المسألة الفكرية والنص الإسلامي

ضرورة الفهم وعوائق الاختلاف- 2

خالد ساحلي

يقر الفقه الإسلامي بالاجتهاد والذي يعرفه الغزالي بــ “ أن يبذل الوسع في الطلب حيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب.”   وأطلق الغزالي على المجتهد اسم “المستثمر الذي يحكم بظنه وأطلق على الأحكام الثمرات.”

النصوص الإسلامية لاتصافها بصفة العموم وسمة تعليل النصوص فقد فتحت الباب مشرعا للاجتهاد، وفرض الفقه الإسلامي شروط الاجتهاد لإحياء النص الإسلامي، وفق مواصفات خاصة. فالجد في قراءة مختلفة مهمة ضرورية للأخذ بالصحيح وترك السقيم؛ لأجل مساءلة مشروعة تنتصر لوظيفة العقل كمفتاح للفهم، وتضع مشكلة عدم كفاءة القارئ، وغياب المجتهد كونه أقصى ذاته بلون الطيف السياسي الذي تبناه، كونه نسخة من آلاف النسخ للصورة الواحدة التي ترفض فكرة الاختلاف والمراجعة للنص، وترفض اجتهاد العلماء بدعوى التصدي للانشقاق، وتقسيم الأمة وتجزئتها. وبالرجوع إلى التراكم المعرفي الإسلامي الأول نجده كان متنوعا يقر بالاختلاف، وشهد ثراء معرفيا ليس بمثل ما يشهده اليوم، فقد تخللته حَلْقات ودراسات، ومناظرات العلماء والفلاسفة لمختلف التيارات الفكرية والسياسية الشائعة آنذاك، لبلوغ الصواب ورفض دعوة الخروج عن النصوص الإسلامية، كما يحدث اليوم من جهات كثيرة، على اعتبار الإسلام يرفض الاختلاف، إلا أن
« الإسلام اهتم بتعريف العلاقة مع الآخر والتقنين لها، فقد أعترف بحقيقة الاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري”. من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
هناك تيارات كثيرة لها مؤاخذات وتنكر النص الإسلامي، وبخاصة التيار العلماني الذي يحاجج في مداخلاته ونقاشاته، مؤكدا انطلاقه من النصوص الإسلامية في فهم علاقة السياسة بالإسلام، وفي ذات الوقت يرفض الإسلام كمعطى لفهم الواقع، ويدعو لفصله عن السياسة، وفصله عن الدنيا، فدعوته غايتها إسكات النص، الذي انطلق منه لإيجاد أدلة تجعل الإسلام في دائرة العبادات وحدها؛ وتبعده عن ملامسة ما هو واقعي، رغم أن الإسلام له صلة بما هو إنساني في سياق العصر، ففي لب الدين يقبع النفيس من الحلول، إلا أن الجوهر مطلي بطبقات الوحل فلا يرى إلا المظهر. وفهم الدين هنا عند العلمانيين العرب والمسلمين مأخوذ من السياق الأوروبي الذي يعني “ أنه تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهي علاقة تعبر عن نفسها فقط في عقائد وشعائر يؤديها الفرد... أما الإسلام فأكثر من دين لأنه يحتوي الحياة كلها”.
 إن الفكر الذي يتقيد بالفهم الأوحد ويقبل الجاهز، يكذبه النص الديني الإسلامي؛ لأن الفكر معناه تفعيل الاجتهاد والقراءة الحديثة للدين، والتأويل المنفتح على التأمل الإنساني، فالنص الديني الإسلامي دائم الحياة، يحتاج فقط  إلى آلية يميز  فيها بين الادعاء والعمل، الذي يلامس واقع العصر، ويقدم نفسه فعّالا للعالم الذي يواجه فيه الإنسان الصعاب ويعدم السعادة.   إنه يتحقق بآلية التواصل والائتلاف مع العالم لتبيان النص وإظهاره وإيصاله إلى الآخر. إن النص الديني الإسلامي متجدد، وحقائقه تغيب عن العقل وتتجاوزه فالعقل يخطأ، وإمكانية نقله الحقيقة أو اكتشافها تكون ناقصة، وهذا النقص يملأه الاختلاف والاجتهاد والنقد من خلال إعادة القراءة والبحث.

محاولة التغيير وأهمية الإسلام في حياة الإنسان:

يمكن للنقد طرح كيفية التفكير في استخراج لب جوهر الإسلام، ونقله من عصر  بداياته الاشراقية إلى الراهن الخافت، بمراجعة البدايات والأخذ بأصولها، والتعمق في ما أتى بعدها من الاجتهادات، التي ظهرت في سياقات مختلفة بحسب الحاجة إليها، والتعرف على محتويات النص الديني الثرية، باحثا عن تفسير  رموزه الكثيرة التي لم يصل العقل إلى حلها بعد؛ والمتعلقة دوما بالإنسان وعلاقاته بعصره الذي يحياه، وتبيان دلالاتها التي تتوافق مع روح كل عصر، فالإسلام يهتم بالإنسان حيثما كان على اعتباره ابن آدم، لا فرق بينه وبين الآخرين، فهو يتجاوز الحدود الاجتماعية والجغرافيا والتاريخية. لقد مر الإسلام بمراحل مختلفة، وكان تلقي البشر له، بحسب الظروف والسياقات، لذا فإن الفكر الإسلامي خضع لإكراهات فيما يقدمه من نتاج فكري؛ بمعنى أن النظام الإسلامي شهد أوضاعا مختلفة في طريق التجربة، وهذا دافعا للاعتراف بأهمية الإسلام في مجالات حياة الإنسان. ومن هذا المنطلق، فإن الاختلاف يكون بالقراءة الحديثة المختلفة التي ترفض النظرة الأحادية الجاهزة المكررة بالنسخ والتلقين، ورفض الفهم الواحد إلى تعدد الفهوم، فالإسلام متجاوز لحدود المدارس، وللمقولات القديمة وللاجتهادات الفقهية ومناهجها المعروفة، بل يتعداها إلى مدارس جديدة، وإلى مقولات جديدة، وإلى مناهج جديدة كونه يقوم على مصدر  إلهي أبدي ــ القرآن ــ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى نصوص السنة، فهما أساس الأصول، وبذلك فإنه يقبل الإنصات للمقولات الأخرى المستندة على آليات النظام المعرفي، وبذلك فهو متجاوز لحدود الأحادية.
جاء الإسلام في الأساس لتغيير السائد كما جاءت من قبله المسيحية واليهودية، إلا أنه مختلف عنهما، ليغيرّ الواقع ويتجاوز الحالة السائدة، وما هو قائم فيها من تجاوزات على الإنسان من طرف أخيه الإنسان، جاء لينتصر للإنسان على الإنسان، ويقيده أخلاقيا ليتحرر ويحطم صنم الذاتية ويستعيد إنسانيته. فالإسلام يحوي داخله نزعة إنسانية كبيرة تتواءم مع كل عصر، لذا فالحاجة ملحة إلى بناء معرفة جديدة، وفهم جديد يتماشى مع العصر، بغية الوصول إلى مكانة الإنسان الحقيقية، وصلته بالخالق مصدر الحقيقة المطلقة.
يعبّر النص الإسلامي (قرآن وسنة) عن الشريعة جيدا، لأنه كلام الله منزه بالتعالي، منزّل مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منزه عن الخطأ، وكل نظرة عابرة لمعانيه هي نظرة بائسة من الريبة والجهل. فالمطالبين بإقصاء الإسلام والملصقين به تبعات سلوكات بشرية منحرفة، بجعله على هامش مجالات الحياة؛ هم في الغالب لا يجيدون الاستماع إلى نبضه وحركته، ويجهلون قراءة إمكاناته في إيجاد الحلول للقضايا الجديدة، ومعاصرته لها، إنهم يصادرون النص ويعملون على إسكاته. يقدمون الأحكام من خلال الفهم الخاطئ له، ليفكرون نيابة عن النص القرآني المنزّل بأحكام وتعاليم إلهية كاملة تامة، ولأن التفكير خارج النص ودون التعمق في باطنه، ومعرفة أصوله ودون الوقوف على إعجازه ومعانيه لن يحقق انكشاف المنحجب، ولن تتاح المعرفة الحقيقية للنص، وهؤلاء في الأساس إما لم يفهموا الحداثة “في تجلياتها الحالية سواء كحدث تاريخي أو كمفهوم نظري كونها إنتاج غربي في الزمان والمكان. حيث شهد الفكر الإنساني تحولا لم يشهده من قبل وكان له أثر كبير على كل مناحي الحياة الإنسانية... ولأول مرة التحمت الدعوة إلى احترام إنسانية الإنسان دون التمييز وإلى ترسيخ العقلانية كحكم في تقييم الأفهام والأفعال وتجسد ذلك في نظام ديمقراطي يحترم الرأي الآخر ويحتكم إلى رأي الأغلبية، وإلى جعل التجربة معيار المعرفة.”  وإما أنهم طبّقوا سياقات الحداثة على بنية مختلفة كل الاختلاف على البنية الأصلية. لذا لم يفهم بعض أنصار العلمانية حقيقة العلمانية وسياقاتها التي ظهرت فيها، وأصحاب هذه الدعوة قد تفسحوا في النصوص الإسلامية دون التدبر العميق في الآيات والتعاليم والأحكام وإنما أخذوا بسطحية البحث.

النقيض الرافض لمحاولة التجاوز

على النقيض هناك تيار سلفي متشدد، يقابل التيار العلماني المتطرف، ورغم ادعائه اقترابه من النص الديني الإسلامي، إلا أن وقوفه كان على زمن معين، وتاريخ معين دون الخروج منه، وأخذه بالفهم الأوحد والاحتماء به رفضا للمدارات الأخرى، فتعطّل النص كون الاجتهاد يتجاوز ما سبقه. فهذا التيار العامل على تعطيله وإبقائه في المتون والورق، ينتظر إيعاز السياسة له ليتحرك بحركة السلطة في سبيلها، لا في سبيل الإنسان، فقيّد الإسلام وسجنه، وشل حركته المتدفقة في إمداد المدلولات الصالحة لكل عصر، وربطها بعصر بعينه، ونزع منه روح الإجماع على التعدد وغلّق باب الاختلاف، وألغى ما تسترعيه الحاجة في كل عصر والذي ذهب إليه العلماء القدماء “وهو البحث في مقاصد الشريعة؛ حيث يقولون: أن علينا أن نبحث عن المقاصد الحقيقية والرئيسية لكل دين، ومن بعدها نحاول تحقيق الهدف الذي يتوخاه الدين، بحسب ما تقتضيه المرحلة والظرف الخاص، وبالأسلوب الذي يضمن لنا تحقيق ذلك الهدف و المقصد...دون الجمود على الأساليب و الطرق التي كانت متبعة في عصر النص. علينا أن نتحرر من أسر القوالب ونركز الجهود على تحصيل اللّب والمضمون (content)”.  فالتفسير الواحد يعني السطحية والسذاجة، وكل رؤية مغايرة مختلفة عما تقول به الجماعة الواحدة فهو خروج، وكل اجتهاد وتفسير مغاير عن هذا الإطار فإنه يفتقد إلى المشروعية الدينية. فهل “يجوز القول إن كافة تلك القيم التي حافظنا عليها قرونا طويلة من الزمان، والعكوف الذي دعتنا إليه تلك القيم على التربية الروحية ورؤيتنا للعالم، تبددت لنا فجأة على شكل أوهام مريرة، فاكتشفنا أن الواقع ليس سوى تهافت على القوة والاقتدار”؟

وسطية وغاية النفاذ إلى المتعالي:
 هناك تيار ثالث يجمع محاسن التيارين معا، ويغربل الفاسد فيهما، يتعامل مع النص الديني الإسلامي كونه معصوم متعالي، منزّه ومتحرك يصلح لكل زمن، ويقوى على إيجاد الحلول لقضايا الإنسان المعاصر، بالبحث والعودة إلى النص الأول ومعانيه، وبذلك معرفة المعاني الحقيقية وقياسها على قضايا الواقع، لأن النص الإسلامي حق فهو  شمس كله بتعبير جلال الدين الرومي، والعقل طارد للحيرة فهو ظل للحق، والنفاذ إلى الأصل هو التعامل مع النص المتعالي الكامل، المحكم برسالة العقل البشري، الخاضع لواقع وحتميات وظروف متناقضة، لذا فالنفاذ إلى الأصل المتعالي ليس كالنفاذ إلى النص البشري الذي يعتريه النقص، ويستشعر  قلقا وتصاحبه حيرة عميقة في تركه الهفوات. لذا فإن القارئ للنص البشري لا يخضع عقله للحذر مع النص؛ لأنه يتعامل معه كونه ناقصا يحتاج للنقد والتقويم والتصويب، ويسمح بوجهات النظر والمشاركة، أما النص المتعالي فإنه المحكم والمالك لكل المعاني التي تحتاج إلى من يخرجها ويضيئها، ويكشف ظواهرها الحاملة لكل الحقائق الكونية. فلابد من مناخ ملائم على كل حال حتى تزدهر تجليات الروح ويخصب بعضها بعضا. بهذا المعنى يتاح التحدث عن “روح العصر” سواء كانت روح العصر” جزءا من الوجود” أو ديالكتيك الظروف في عصر معين.  
وعندما نعلم لما تقبل الإنسان الدين فسنجد لأنه وصل إلى أعماقه وفسّر حالته النفسية والعقلية أحسن تفسير، فوجد ضالته في هذه الإضاءات وفضاءات التنوير التي فسّرت رموزه وإشاراته الكامنة والعابرة في ذاته؛ فكشف أسرار الوجود ورموزه، وأضفى على الحياة رونقا مجّد فيه أهمية الوقت والحياة، وأمده بالمعايير الأخلاقية والمبادئ التي تعينه في طريق الحياة؛ التي لن تكون إلا اختبارا لإرادة الإنسان في علاقاته مع الله والآخرين ومع الكون؛ وبذلك يصل إلى معنى وجوده ليصيغ السؤال من جديد.  والإنسان مع الإسلام يقدم السؤال لوجود العالم، ليجد جوابا شافيا يدفعه للبحث أكثر عن رموز وعلامات موجودة عند الشعوب والقبائل، من خلال التواصل والتعارف وهي أسمى غايات سمو الإنسان. فالتيار الثالث يبحث دائما عن إبعاد الدين على أن يكون في يد سياسة تستعمله في الحقد والضغينة والكراهية والحروب والتشتت والصراعات، وفي إنتاج الفرقة بقدر ما تكون وظيفته الحياة والإنسان، بأن يتحول جَنة في السعادة وجُنة في الوقاية من خلال “تعلم التفكير من جديد، وأن نتعرف على أنفسنا، كما هي لا كما نظنها، ونكون ما نحن عليه فعلا”.  
إن العلماني المتطرف قد يسيء فهم بعض المفاهيم لشعوره الزائف المصطبغ بالعلمانية الغربية، يلفّق التهم ويلصقها بالنص القرآني، أما السلفي المتشدد فذو  نزعة تراثية منغمسة في الماضي، فهو ممتنع عن تقديم الحياة العصرية بما تحمله من نقائص لحلول النص القرآني، وبهذا فهو يشوه صورته وإمكانيته لمسايرة الحياة، وبهذه الطريقة من التفكير يكون السلفي قد اقترب من العلمانية، وتطرف فيها وهو لا يدري، لأنه فصل النصوص الإسلامية عن الحياة، أما العلماني فيحكم  بظاهر النص القرآني والآيات، لتبرير فهمه المنحرف لاعتناقه الايدولوجيا. وقد نسيا أن الدين “ لا يتعارض مع الحداثة.  فبمقدور العالم والمفكر أن يصلي... ويتأدب بجميع الآداب الدينية، أو أن يسعى في تحصيل العلم وبلوغ مقام كبير في التحقيق والبحث في عين الالتزام بالآداب الدينية. ولذلك كان بعض الفلاسفة ــ مثل غابريل مارسيل، ماكس شلر ــ ملتزمين بالآداب الدينية ومتأدبين بها. أليس بوسعنا أن نستنتج مما سبق أنّ الدين لا يتعارض مع الحداثة، وأن بالإمكان التوفيق بين الاثنين؟ “   
-يتبع-
للموضوع مراجع

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024