انتخاب نظام شرعي أولوية الأوليات

الجزائر في مرحلة مفصلية غير أنها فرصة ذهبية

د. نور الهدى بن بتقة جامعة الجزائر 03 تخصص دراسات أمنية دولية

  جمعات تتوالى، أصوات شعبية مصرة أكثر على المطالب تتعالى والوقت يداهم ولا حلّ في الأفق يتضّح للعيان، وهذا مع تسارع في الأحداث والمستجدات من هنا وهناك، خطابات لقاءات محاضرات ندوات لم تأت بعد بمفتاح النجاة، فالسياسيون معارضة أو موالاة فقدوا المصداقية وصارت الثقة في اجتهاداتهم والانصات لأقوالهم مضيعة للوقت، فواعل النظام بمختلف مستوياتهم ومناصبهم فقدوا الشرعية والمشروعية فلا أحد يريدهم فلا حوار سينطلق مادام هم المبادرون، ولا حل سيتضح مادام هم أصل الإشكال المطروح على الساحة السياسية الجزائرية، شخصيات وطنية تحظى بموافقة وإجماع الكل إما تجاوزتها القدرة والمقدرة على النضال وإما تتردّد في خوض غمار الحوار والمبادرة لسبب أو لآخر، فأين الحل يا ترى؟! وإلى متى ستبقى الجزائر رهينة مُبادر يملك أدوات السلطة لكن غير مرغوب فيه ومتردد مرغوب فيه غير أنه لا يملك مقومات القدرة والمقدرة لتفعيل الحل؟!


بناء الثّقة أصعب من بناء الدولة...

 قبل الحديث عن رأس خيط الحل المرتبط أساسا بشرعية النظام كمنفذ للخروج من الأزمة الحالية بما يريح الجزائريين، يعترض طريق بناء شرعية النظام كخطوة أولى لبناء الدولة كمؤسسات خاضعة لمنطق القانون المكرس لمسألتي الحقّ والواجب، أمر جدّ مهم يتمحور حول مسألة بناء الثقة، والسؤال الذي يتبادر للذهن كيف يمكن بناء الثقة؟! ماهي آلياتها العملياتية؟! إن اعتبرنا أن الثقة نتيجة لممارسات متكرّرة خاضعة لزمن معين قد يمتد لعقود، فليس من الجنون اعتبار أن بناء الثقة مسألة مستحيلة جدا، وهذا لوجود ممارسات كُرست لعقود انتزعت الثّقة في الطرف الآخر من الجذور فنزعتها من الكل دون استثناء سواء في السلطة أو خارجها، وأمام هذه المعضلة - معضلة هي لأنها تعدت مرحلة التأزم - ما الذي يمكن فعله لتدارك صعوبة الموقف؟! هل المغامرة أم الاستسلام؟! مغامرة بعقد حوار مع السلطة على شرط أن يكون حوارا شفافا مع ضمان مصداقية وثبات من اختاره الشعب على خدمة مصالحه دون التأثر بإغراءات السلطة  لبيع القضية أم الاستسلام أمام واقع اللاثقة وغياب من يملك مقومات رجل دولة في فنيات الحوار، الاقناع، ايجاد الحلول وصياغة البدائل التي تُخرج الجزائر من هذا النفق مجهول الوجهة؟! حتى اتفاقيات ايفيان رغم عدم ثقة الجزائريين بالإدارة الفرنسية غامروا بأرواحهم  بالجلوس على طاولة المفاوضات جنبا إلى جنب مع الفرنسيين فكانت شرا لابد منه، واضطروا لفعل ذلك لأن استمرار الحرب الدامية بين الطرفين في ظلّ امتلاك فرنسا لمقومات القوة والمقدرة واستمرار استشهاد الجزائريين في ساحات القتال ينبئ بتفوق العدو لا محالة، فكانت الاتفاقيات مغامرة - نتيجة سلبياتها في بعض البنود - مخيفة لكنها حقّقت الأهم وهو الاستقلال ليستكمل الظفر بمقومات الاستقلال تدريجيا بعد تأميم البترول والموانئ سنوات بعد الاستقلال في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كسب الشرعية وحظي بثقة الشعب بسياساته بعد أن اُعتبر مُنقلبا على الشرعية. من هنا  أتساءل لم لا الظفر بالحرية التامة عن المستدمر الفرنسي في هذه المرحلة بالذات التي يعاني فيها العدو التاريخي من ضعف داخلي هزت أركان عرش فرنسا داخليا وخارجيا، أليست فرصة ذهبية لإخراج أذنابها من الجزائر للأبد؟!...   

السلطة أساس المشكلة
وطرف أساسي في الحوار ـ الحل ـ ...

  لنكن صرحاء موضوعيين بعيدا عن العاطفة والتزمت في الآراء، الكل يتفق أن فواعل النظام الرسميين أو غير الرسميين أصل المشكل في البلاد لارتباطاتهم بفرنسا بالدرجة الأولى وبعض عواصم العالم، وهم من أوصلوا البلاد لما عليه اليوم من مأزق سياسي لا تحسد عليه، لذا فمن الطبيعي جدا بل من المنطقي ألا تحظى مبادراتهم بالترحيب ولا ممثليها بالثقة، غير أنهم أيضا جزء من الحل ولا يمكن اقصاؤهم لأن بمنطق النزاعات يوجد طرفين والحل إذا لا يتأتى إلا باجتماع الطرفين على طاولة واحدة شئنا أم أبينا، فغياب أحد الطرفين يطيل أمد النزاع ويدخل البلاد في نفق مظلم، أعلم أن هذا القول صادم للكثيرين لكن هو واقع لا مفر منه ولا يمكن تجاوزه ـ فالدواء رغم مرارة مذاقه قد يشفي المريض ولكن عدم شرب الدواء تحت مبرر مذاقه يؤدي إلى الموت حتما - غير أن الحوار يجب أن يتمّ باستغلال تخبط النظام وتشرذمه وضعفه الحالي بجعل أوراق الحوار ومناورات التفاوض لصالح الشعب مع أخذ زمام المبادرة وليس العكس وترك الساحة فارغة فالمكان والزمان لا يحتملان الفراغ، والأكيد في كل هذا صعوبة بناء الثقة، غير أني أؤمن أنه يوجد من يزال يحظى بثقة الشعب ويملك روح الوطنية وحب الوطن للعب دور المحاور الفذ والمفاوض الفطن في كسب معركة بناء نظام شرعي ودولة مؤسسات، فلا يجب التغافل عن أمر مهم هو أن الجزائر كما أنجبت الشهداء الذين ضحوا بالنفس والنفيس من أجلها في فترة اعتقد الكل أن الجزائر فرنسية الهوية والانتماء، فالأكيد إذا أن هناك من هو على قَدْرِ الثقة والمسؤولية لخوض غمار الحوار مع السلطة في أقرب وقت، لكسب رهان حرية الجزائر تكملة لحرب الاستقلال واستعادة الجزائر من الذين تركتهم فرنسا لخدمتها.. فالجزائري يُبدع في المحن، يفقه جيدا كسب الرهان عندما يتحداه الزمان والمكان ـ مثلا مقابلة أم درمان -، ولا يخشى المغامرة بأغلى ما عنده عندما يتعلّق الأمر بالوطن، ولا يهاب هذا أو ذاك عندما تكون الجزائر في خطر...

اشتغلوا ولا تنشغلوا....

  بتوالي الأيام ستستمر المسيرات المليونية التي جابت وستجوب جل الولايات دون استثناء مادام المطلب الشرعي لم يتحقق ومادام مفتاح الفرج وطوق النجاة بالمنطق القانوني الدستوري لم تفك شفراته ولم يعلن تفاصيل تحقيق وتفعيل المادة 07 و08  من الدستور على أرض الواقع بما يأتي بحل مرض سريع ينهي فصول هذه الأزمة، فالخروج عن الدستور الذي حتى وإن خيط على المقاس كما أوردت في مقال سابق « ضرورة تغليب الحكمة لتجاوز حساسية المرحلة - الجزائر بين الشرعية الدستورية والشرعية الشعبية-»سيمثل ثغرة أمنية تعصف بالبلاد لا سمح الله.
  على القانونيين والخبراء الدستوريين الاشتغال وعدم الانشغال، وهذا بإيجاد الثغرات واستخراج موقع الخيط السري ـ إن صحّ التعبير - الذي حيكت به هاته القطعة من القماش بغية إعادة حياكته بما يناسب هذه المرحلة الاستثنائية تفاديا للاصطدام بالفراغ القانوني الذي سيتم ملؤه من طرف من يملك تفاصيل وفنيات الصياغة، ودرء الوقوع في إشكالية القوانين والمواد الجائرة أو القوانين المخاطة على المقاس مرة أخرى، لهذا على القانونيين لعب دورهم التاريخي لإيجاد هذه الثغرات بدل الوقوف في مسيرات للتنديد بممارسات النظام وإعلان التأييد للشعب... من جهة أخرى، المطالبون بالحل السياسي خارج عن الدستور لعدم فعاليته هل هذا طلب منطقي؟! وسيساهم في حل الإشكال أم يدخلنا في مرحلة انتقالية غير محدودة الزمن؟!، نعم الدستور بشكله الحالي غير عملي لا يصلح لكن أتساءل أليس الحل السياسي مبني في مجمله على رؤية تخضع لإجراءات إدارية تؤطرها قوانين مدونة في الدستور أو في المراسيم التنفيذية الرئاسية؟ أم أنه سيكون الحل بوضع قوانين ظرفية وهنا سيُطرح إشكال آخر من المخول بوضع وصياغة هذه القوانين لتسيير المرحلة الاستثنائية؟!... من جهة ثالثة هناك جهات داخلية وأخرى خارجية تعمل على الاستثمار في الوضع المعقد في البلاد، فلا يعتقد القارئ أن الحديث عن الخارج يعني الحديث بتهويل عن مفهوم جامد هو مفهوم المؤامرة، فالمؤامرة كانت ومازالت وستبقى فهي واقع لا مفر منه، ليس لأن الأجنبي ذكي في اختراقنا وإنما هناك من الداخل من يسهل له تحقيق غاياته التوسعية، ولنتذكر دائما أن التوسّع مطلب عضوي للدول، الدولة كالإنسان ينمو ويكبر، والتوسع الدولاتي منطقيٌ بمفهوم النظرية الجيوبوليتيكية وهذا بالاستناد على قوانين راتزل فردريك، لهذا تصبح الحدود الجغرافية لا معنى لها في ظل السعي نحو السيادة العالمية على أنها مخترقة أصلا تحت مفهوم العولمة.

تسارع وتداخل الأحداث
ودعوة للتمسك بأولية الأوليات....

   تتداخل المواضيع التي ترافق المسيرات وتتنوع بما يمكن أن يُحدث شرخا ولو بسيطا نظريا في مطالب الشعب، فيتم نقل المطلب الأساسي «بناء نظام شرعي» إلى مطالب عدة متصارعة، وهذا نتيجة أن الشعب الجزائري يتفاعل مع المعطيات الجديدة والمتسارعة التي تصنعها خطابات هذا أو ذاك، فيندد بها أو يؤيدها في المليونيات، وإن كان هذا التفاعل ايجابي نابع من حرية الشعب في إبداء الرأي فيما يحدث، لكن لابد من التنبيه إلى أن الاهتمام بكثير من الأمور يجعل الهدف الأسمى يتراجع بدل أن يكون أولوية الأوليات، والمتمثلة بالأساس في انتخابات يُحقَقُ فيها الشروط الأساسية لتوصيل الشخص المناسب للمكان المناسب بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن، لهذا أدعو إلى الاشتغال عبر السعي الحثيث في ايجاد مخرج للوصول لانتخابات تجسد نظام شرعي يتكفل بالدفاع عن مقويات الشعب، وحدته، سيادته، كرامته، هويته المشتركة الأمازيغية الإسلامية والعربية ثلاثي غير قابل لا للتنازل ولا للتساوم ولا حتى للتفاوض، أمنه الداخلي والخارجي بعيدا أولا عن أبواق الانفصال أشخاصا كانوا أو منابر إعلامية، الابتعاد ثانيا عن المستثمرين في خلافات تاريخية تعود لفترة ما بعد الاستقلال وأولئك الذين وجدوا الفرصة لتصفيات الحسابات، ثالثا عدم السماح بإدخال المؤسسة العسكرية في الوحل السياسي مهما كان، رابعا ترك المسائل الخلافية التي اتسمت بها فترة التسعينيات، الوقت كل الوقت، الجهد كل الجهد، الاشتغال وعدم الانشغال، التركيز كل التركيز حول مسألة واحدة ووحيدة في هذه الفترة العصيبة متمثلة في «انتخاب نظام شرعي» يكفل الحريات ويطبق العدالة ويجسد دولة الحق والقانون وبعدها لكل حادث حديث ولكل مقام مقال. كما يجب التنبيه إلى عدم جعل الجامعة، الأسواق، المؤسسات، أي أماكن العمل والدراسة أماكن لوضع منتسبيها بين خيارات المقاطعة والاضراب أو التخوين، فهذا ينقل الصراع من «النظام - الشعب» إلى «الشعب - الشعب»، لنكن صرحاء وصادقين مع أنفسنا الجامعة، الأسواق، المؤسسات مهما كان نوعها، اجتماعية، تربوية، اقتصادية، ثقافية، دينية، اعلامية تعجّ بالفساد والمفسدين ولولا هذا الفساد على هذا المستوى وبهذا التجذر لما تربع رأس النظام على السلطة وما تكبر، استعلى و تجبر، ولولا فساد أهل العلم وتكبر أهل العمل ما كان لأهل المال والنفوذ والقوة كل هذا المكر والتجبر...

الجزائر القارة منبع للتنوع
والاختلاف ومقبرة لمستثمري الخلافات....

 إياك يا شعب الجزائر أن تحييد عن سلميتك إياك ثم إياك ثم إياك... إياك أن تحييد عن هدفك الأساسي الموحد الذي أخرج الملايين ولازال يُخرج الملايين جمعة بعد جمعة، إياك أن تستمع لهذا أو ذاك ممن يوظف الهوية، الايديولوجية وحتى الدين، فيكفيك فخرا وعزة وكرامة يا جزائري أنك تحظى بثراء لغوي ـ لهجات متنوعة -، تنوع ثقافي، إبداع حضاري أمازيغي، إسلامي وعربي، فأنت تنتمي لبلد قارة الاختلاف فيه ميزة منطقية، لذا ليكن الاختلاف والتنوع مِيزةً مُحركةً مُحفزةً للقوة الابداعية التنويرية، فالشباب الجزائري يملك من مقومات الابداع ما يجعل بلده مرجعا في العلوم والفنون والآداب، فلا تنتظروا يا شباب الجزائر أن تقدم لكم الظروف على طبق من ذهب لإيصال إبداعكم وتحقيق طموحاتكم بل اصنعوها بأيديكم ليس بالقوة المادية وإنما بالإرادة والإيمان بالقدرات الفردية والجماعية، كما فعل جيل ثورة نوفمبر فقد كان مرجعا للبطولات فقط لأنهم آمنوا بأنفسهم فصنعوا التميز الأزلي الذي لم يغب لحظة رغم استشهادهم، وليكن مقابل ذلك رفض الخلاف جملة وتفصيلا مهما كان السبب والظرف لأنه مدعاة للتمايز السلبي المجهض لعملية بناء الدولة ولاستقرار الوطن.
   اللّهم احفظ الجزائر بحفظك وألهم أبناءها الحكمة والتبصر «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»، واحفظها من شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ثبت القلوب على حب الوطن، وطن واحد لا يوجد غيره «جزائر الشهداء».   

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024