المقاومة وصورة الغربي

دراسة في رواية الكاتبة فضيلة بودريش «الأخضر والرماد»

رمضان أحمد عبد الله

 تناول الناقد رمضان احمد عبد الله رواية الإعلامية والكاتبة فضيلة بودريش (صحفية بجريدة الشعب)  في دراسة أدبية مبزرا مختلف جوانب هذا العمل المرتبط بالذاكرة الوطنية، مسجلا تقديم الرواية صورة مكبرة عن الرجل الغربي وممارساته إبان الاحتلال والدور القوي لكفاح الشعب الجزائري.  ويرتقب ان تدرج هذه الدراسة ضمن كتاب نقدي يعده الناقد عن 100 رواية لكاتبات عربيات يحمل عنوان «بوح الفراشة».

يكشف عنوان رواية الكاتبة الجزائرية فضيلة بودريش «الأخضر والرماد» الصادرة عن دار النخبة، بالقاهرة 2018 -باعتبار العنوان العتبة الأولى للدخول إلى النص-، هوية النص ويتجلى هذا الكشف مع إتمام القراءة فالأخضر والرماد عنوان كاشف للتناقض بينهما بين المعمر والمدمر بين الذي يمنح للغير وبين الذي يحرق ويسطو على حقوق الغير تناقضا وصراعا بين من يسعى لتحرير أرضه وبين القاهر المغتصب صاحب الفائدة والاستفادة والمنفعة جراء القتل والتدمير، فالأخضر رمز الرؤية الطيبة ويمنح المتعة والراحة، والرماد نتاج الحريق أو التدمير ليظهر جليا الفارق بين شخصية الأخضر الوطني الساعي مع رفاقه لتحرير وطنه الجزائر وبين شخصية الرماد «لا صوندر» ورفاقه القتلة المأجورين في صفوف المستعمر الفرنسي الغاصب.

1 ـ هوية النص

في هذه الرواية تستحوذ الوطنية على فكر الكاتبة، وتفرض سطوتها فهي همها الأول والشاغل الأساسي لها، فهي تتناول ردة أفعال أصحاب الوطن تجاه المغتصب المستعمر في فترة تاريخية هامة من حياة الشعب ودولة الجزائر، لذا في رواية مقاومة بالمقام الأول تسلتهم فيها روح الكفاح ولا تكتب تاريخا ولا أحداثا تاريخية، فهي ليست رواية تاريخية، لكنها تنطلق من الاحتلال الفرنسي للجزائر، منذ الاهداء الذي كتبت فيه:
« إلى شهداء الحرية إلى جميع الأحرار في العالم.. إلى أبطال ثورة الجزائر المجيدة « وتفصح بذلك الرواية عن هويتها على الرغم أنها لا تذكر تواريخا، لكنها تستلهم الثورة الجزائرية في عمل روائي، تؤطر من خلاله وتؤرخ لمقاومة نموذج من الوطنيين المدافعين عن وطنهم وما لاقوه من دمار وتعذيب وقتل وإعدام في سبيل التحرير لتجمع بين المقاومة والسيرة الغيرية فليست سيرة ذاتية لفرد بل سيرة ذاتية لدولة، من خلال سير لمقاومين أبطال يدفعون حياتهم ثمنا لتحرير وطنهم.

2 - بوح النص

تتجاور محطات عدة في الرواية أهمها المقاومة التي يسعى الأفراد من خلالها لتحرير وطنهم، باذلين الدماء والأرواح في سبيل هدفهم ضمن سجل دولة الجزائر الحافل بالمقاومين والشهداء ضد الاحتلال الفرنسي الذي استمر 130 عاما، فتقدم لنا نموذج سي الأخضر أو حسان اسكندر وهو اسم واحد لـ «سي علي» المناضل مع رفاقه على محاور متنوعة منها الإعلامي (فضيل السبع) والطبي ( الطبيب فيصل) والمقاوماتي الصريح حامل السلاح ( الأخضر- فوزي-  بوعلام- منور) الذين يتصدون جميعا لهجمات المحتل على الحي، خصمهم الأول عين المحتل وكشافه والراشد والمحرض الأجير مولود لاصوندر ولقبه الرماد  الذي يستخدم روح عمته جيجي التحريضية عبر رسائلها السبع إليه، التي عثر عليها الأخضر التي تؤكد محاولة المحتلين تغيير هوية ذاكرة العرب والجزائريين لتغيير هويتهم وفق ما يرد على لسانها بإحدى رسائلها إلى ابن أخيها لاصوندر «وأخبرك أننا نركز بعبقرية في المرحلة المقبلة على اختطاف الأطفال الصغار من العرب يجب أن نجمعهم معنا. ونحرص على كتابة ذاكرتهم ننسخ أفكارهم، ولن نتردد في فطرهم على القوة وحقنهم بالوحشية لمواجهة الآخر،  حتى نشد وثاق تواجدنا بحزم في أرض لن تكون إلا لنا، الجزائر ستبقى أيدينا إنها فرنسية اليوم وغدا وإلى الأبد..» ص 64. ولا توجد مقاومة بلا أمل فهو الوقود الدافع لمحركاتها البشرية فلو فقد المقاومون الأمل لما حملوا أسلحتهم.
 يحذو الأخضر في النصر فيحاول مع رفاقه حفر نفق للهرب من غياهب السجن لمواصلة الكفاح ويستمر أمله، فيبحث على طفله يوغرطة، فيغورطة بالنسبة للأخضر مواز للنصر،  فيجوب البلاد باحثا سائلا الناس ورفاق طفله ويتحقق النصر ويرحل المستعمر والعلم يرفرف عاليا بينما القاتل لاصوندر يحتمي بالسيدات هاربا في الميناء، «وفي منظر لا يصدق قفز مولود فوق عدة أشخاص على ظهر السفينة، مسببا جروحا وإغماءات وسط الفرنسيات، متخليا عن السير في أدراج السلم الذي عجّ بالرجال والنساء وأطفالهم. تعذر على الأخضر إطلاق النار ليبتعد عن إسقاط أي ضحية وتسمّر في وقفة معوّجة مذهول وسط صراخ الخائفات ـ
ص 198ـ المذعورات بعد نهاية المطاردة العقيمة وتراجع قليلا يتأمل العلم يرفرف عاليا»  ولا يوجد نصر بلا تضحيات لأن المحتل لا سلاح له سوى القتل والتدمير ولابد  للرد على هذا التدمير، من خلال تقديم أبطال يضحون بأنفسهم من أجل الوطن قرابين للتحرير والنصر فقدم الطبيب نفسه ضمن هذه القرابين حين حكم عليه الاحتلال الفرنسي بالإعدام، كما قتلوا العديد من المقاومين.
والخيانة أحد محطات البوح بالرواية فالخيانة يحفل بها التاريخ العربي ويحفل بها تاريخ المقاومات، فمن الطبيعي أن نجد بعض الخونة قاطني الأوطان الباحثين عن استفادة خاصة بهم والحصول على مزايا أو مصالح شخصية، ويرون في المحتل فرصتهم لتحقيق هذه الأهداف فنجد الحركي زوج الزهور يعمل بصفوف لاصوندر ضد أبناء وطنه، فما كان من زوجة الحركي إلا أن قتلته ببندقيته وكأن التطهير ولابد أن يكون بنفس سلاح الخائن، فالوطن لدى الزهور أغلى وأبقى من زوجها، تروي الكاتبة في حوار بين منور وفضيل عن الزهور زوجة الحركي في ص33و34 «عناق طويل بين الرجلين وشرح مقتضب على مسمع الزهور.
- الأخت الزهور فدائية غير عادية وأضعها تحت حمايتك.
- هي تحت حماية الثورة.
- كلنا في مأمن عندما نكون تحت مظلة واحدة للدفاع عن الوطن.
وفي حديث مغادرة المكان، قطعا خطوات قليلة وصمتا لحظات قصيرة،  وبصوت خفيض تحمس فضيل باستفهاماته لمعرفة أبعاد تواجد امرأة  شابة وطفلها الرضيع في هذه المحطة.
- كانت تأوي مجاهدين في منزلها؟
- يجب أن تذهب إلى أبعد من ذلك في تخميناتك.
- تحمل الزاد والسلاح للخاوة؟ لا أعرفها.
- شقيقة أو قرينة أحد قادة الثورة؟ - قطعا لا..
- أنت بعيد لم تصب.
- أطلعني على الحقيقة أصبت بقلق الإخفاق.
- مفزع ومثير، كيف تمكنت من استعمال هذا السلاح؟ - قتلت زوجها»الحركي» وجردته من سلاحه هذه الليلة..
- الثورة تكبر في الميدان وفي قلوب أحرار هذه الأرض».
بالمقابل يرفض الأخضر علاجه بفرنسا بلد المحتلين الغاصبين ويتحمل  وجود رصاصة بجسده ويرفض الاستجابة لإلحاحات لورا المتكررة، فهو يرفض أن يستنجد بمن قتلوه في حواره مع لوار ـ ص 134 - «هل أنت يائس من الشفاء؟
- لا ..بل أرفض فكرة أن أعالج هناك حتى وإن تعهدوا بتخليصي من الرصاصة.
- ما الذي دفعك على التحفظ؟
- ما الذي جعلك تحسم للامتناع؟ - لم أتحفظ وأرفض بشكل قاطع لا يقبل أي رجعة.
- أيعقل أن أستنجد بمن قتلوني بموت ابتدائي، أيعقل أن يكون قاتلي  طبيبي، هل يسمح منطقكم بأن يرضخ الضحية لجلاده بعد الجريمة لأجل استعادة حياته».
ورغم كون الرواية مقاوماتية بالمقام الأول، إلا أنها لا تخلو من الحب  الرومانسي بمعناه الصريح الخالص، فالحب يوجد بين الأخضر والطبيبة  الفرنسية لورا التي تساعد الثوار، تروي الكاتبة حوارا بين الأخضر ولورا في ـ ص 172 – «تأكدي أنني لن أتركك وحيدة، وجودك يجعل عودتي مهمة، فأنا رجل تنتظرني امرأة وهبتني حياة كانت قد انتهت.
- حولت سير قدماي في منطقة الثورة وعبر شعابها ومسالكها الوعرة  وأشعرتني كأنك حملتني بين ذراعيك والسلاح يتوسطنا، وأوهمتني بأن  حمل البندقية كان على كتفي، والرصاص الذي اخترق جلدك المكوي على الجمر والرماد مر على جسدي بدقائق قبل أن يستقر على مرتفعاتك».
والحب موجود أيضا بين الشهيد الطبيب فيصل الذي أعدم المحتل وبين  حورية ويرفض فيصل أن يموت حبه، فيترك رسالة لمحبوبته حورية بحوزة  المحامي الفرنسي جاك سبستيان وكأن لسان حال الرواية أن الحب يبقى  ويتخطى كل الحدود فحب لورا والأخضر تخطى حدود العدوان والاحتلال وحب حورية وفيصل يبقى حتى بعد إعدام فيصل بقيت رسالة للمحبوبة التي كتب فيها: « إلى المرأة التي شجعت نظراتي على الإبصار وحررتني من تهمة اختلاس النظر، أضاءت في وجهي مصابيح المدن، وأيقظت نجوم الليل تهذي في السماء بأنوارها التي تقطع الظلام ببقع لامعة في منتهى الأناقة وجاذبية البساطة»، ص 176.

3 -التقنية:
فيما يخص البناء الخارجي لا تحوي الرواية فصولا أو عناوين أو أرقام أو أية فواصل فالأحداث متتابعة في وحدة، والسرد يعتمد على السارد العليم الذي يرى الأحداث من الخارج، دون أن يشارك فيها مع وجود حوار بشكل كبير بين الأشخاص، فالحوار مشارك السرد من خلال لغة معبرة كاشفة عن فجائع أفعال الاحتلال والتضحية من أجل الوطن.
وتراهن الكاتبة على ثقافة ووعي القارئ، فتركت يبحث عن بعض الأشياء  التاريخية المرتبطة بتواجد الاحتلال، فلم تفسرها أو تشرحها فلم توضح ماهية عصابة «اليد الحمراء» تلك العصابة الارهابية التي أسستها المخابرات الفرنسية عام 1952 لتنفيذ عمليات اغتيال للرموز الوطنية من المناضلين الجزائريين والمتعاطفين في أوربا مع الثورة، حيث نفذت هذه العصابة جرائم بشعة بحق مدنيين جزائريين إبان فرنسا إعلان وقف إطلاق النار، فأحرقوا المؤسسات ودمروا الهيئات بدافع الحقد والعنصرية فحسب أحداث الرواية أحرقوا مكتبة الجامعة وفجروا المستشفى، وأيضا منظمة «الأقدام السوداء»، وهم فئة المستوطنين الفرنسيين أو الأوربيون المولودين في الجزائر وعاشوا بها فترة الاستعمار، ويعود اسمها إلى الجنود الفرنسيين الذين دخلوا الجزائر عام 1830 ووفق أحداث الرواية أن أصحاب «الأقدام السوداء» ارتكبوا أو شاركوا في مجازر ضد الشعب الجزائري، ولم تفصح الكاتبة أيضا عن «الحركي» وهو  لقب فئة من الجزائريين التحقوا طواعية بالجيش الفرنسي، عشية اندلاع الثورة  الجزائرية (1962-1954 ) واستعملتهم فرنسا لقمع الثوار الوطنيين، فكان  «الحركي» يعني لدى الجزائريين الخائن لوطنه، بحكم تجنيده الاختياري بالجيش الفرنسي، تروي الكاتبة في ص141 حوارا بين فوزي والأخضر عن حريق مكتبة الجامعة المركزية، طلب الأخضر توضيحات تجلي الخبر بشكل يجعله يفهم ما حدث بالضبط.
- ماذا تقصد، لقد ضعت في إعصار قلقك، وحواجز دهشتك!
- منظمة الموت السريع أحرقت مكتبة الجامعة المركزية.
- جريمة انتقامية جديدة لهز الأمان في نفوس المثقفين على وجه  الخصوص.
- الذين لم يطلهم الرشاش، يريدون تعذيب سكينتهم بهذه الطريقة.
- أشاطرك الرأي بأن العملية نيل من المثقف بالدرجة الأولى؟
- ما ذنب الكتب تفحم في الحرب العدائية التي فجروها علينا وعلى البلد.. التي ترتدي قفاز القتل، تغمض عينيها وتلغي صوت ضميرها ولايهمها سوى الهجوم على كل ما يثير الاهتمام والانتباه».

4 - صورة الغربي:
حظيت صورة الغربي في الأدب العربي بحضور واهتمام لها دلالاتها خاصة في روايات الحرب أو المقاومة أو الاحتلال، وفي الأغلب جاءت صورة الغربي سلبية تقليدية مليئة بالكراهية، فالغربي إما قاتل أو ساط على أملاك غيره وقليل من الأدباء العرب، قدم صورة مغايرة عما هو تقليدي في الذاكرة العربية صورة تبين المنصف أو الرافض أو المتعاطف مع قضايا العرب، في هذه الرواية تقدم الكاتبة فضيلة بورديش الصورتين المتناقضتين، فالنموذج الأول المتآمر المرتزق المحرض على قتل الوطنيين وسلب حقوقهم من خلال شخصية لاصوندر الملقب بالرماد الذي «يتشدق باعتزاز أنه استخباراتي، لكنه يضبط أجندة تحركات الحركي ويوزع انتشارهم، ومنظار يرصد ما تسرب من صفحات حراك الثورة ولجم المتعاطفين، شيء للدائرة العسكرية الفرنسية ـ ص 9 . يقيد أسماء المتورطين في الدفاع عن وطنيتهم، يقدم تقارير ملتهبة بالدقة عن الكل.
ومن النموذج الملاصق لـ «لاصوندر» بيتر ولوشكال وآخرين يرتزقون من قتل المناضلين، فكلما ارتفع عدد المقتولين بأيديهم زاد تضخم الأموال إلى جيوب هؤلاء المرتزقة.
ويستمر نموذج الغربي المحرض بما تجسده العمة جيجي زوجة تاجر سلاح ومهرب أطفال عمة لاصوندر عبر رسائلها له  تشعل مواقد حقده ضد العرب وتدعوه للعودة خوفا عليه « يا بني هيأت لك كل شيء فما عندك أنت، لأن الحرب يجب ان تخوضها هنا في الديار «ص66  .و» يا بن الأخ أنت محاط بالخطر، فارجع إلينا سالما قبل فوات الآوان»، ص 81.
وصورة والد لاصوندر صورة أخرى للغربي الذي عمل اسكافيا وبائع خمور وراهن مجوهرات قضى فترة بالسجن جراء السطو على أثريات ومجوهرات ثم قتل أم لاصوندر من أجل المال وقضى بقية حياته سجينا منكسرا.
وفي سياق مغاير تقدم الكاتبة صورة أخرى ناصعة للغربي المنصف الرافض لما يفعله بني وطنه المحتلون، فتقدم لنا صورة الطبيبة الفرنسية لورا فهي تساعد وتعالج المناضلين المصابين التي تسرع إلى المستشفي الذي تم تفجيره رغم أنها في إجازة لتساعد الجرحى والمصابين وتتعدى أبعد من ذلك فتقع في حب الأخضر سيد المناضلين وتعشقه في رمزية إلى إمكانية أن ينبت الحب الصادق بين الشرق والغرب بين العربي والأجنبي بين المناضل والمحتل فلورا تحب الأخضر وتساعده وتجمع له المعلومات.
في سياق متصل نرى صورة المحامي الفرنسي جاك سبستيان المدافع عن   المناضلين فهو الذي ترافع عن الثوري الطبيب فيصل فنال جزاءه من قبل لاصوندر، فطاله القتل ودخل على أثره في غيبوبة.
قدمت الكاتبة رواية حافلة بالكفاح والمقاومة من أجل الأرض وتحريرها، مكرسة لغة معبرة وتقنيات سردية حوارية مفعمة بصورة الغربي التي تحمل الضدين.

القاهرة في 12 جوان 2020

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024
العدد 19444

العدد 19444

الأحد 14 أفريل 2024
العدد 19443

العدد 19443

السبت 13 أفريل 2024