الدبلوماسية الدينية..

تعزيـز امتـداد الجزائر في عمقهـا الاستراتيـــجي

آسيا قبلي

 تتعدّد أدوات السياسة الخارجية التي تستعملها الدول في تفاعلها مع محيطها الخارجي، منها الصلبة مثل الأداة العسكرية التي تعتمد على استعمال الأسلحة ونشر الجيوش، ومنها اللينة وتتمثل في الدبلوماسية. وتتنوّع هذه الأخيرة بين دبلوماسية تقليدية تتمثل في السفارات والقنصليات وغيرها من التمثيليات الدبلوماسية، ومنها غير التقليدية، وهذه تتفرّع إلى الدبلوماسية الثقافية والاقتصادية والدينية. وفي هذا المقال سنركّز على الدبلوماسية الدينية ودورها في تفعيل السياسة الخارجية للدول، وكيف وظفت الجزائر هذا الثقل لاسترجاع مكانتها في محيطها الإقليمي، خاصة من خلال استثمار الطرق الصوفية التي كان لها دورا تاريخيا في دحر الاستعمار، ومازالت تؤدي دورا في ترقية السلم الاجتماعي ومواجهة التطرّف الفكري والديني في عديد الدول الأفريقية.

تعدّ الدبلوماسية الدينية مكملا للدبلوماسية التقليدية، والأمثلة كثيرة من الماضي البعيد والقريب، في استخدام الدول للعامل الديني لتنفيذ سياستها الخارجية، والتفاعل في محيطها الخارجي. فإعلان قيام الكيان الصهيوني، كان بتبرير ديني، وهو إقامة دولة لليهود المشتتين في الأرض بناء على الرواية الصهيونية، وبتأييد من الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ أجندتها السياسية في المشرق العربي الذي أضحى يسمى الشرق الأوسط، وبقي العامل الديني مؤثرا في توطيد علاقة أمريكا بالكيان، ويتضحّ هذا من خلال مواقفها من القرارات الأممية في مجلس الأمن الداعمة له.
وفي نهاية القرن الماضي، برزت أطروحة صامويل هانتينغتون حول صدام الحضارات التي استعملت لتبرير اختلاق عدو خارجي جديد خلفا للاتحاد السوفييتي، حيث إن فكرة العدو الخارجي تعتبر محورية في السياسة الخارجية الأمريكية، ومذ ذاك ظهر “الخطر الأخضر”، وبدأ العدوان على الدول الإسلامية والعربية بدءا بحرب الخليج الثانية وما تلاه من حصار العراق الذي انتهى بإسقاط النظام نهائيا في 2003. وقبل ذلك غزو أفغانستان وتدميره على مدار عقدين من الزمن تحت مسمى الحرب على الإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر. وقبل كل هذا وذاك، الحملات الصليبية على الشام في القرون الوسطى، والمدّ الاستعماري ضد ما أصبح يسمى دول العالم الثالث والتي كانت كلها بمبرّر ديني تبشيري. 

 دور الزوايا في مقاومة الاحتلال الأوروبي

هذا عن الاستعمال الغربي للعامل الديني في السياسة الخارجية، بالمقابل، وظّفت الدول المستعمَرة أو المعتدى عليها العامل نفسه من أجل مقاومة العدوان، حيث كان للشخصيات الدينية دور بارز في مقاومة الاستعمار والغزو الأجنبي. ففي فلسطين قاوم الشيخ عز الدين القسام شيخ الطريقة التيجانية هناك، المحتل الفرنسي والبريطاني والصهيونية التي بدأت تتغلل في البلاد.
وفي الجزائر، حاربت الطّرق الصّوفية وجود الاحتلال منذ السّنوات الأولى، وعلى رأسها مشايخ معروفين من أمثال: الأمير عبد القادر ووالده محيي الدّين، والشّريف بن محمد بن عبد الله المعروف بـ “بومعزة” الّتي امتدّت من الشّلف إلى بسكرة، والشّيخ بوعمامة، وغيرهم كثيرا.
 وكتب قادة الجيش الفرنسي عن دور هذه الطّرق في شحن الهمم وحشد الصّفوف لمقاومة المحتل، فجاءت معظم مذكراتهم وتقاريرهم ورسائلهم تؤكد الدور المحوري لمختلف الطرق الصوفية في مقاومة المحتل من خلال ترسيخ تعاليم الدين الإسلامي، وفي هذا الصدد، كتب الملازم الفرنسي “بوسري” بعد ثورة 1846: “إن مشايخ الزوايا يختارون في تدريسهم للقراءة نصوصا من القرآن معادية لنا، مما يحطم فيهم، وبسرعة، الشعور الذي سعينا لتطويره فيهم من طرف مؤسساتنا، وتعتبر التأثيرات الدينية من ألد أعدائنا، والتي يجب أن نخشاها ونخطّط لها في سياساتنا، لقد كانت القبائل الأشد عداء لنا، هي التي ينتشر فيها التعليم الإسلامي”.
كما قاومت الزوايا الحملات التبشيرية في مختلف أنحاء إفريقيا الغربية، ففي السينغال على سبيل المثال لا الحصر، عمل الحاج عبد الله نياس الذي نشر الإسلام في عموم السينغال، وخليفته الشيخ إبراهيم نياس الكولخي، على التحريض ضد الحملات التبشيرية، ويذكر كتاب بعنوان “25 سنة على رحيل الشيخ” ألفه إبراهيم تيام، وهو من أحفاد الشيخ، أن الشيخ نياس “كان معروفا بمواقفه الشجاعة لدحض محاولات الجمعيات التبشيرية التي كانت تساندها السلطات الاستعمارية لاستقطاب المسلمين المحتاجين، فيبين لهم أن الرزق على الله، فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إنه من يتعفّف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله”. وكان يردّد أن “السينغال لم ولن تكون أبدا لقمة سائغة في أفواه الاحتلال الأجنبي”.
قد يطول السرد حول إسهامات الزوايا في محاربة الاستعمار الفرنسي، لكن ما يستشف من هذه الأمثلة هو أن ما واجهه المحتل الفرنسي من مقاومة شرسة من مختلف الزوايا سواء في الجزائر أو في مختلف دول غرب أفريقيا، دفعه إلى التغلغل داخلها لفهمها، حيث قال “ماك ماهون” في 1851: “يجب على الإنسان أن يقضي حياته كلها في الزاوية حتى يفهم ما يجري فيها وما يقال”. والهدف من ذلك هو تدمير هذا المكوّن وزرع الشكّ فيه، وقد استطاع الاستعمار الفرنسي تشويه دور الزوايا بإدخال الدجل والشعوذة لتشويه العقيدة، وإبعاد الشعوب المسلمة عن تعاليم دينها، بما يسهّل إخضاعها.

مواجهة الفكر المتطرّف

أما في الوقت الراهن، فقد كان للزوايا دور في محاربة الفكر المتطرّف الدخيل على المجتمعات الأفريقية، حيث واجهت الزوايا الجماعات المسلحة التي انتشرت في إفريقيا، وتدعي زورا “الجهاد”، بيد أنها جماعات إرهابية تقتل الأبرياء.
وفي هذا السياق، عقد في العاصمة التشادية نجامينا في 2020، بمناسبة زيارة لخليفة العام للطريقة التجانية، علي بلعرابي، أكد المشاركون فيه على مبادئ الطريقة التيجانية الداعية إلى الاعتدال ونبذ التطرّف، ودعمها الحكومة التشادية في حربها ضد الجماعات المسلحة ذات المطالب الدينية على غرار بوكو حرام، والقاعدة وتنظيم الدولة، والتي تستعمل العنف والتصفية الجسدية واسعة النطاق لتحقيق مطالبها. 

 الجزائر وتفعيل الدّبلوماسية الدّينية

  انتبهت الجزائر إلى أهمية الدبلوماسية الدينية في حل النزاعات انطلاقا من تجربتها الداخلية في إطفاء نار الفتنة، واستثمرت في التأثير الكبير للعامل الديني من أجل نقل تجربتها إلى الدول الإفريقية التي تعاني من نزاعات داخلية، فاستعانت بانتشار الطرق الصوفية، وعلى رأسها الطريقة التيجانية، من أجل تعزيز الرّوابط القبلية والروحية بين قبائل الصّحراء الجزائرية وقبائل دول الجوار، لما كان لها من تأثير في لحمة الشعوب ضد المستعمر الفرنسي.
 وترتكز الدبلوماسية الدينية الجزائرية على نقل تجربتها باعتبارها نموذجا يحتذى به لفضّ النزاعات وإخماد الفتن الداخلية على شقين، أحدهما داخلي، تمثل في تأطير الخطاب الدّيني في المساجد لتجريد المتطرفين من الغطاء الدّيني لتمرير أفكارهم الهدامة، و«استعادة المرجع الدّيني الوطني وتدعيمه، من خلال اعتماد قانون يخص المساجد بهدف استعادة المسجد كونه مؤسسة دينية عمومية، ولها تأثير بالغ في المجتمع، لاستئصال الأفكار المتطرّفة وردعها، وحماية الأسرة والشّباب منها. ووضع دليل وطني لتكوين الأئمة يُحدّد صفات الإمام، وواجباته، والنّشاطات اليومية الواجب عليه القيام بها في سبيل التّكوين الجيد. وتكوين المرشدات الدّينيات على غرار تكوين الأئمة، مهمتهن العمل الجواري مع العائلات، خاصة مع النّساء تسهيلا للتّواصل. وعلى الصعيد الخارجي: عمدت الجزائر إلى تكوين الأئمة الأفارقة في المعاهد الجزائرية، حيث قامت بالاتفاق مع المركز الإفريقي للدّراسات والبحث حول الإرهاب، ورابطة علماء ودعاة وأئمة دول السّاحل، على تطوير برنامج تكويني خاص بعلماء وأئمة ودعاة إفريقيا، يرمي للحدّ من انتشار أيديولوجيات التّطرّف ونقل التّجربة الجزائرية في هذا الجانب، بعد النّجاح الّذي حقّقته داخل الجزائر في تحييد التّطرف.
ويمسْ البرنامج فاعلين من الدّيانات الأخرى، ومن محاور البرنامج: “تحسين استخدام الأئمة لوسائل الإعلام، ومفهوم الإصلاح في الإسلام” و«دور الزّكاة والوقف في الحدّ من المشاكل الاجتماعية لدى الشّباب”.
هذا، إلى جانب إنشاء مدرسة وطنية مخصّصة للتّكوين التّحضيري وتأهيل إطارات إدارة الشّؤون الدّينية والأوقاف، وفتح تخصّص جامعي جديد بعنوان “الإمامة والإرشاد الدّيني”. كما فتحت معهدين اثنين في تمنراست وإيليزي لاستقبال الطّلاب من دول السّاحل، إضافة إلى إطلاق رابطة العلماء في دول السّاحل من أجل إسلام معتدل وسلمي ومتسامح، والتحضير لإنشاء أكاديمية لعلوم الفقه تجمع المذاهب الإسلامية وتصدر الفتاوى، مكوّنة من مختصين في الفقه وأطباء وعلماء اجتماع وحقوقيين، ومشروع إنشاء جمعيات دينية تتكفل بالنّشاط الدّيني داخل المساجد وأماكن العبادة وخارجها، إلى جانب مشروع قيد الدّراسة لإنشاء مؤسّسة مفتي الجمهورية.

الصوفية مخزون زاخر

وتمتلك الجزائر مخزونا دينيا زاخرا ومؤثرا في عموم إفريقيا، وخاصة في غرب إفريقيا، هو الطريقة التيجانية، باعتبار أنها أكبر الطرق الصوفية من حيث عدد المريدين البالغ عددهم قرابة 500 مليون،  وينتشر مريدوها في تشاد والنيجر ونيجيريا وبشكل أقل في السينغال ومالي. وتعتبر نيجيريا أكبر معقل لأتباع الطريقة التيجانية، ففي هذه الدولة وحدها يوجد نحو 80 مليون مريد.
والطريقة التيجانية إحدى الطرق الصوفية المنتشرة في دول الساحل وشمال إفريقيا، سميت كذلك نسبة إلى الشيخ أحمد التيجاني، المولود سنة 1737م، بقرية عين ماضي، ولاية الأغواط الجزائرية، تنقل بين عدد من الدول العربية والإفريقية، نشر خلالها طريقته، حتى وصل صيتها إلى أوروبا وآسيا، توفي العلامة بمدينة فاس المغربية، سنة 1815. حيث أقيم له ضريح.
وفي إطار توظيف العامل الدّيني الرّوحي في توحيد الرّؤى ومواجهة التّهديدات الأمنية الجديدة، احتضنت الجزائر أكبر تجمع للطّريقة التّيجانية، في مدينة البيّض، والّتي أصبحت عاصمة للطّريقة بأكثر من 470 مليون مريد سنويا، من مختلف البلدان والقارات، يزورون مدينة “الفتح التّيجاني بوسمغون” بالبيّض، ومسقط رأس الشّيخ أحمد التّيجاني مدينة عين ماضي بالأغواط.
وفي منتصف شهر ديسمبر الجاري، نظمت الجزائر ملتقى دوليا حول الإمام المغيلي. هو الشيخ محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي التلمساني، عالم وفقيه مسلم جزائري ولد في تلمسان غرب الجزائر عام1425 في أواخر عهد مملكة بني زيان، كان له دور كبير في نشر الإسلام في أدغال وممالك إفريقيا وما وراء بلدان المغرب العربي، كما اشتهر بقيادته لحرب ضد اليهود في منطقة توات بصحراء أدرار حاليا، بسبب محاولتهم مضايقة المسلمين. ومن بين محطاته الكثيرة دولة نيجيريا، حيث أسّس حيا هناك قبل خمسة قرون أسماه “فانيسو” بمعنى انتهى الفساد، ونشر هناك الطريقة الصوفية القادرية بتكليف من العلامة عبد الرحمان الثعالبي. ويعيش حاليا في نيجيريا في حي “فانيسو” أكثر من نصف مليون حفيد.
وفي إشارة واضحة إلى أهمية استثمار العامل الديني في الحفاظ على تواصل الجزائر في امتدادها الطبيعي وعمقها الاستراتيجي الإفريقي، قال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، بمناسبة الملتقى إن  “الجزائر التي خدمت إفريقيا في ماضي عهدها، ستواصل هذه المسيرة في حاضرها ومستقبلها، مستلهمة كل ذلك من مجد الأسلاف والأجداد”.

حماية الموروث من السطو

يحاول النظام المغربي السطو على الموروث الثقافي والديني الجزائري بكل أنواعه، إذ يحاول أن ينسب لنفسه معظم الطرق الصوفية ذات المنشأ الجزائري إن لم نقل كلها. وفي هذا الإطار استغل وجود قبر العلامة التيجاني الذي توفي بفاس المغربية لتزوير التاريخ، وجعل المغرب منشأة الطريقة. ونظم من أجل ذلك عددا من الملتقيات حول الطريقة التيجانية ومؤسسها. لكن المشاركين في الملتقى الدولي حول الإمام المغيلي المذكور آنفا، أكدوا أن منشأ الطريقة التيجانية هو الجزائر وليس المغرب. وأمام تعرّض الموروث الديني الجزائري إلى السطو من طرف نظام المخزن، فإنه من الضرورة بمكان أن تتقدمّ الجزائر بطلب إلى منظمة اليونيسكو لتوثيق الطرق الصوفية، على رأسها التيجانية، كموروث لا مادي خالص للجزائر، أسوة بطلبها حول أحد الطبوع الثقافية الذي أكدت المنظمة خلال الاجتماع الأخير المنعقد نهاية نوفمبر ومطلع ديسمبر أنه موروث شعبي جزائري خالص.
وفي الختام، تتأتى أهمية الدبلوماسية الدينية من أهمية العامل الديني في حياة الأفراد والدول، فقد كان على مرّ العصور ذا تأثير بالغ، كذلك تأتي هذه الأهمية من استغلال الدول الغربية التي تدّعي العلمانية لعامل الدين في سياستها الخارجية، وقد ذكرنا من ذلك أمثلة قيام الكيان الصهيوني على أساس ديني، والعدو الخارجي في السياسة الخارجية الأمريكية لتبرير حرب الخليج الثانية ثم الحرب على الإرهاب، وهي حرب ضد الدول التي ينتشر فيها الاسلام فقط.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024