيادة بجيجل، بشأن هذا المنبع العجيب في تصريح لنا بعين المكان: «يعد المشاكي من أهم المعالم السياحية منذ القدم، ولايزال يثير فضول الكثيرين لمعرفة أسراره وفك طلاسمه. زار المنبع مؤرخون ودوّنوا عنه الكثير من الكتابات... أهمهم الرحالة البكري، الذي زاره في الحادي عشر الميلادي وهو من أطلق عليها في أحد مؤلفاته إسم «عين الأوقات الخمس»، كما زاره «شارل فيرو» سنة 1871م، فريق من الباحثين من معهد باريس للدراسات الجيولوجية الذي انتقل من فرنسا إلى الجزائر سنة 1947 لفك لغز طالما أثار دهشتهم».
وأثار مزعاش مميزات المنبع وخصوصيته، يتعلق الأمر، بحسبه، بتلك المياه الصافية والعذبة التي تفيض بقوة بين الصخور في أسفل جبل لمدة عشر دقائق إلى ثلاثين دقيقة بغزارة كبيرة ثم تتوقف فجأة لنفس المدة، وهو ما يحدث دوريا طيلة فصول السنة... والأمر الآخر المثير للدهشة أيضا، بحسب ما كشفه مزعاش لــ «الشعب»، درجة حرارة مياه منبع المشاكي التي تتغير حسب الفصول، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتوفر أيضا على أنواع مختلفة من الأسماك، تجلب إليه الكثير من الشباب لممارسة هواية الصيد.

بين البرودة صيفا والحرارة شتاء

قال مزعاش عن منبع المشاكي، الذي يبعد بحوالي 5 كلم عن مقر بلدية سلمى بن زيادة و62 كلم عن مقر الولاية، تمتاز مياهه بالبرودة صيفا والدفء شتاءً، ويعرف إقبالا كبيرا من عدة ولايات، خاصة الولايات الجنوبية، لخصائصه العلاجية، حيث يقصده الكثير من المرضى من عدة ولايات للتداوي من عدة أسقام كالأمراض الجلدية، والروماتزم وغيرها من الأسقام... وما ضاعف من عدد الوافدين أشغال التهيئة التي عرفها المكان وهو ما سهل وصولهم إليه براحة تامة وفي وقت قياسي، على خلاف ما كان عليه في السابق، داعيا الزوار إلى الحفاظ على المكان، خاصة وأن البعض منهم يتركون مخلفاتهم ويرحلون دونى أدنى حرج، مؤكدا في سياق حديثه أن المنبع يتطلب حماية وتصنيفه ضمن المحميات الطبيعية.
من جهته عرف المسلك المؤدي إلى المنبع السياحي ترميما، مما سهل على السياح الوصول إليه دون عناء وتعب، لكن هذا ليس كافيا لإعطائه الاعتبار المستحق، نرى أنه من الواجب أن يؤخذ هذا المنبع في الحسبان أكثر حيث يسهر عليه أعضاء البلدية.
المشكل الآخر يتعلق بسلوك الزائرين والسكان الذين لا يعيرون أي اهتمام للمنبع وحرمة المكان، لهذا يجب توعية الناس وجعلهم يدركون فائدة هذا المنبع الذي عجز عن تفسير سرّه الخبراء المختصون.

أساتذة يبحثون عن فك اللغز

في تفسير الظواهر الطبيعية وهذا المنبع يتطلب المزيد من العناية والتهيئة اللازمة من طرف السلطات لجعله قطبا وفضاء سياحيا بأتم معنى الكلمة ومنافسا للسياحة الشاطئية، لتبقى العبارات عاجزة عن وصف الجمال الطبيعي الخلاب الذي يلمسه الزائر إليه والمتعة التي يشعر بها في مثل هذا المكان الساحر، مما يحمل الجهات المعنية مسؤولية لحماية أكثر، خاصة وأنه من أهم المعالم الساحية التي تزخر بها جيجل بصفة خاصة والجزائر بصفة عامة.
وأوضح الأستاذ الباحث في التاريخ سفيان عبد اللطيف، عدة نقاط بين فيها الفاصل الزمني لتاريخ منبع المشاكي الذي يعرف عند المؤرخين بعين الأوقات قائلا: «يقع (منبع المشاكي) أو ما يصطلح عليه عند المؤرخين بـ(عين الأوقات) في جبال بني زونداي ببلدية سلمى بن زيادة بولاية جيجل، ويعود زمنها إلى الإنسان الأول الذي سكن مغارات المنطقة في حقبة ما قبل التاريخ.
وأشار الأستاذ سفيان عبد اللطيف، أن موقعها بين ساحل البحر وطريق الحرير القديمة من جهة سطيف، جعلها منذ العصور الأولى مقصدًا للمسافرين، ينزلون عندها للشرب والتزود من مائها الطبيعيّ العذب، ولذلك كانت القبائل الكتاميّة تعدّها من أهم المعالم الطبيعية.
وأضاف الأستاذ عبد اللطيف، قائلا: «لا يخفى عنا أن الفينيقيين وصلوا إلى هذا المكان بحكم وجود مدينتهم التاريخية صيدا (SIDA) قريبا منه في أعالي تاكسانة، وكذلك في زمن الرومان لوقوعها في إحدى الممرات المؤدية من حاضرتي شوبا (Choba) وإيجيلجيلي (Igilgili) في جهة البحر، إلى حاضرتي سيتيفيس (Sitifis) وكويكول (Cuicul) في جهة الداخل. ولعلّ بروز هذه النبع أول مرّة على أنه معجزة، عائد إلى العصور الوسطى على زمن الخلافة الفاطمية بالمنطقة، إذ استكشفه الرحالة المسلمون من أمثال القاضي النعمان التميمي في كتابه (افتتاح الدعوة) وأبي عبيد الله البكري في جزء من كتابه (المسالك والممالك) الموسوم بـ(المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب)، فأوردوا لنا بعض الأمور الميثولوجية التي كانت تنسج حول هذا النبع الطبيعي.
كما أشار للخرافات المتداولة حول هذا المنبع قائلا، إنه لا يبعد عندنا أن خرافات كثيرة نسجها الإنسان الأول بمنطقة جبال جيجل الكتاميّة عن هذا النبع، فمن عدّه نبعا خاصًّا بالآلهة لوقوعه في مكان معزول وبعيد تقصده الجن وتتمثل فيه للبشر على أشكال كثيرة، إلى جعله في زمن الفاطميين الشيعة عيناً معجزة يدّعي أهلها أن الله جعلها تخرج في أوقات الصلاة وتنقطع عند خروجها، وهنالك أطلق عليها تسمية (عين الأوقات)، وذلك ما لحق به البكري في القرن (11م) عند نزوله بمراسي المنطقة قال:
وفي ذات السياق، قال: «(في جبال كتامة عين الأوقات معروف إذا كانت أوقات الصلوات جرى الماء فيه فإذا خرجت الأوقات قلص وانقطع)، ولكن هذا الادعاء الأسطوري الذي لا تفسير له من المنظور العلميّ، يضاف إلى الكثير من التخاريف التي تركها الشيعة الفاطميون بمنطقة كتامة بجيجل، إذ أن الماء يخرج في كل مرّة لمدة 10 دقائق وينقطع لمدة 40 دقيقة، وهو وقت لا يوافق الصلوات الخمس كما هو معروف، وإنما نوعز كثرة هذه الميثولوجيات في تلك المرحلة إلى مبالغة الشيعة في ادّعاء الكرامات الربّانية في بيئتهم من شبه تسمياتهم لـ(فج الأخيار) و(وادي النجاة) وغيرها كثير في بيئة كتامة القريبة من منبع المشاكي.
أما في المراحل القريبة من العصر الحديث، فقد دأب الناس على التوافد على هذا النبع والاعتقاد بوجود سرّ إلهي رباني فيه، فصاروا يعتقدون فيه مكانا مباركا يقصدونه ليشكوا إلى الله عز وجل الأمراض والعلل، ولأن ماءه المعدني غنيّ بالكثير من الأملاح فقد كان يساعد على شفاء الكثيرين من أسقامهم، فعلى الأرجح عندنا من ذلك أطلق عليه اسم (منبع المشاكي)، ونرى من البعيد علاقة هذه التسمية بالأصل العربي (مشكاة) وهي نوع مخصوص من المصابيح المضيئة، ولم نعرف عند أهل المنطقة هذا اللفظ ولا هذا الشكل من المصابيح في ذلك المكان.
وكشف الباحث سفيان «للشعب»، عجز العلماء عن تحديد أسرار جريان ماء المنبع وتوقفها لمدة معينة قائلا: «وبالرغم من عجز علماء الجيولوجيا عن فهم سرّ هذه النبع العجيب، إلا أنه يبقى قائما كما كان منذ آلاف السنين إلى اليوم، مسافرا بين العصور ليسقي أهل منطقة جيجل من الماء ويشفيهم، بإذن الله تعالى، من أدوائهم، وهو فوق ذلك مقصد سياحي لمن أراد الراحة النفسية والتمتع بروعة منظره.

الظاهرة ترتبط بالكتلة الصخرية لجبل المائدة

من جهته أوضح عبد المالك بغداد، أستاذ جيولوجيا بجامعة جيجل، «للشعب، قائلا: إنه لحد الساعة لم يتم الوصول بعد إلى تفسير دقيق للظاهرة، مؤكدا أنها تحتاج الى المزيد من البحوث للتأكد والخروج بتفسير علمي أكثر دقة. والمعلومات المتوفرة حاليا، ترتبط بالجغرافية، أي مكان وجود النبع، فمنبع المشاكي أو ما يعرف عند الباحثين القدامى بـ «عين الأوقات»، تقع جنوب بلدية سلمى بن زيادة، على بعد 23 كلم من بلدية تاكسانة، يتواجد بالتحديد في ضواحي مرتفعات مشتة العيون 3500م على الطريق الولائي رقم 137 بالقرب من الضفة الشمالية لوادي جنجن.
ويعد موقع المنبع الطبيعي يثير فضول الزائرين لاكتشافه، ويشدهم إليه قوة فيضانه وانقطاعه بشكل مفاجئ، بالاضافة إلى ما يزخر به من كنوز وعجائب وأساطير.
ومياه المشاكي تتدفق على طول كسر عند سفح جبل المائدة الذي يتوج على ارتفاع 823م، تعود هذه الكتل الصخرية من العصر الجوراسي، في منتصف العصر الطباشيري، كتلة تشكلت من الضباب الترياسي، وهي تتألف من الصخور الرسوبية (الحجر الجيري والدولومي والبريكياز)، وهي عبارة عن صخرة عملاقة انقسمت إلى كتل صخرية صغيرة. وهذا المنبع تدفق مياهه متميزة عن المنابع المائية الأخرى.
وأكد الاستاذ عبد المالك بغداد، أن هذه الظاهرة قد تكون مرتبطة بالإعداد الجيولوجية للمنطقة (طبيعة الصخور والتكتونية). ويعرف أن هذه المنطقة وعرة للغاية، ما أدى الى وقوع حادث كبير وهو التوجه التكتوني شرقا وغربا، ثم معظم الكتل الصخرية هي كسور، وهذه الكسور شكلت سطوحا ملائمة لتوزيع المياه.
والنقطة الثانية التي يمكن أن تفسر هذه الظاهرة، بحسب الأستاذ بغداد، وطبيعة الصخور يقول، إن الكتل الصخرية بجبل المائدة كتل تتكون من التكوينات الرسوبية المتشكلة أساسا من طبيعة الحجر الجيري، ثم حضور كسور ضخمة ودوران المياه، في مشهد لظاهرة تسمى «ظاهرة كارستيك»، أي الحلول من الحجر الجيري، تعطي تجاويف أو تشكل كهوفا، فضلا عن أشكال أخرى مثل النوازل والصواعد.
ثم التفسير الذي يمكن أن يعطى لهذه الظاهرة أيضا، يرتبط بوجود تجاويف أو كهوف على مستوى كتلة صخرية من جبل المائدة، هذه الكهوف بكثافتها وأحكامها وأشكالها تسمح للماء تعميمه وفقا للإيقاع.
وأخيراً، ومن أجل تفسير هذه الظاهرة بشكل مؤكد يدعو من أجل تكثيف حملات الاستطلاع الجيولوجي، مع قدر أكبر من الشركاء الجيوفيزيائيين والهيدروجيولوجيين للتعرف جيدا على هذه الظاهرة وإنشاء التكوين الأكثر ملاءمة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024