الدّبلوماسية الدّينية الجزائرية واحتواء ظاهرة التّطرّف الدّيني

من تسيـير مسجـد باريـس إلى المؤتمـر الدّولي حول العالم المغيلـي

محمد سعيد بوسعدية باحــــث حـــر

 لم تول السّلطة في الجزائر غداة الاستقلال أي أهمية تذكر للدبلوماسية الدينية نظرا للسياق التاريخي الذي عرفته فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والتي امتازت بالحرب الباردة بين الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي. لذلك كان اهتمام الدبلوماسية الجزائرية منصبا أكثر على حركة عدم الانحياز والتعاون جنوب-جنوب وقضايا الأمة العربية، وعلى رأسها المسألة الفلسطينية.

 إلّا أن استفحال الظاهرة الدينية في الثمانينيات من القرن الماضي بسبب «الثورة الإسلامية الإيرانية» و»الجهاد الأفغاني»، وتنامي وبروز الحركات الإسلامية في الجزائر إلى العلن، دفعا السلطة إلى الاهتمام أكثر بالأمن الديني وبالدبلوماسية الدينية قصد احتواء الظاهرة الدينية في الجزائر نظرا لتداخلها وتشابكها مع منظمات دينية عابرة للدول، كما هو عليه الحال حركة الإخوان المسلمين العالمية، وجماعة التبليغ والدعوة، والحركة الوهابية التي عرفت انتشارا كبيرا في محور طنجة-جاكرتا وخارجه.       

   1- الاحتفاظ بالوصاية على مسجد باريس

تعاقب على رئاسة مسجد باريس منذ تدشينه في سنة 1926 إلى غاية بداية الثمانينات، كل من قدور بن غبريط (1926-1954)، ثم ابن أخيه أحمد بن غبريط (1954-1956)، ثم حمزة بوبكر الذي غادر المنصب في سنة 1982، في ظروف سياسية شهدت فيها صراعا حول العمادة وتسيير مسجد باريس بين دول منافسة. وقد استطاعت الجزائر بفضل حنكتها الدبلوماسية فرض أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في شخص الشيخ عباس بن الشيخ الحسين، الذي وافته المنية في سنة 1989، وعوّضه الطبيب المجاهد تيجاني هدام الذي ترأّس عمادة المسجد إلى غاية استدعائه من قبل السلطة لشغل منصب عضو المجلس الأعلى للدولة في يناير 1992.
في ظل الظروف الصعبة التي مرّت بها الجزائر بعد إيقاف الدور الثاني من الانتخابات التشريعية في يناير 1992، ومغادرة تيجاني هدام عمادة المسجد، حاولت السلطة الفرنسية عبر وزارة الداخلية استرجاع تنظيم مسجد باريس لصالحها رغم عقبات اللائكية وقانون فصل الكنيسة عن الدولة، كما استغلت بعض الدول الإسلامية هذه الظروف لمقايضة السلطة في الجزائر لاحتلال عمادة المسجد. أمام هذه الأوضاع العصيبة - خاصة وأنّ بعض الإسلاميين الإنقاذيين أرادوا الاستحواذ على منبر المسجد لتمرير نشاطاتهم السياسية أمام المهاجرين الجزائريين الذين كانوا ولازالوا يرتادون كثيرا مسجد باريس - اهتدت الدبلوماسية الجزائرية إلى حل وسط مع الحكومة الفرنسية حيث تمّ تنصيب دليل بوبكر ابن حمزة بوبكر، الذي بقي في رئاسة العمادة إلى غاية 2020، أين عوضه المحامي الجزائري شمس الدين حفيظ الذي لازال في منصبه إلى غاية كتابة هذه السطور (ديسمبر 2022).


2- تنظيم الملتقيات الدّولية حول الفكر الإسلامي وتجنيد العلماء الوسطيّين
تعود فكرة تنظيم الملتقيات الدولية حول الفكر الإسلامي إلى فترة بومدين. وكان المفكّر الجزائري مالك بن نبي صاحب الفكرة في بداية الأمر، قبل أن تتبنّاه السلطة عن طريق وزارة الشؤون الدينية والأوقاف. لم يكن التطرف الديني في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ذائعا في البلاد بسبب انتشار الإيديولوجية الاشتراكية وقبولها من أغلبية الشعب الجزائري، الذي كان يرى فيها الحل والخلاص من مشاكله اليومية التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي. لذلك كانت عملية احتواء السلطة للتطرف الديني سهلة المنال، وقد انعكس ذلك على موضوعات الملتقيات الدولية حول الفكر الإسلامي التي كانت محاورها تدور حول التنمية الاقتصادية وضرورة التصنيع في العالم الإسلامي والعدالة الاجتماعية في الإسلام، وقضايا المرأة والشباب في الإسلام ودوره في كفاحنا التحريري، إلى غير ذلك من المواضيع التي كانت لها علاقة مع المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية السائدة في تلك الفترة.
تزامن وصول الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الحكم مع بروز ما يسمى بالصحوة الإسلامية، التي عرفت رواجا وذيوعا بكامل محور طنجة-جاكرتا بسبب الثورة الإسلامية الإيرانية والجهاد الأفغاني، وانتشار الوهابية بقوة كرد فعل على محاولة تصدير الثورة الخمينية الشيعية إلى الخارج. وقد عرفت الجزائر خلال فترة الثمانينات على غرار باقي البلدان العربية، بروز الظاهرة الإسلامية وخروجها إلى الشارع للمطالبة بتطبيق الشريعة وأمور أخرى. كما تجلى التطرف الديني في تنظيم بويعلي الراديكالي الذي حمل السلاح ضد السلطة. وبغض النظر عن الاحتواء الأمني للتطرف الديني، فقد لجأت السلطة أيضا إلى الاحتواء الفكري والدبلوماسي للظاهرة، حيث ولّت السلطة أهمية كبرى للملتقيات الدولية حول الفكر الإسلامي التي كان يحضرها رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد، إلى جانب أغلبية أعضاء الحكومة والحزب. كما تمحورت مواضيع الملتقيات حول مسائل لها علاقة ولو بطريقة غير مباشرة باحتواء ظاهرة التطرف الديني كفلسفة التربية في الإسلام، والحياة الروحية في الإسلام، وعلوم القرآن الكريم والسنة النبوية، والغزو الثقافي والمجتمع الإسلامي المعاصر.
ولم يقتصر الحضور الأجنبي للملتقيات الفكرية على علماء العرب والمسلمين، بل تعدى ذلك إلى العلماء الغربيين على غرار المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه صاحبة الكتاب «شمس العرب تسطع على الغرب»، والتي شاركت بعدة مداخلات من بينها: «تأسيس الجامعات في أوروبا تحت تأثير الحضارة العربية»؛ وموريس بيكاي صاحب كتاب «التوراة والأناجيل والقرآن بمقياس العلم الحديث»، والذي شارك هو الآخر بعدة محاضرات من بينها: «الأسباب الدينية لازدهار الحضارة الإسلامية»؛ والباحث الإسباني سلفادور غوميث نوغالس صاحب المداخلة «تأثيرات ابن رشد في أوروبا وتصحيح التفسيرات الخاطئة عنه». كما لجأت السلطة إلى الاستنجاد بعالم دين وسطي والمتمثل في شخص محمد الغزالي المصري، الذي ترأّس المجلس العلمي للجامعة الإسلامية بقسنطينة، كما فتحت السلطة للعالم المصري المنابر المسجدية وأبواب التلفزة العمومية لإلقاء دروسه الوسطية، والتي يبقى الهدف منها هو محاربة التطرف الديني واحتوائه فكريا ودينيا.


3- تأسيس رابطة علماء وأئمّة ودعاة السّاحل
بتاريخ 29 يناير 2013، وبمبادرة جزائرية، تمّ الإعلان عن تأسيس رابطة علماء وأئمة ودعاة الساحل، وذلك بفندق مزفران بمدينة الجزائر. وتضم الرابطة علماء من الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو، وهي الدول المؤسسة للرابطة، فيما انضمّت فيما بعد كل من التشاد ونيجريا. وتهدف الرابطة إلى مواجهة التطرف والغلو الذي أصاب الكثير من شباب الأمة الإسلامية، كما تهدف إلى محاربة التيارات الفكرية المنحرفة عن جادة الصواب والقيم الإسلامية السمحة، والدفع نحو السلم والاستقرار والوئام والأمن الفكري من الانحرافات والخروج عن ملة الجماعة. وقد لعبت الرابطة دورا فعالا في استتباب الأمن وتجفيف العمل المسلح خاصة بمنطقة شمال مالي والساحل عموما، إذ دعت مرارا التنظيمات المسلحة المتطرفة إلى التوبة ووضع السلاح وتجنيب المنطقة الانفلات والفوضى. ومن أبرز علماء الجزائر الذين لعبوا دورا محوريا في الرابطة نذكر يوسف بلمهدي الوزير الحالي للشؤون الدينية، والعالم الصوفي يوسف مشرية وكمال شكاط عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولخميسي بزاز الأمين العام الحالي للرابطة.   


4- تأسيس الاتحاد العالمي للتّصوّف
استطاعت السلطة في الجزائر تجنيد عدّة طرق صوفية عبر العالم الإسلامي لمحاربة التطرف الديني والفكر التكفيري، وذلك من خلال تأسيس الاتحاد العالمي للتصوف واختيار الجزائر رئيسة له من قبل المشاركين، حيث تمّ انتخاب المرحوم الدكتور عمر محمود شعلال الذي كان رئيس الاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية، رئيسا لهذه المنظمة الدينية العالمية. وقد حدث ذلك إثر تنظيم المؤتمر العالمي الأول للتصوف بمدينة مستغانم الجزائرية يوم 20 مايو 2016، حيث حضرها ممثلي الطرق الصوفية بالجزائر ومن أربعين بلدا إسلاميا، إضافة إلى ممثلي الجالية الإسلامية من عشرة بلدان.
ومن بين وصايا المؤتمر الذي دامت أشغاله ثلاثة أيام، تأسيس أكاديمية التربية الصوفية وتأسيس وإدارة موقع على شبكة الانترنت ينشر الفكر الإسلامي الصحيح والتربية الروحية السليمة، وتكليف لجنة من الفقهاء المتخصصين بمراجعة الموروث في كل مجالات التصوف، وعرضه على ميزان الكتاب والسنة وتنقيته من شوائب ما يخالفها، والعمل على تصحيح المفاهيم والمحافظة على نقاء الفقه الصحيح وأصالته وتوجيه السلوك حتى يكون سلوكا يجسد القرآن قولا وفعلا وعلى هدي السنة النبوية.


5- ملتقى الجزائر الدّولي حول الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي
يمكن إدراج هذا الملتقى ضمن الدبلوماسية الدينية باعتباره جمع عدّة علماء من منطقة الساحل وباقي إفريقيا، على غرار دول مالي وبوركينافاسو والسنغال ونيجيريا، وكذا من خارج القارة كفلسطين والباكستان والهند والعراق. تنظيم الملتقى حول هذا العالم يؤكد أهمية البعد الإفريقي في السياسة الخارجية للوطن، خاصة وأنّ منطقة الساحل أمست وكرا للجماعات الدينية المتطرّفة، ولكن أيضا منطقة صراع بين القوى الكبرى خاصة فرنسا وأمريكا وروسيا والصين، وذلك نظرا لما تحتويه هذه المنطقة من خيرات وثروات باطنية.
لجوء الجزائر للدبلوماسية الدينية واستعمال ورقة العلماء والطرق الصوفية في المنطقة، يتيح احتكار هذه الآليات المحلية التي لا تقدر عليها الدول الكبرى نظرا لتعقيداتها. وقد أكّد وزير الشؤون الدينية في تدخله إلى أهمية البعد الإفريقي للجزائر، الذي يبقى خيارا استراتيجيا يمكّن شعوب المنطقة من تحقيق طموحاتها، وذلك بتعزيز العمل الدبلوماسي والسياحة الدينية والاستفادة من عمق الطرق الصوفية وامتدادها في إفريقيا، وهو ما يؤدّي إلى تحقيق الانسجام في المواقف السياسية، وتفعيل التعاون الاقتصادي وترقية التبادل العلمي والثقافي، وإرساء الاستقرار والأمن والسلم في العالم.
وتمحورت المداخلات المبرمجة خلال الملتقى العلمي إلى عدّة مواضيع من بينها:
-  الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي: السيرة والمسيرة؛
-  البعد الإصلاحي التحرري في الفكر المغيلي وامتداداته الإقليمية والدولية؛
- الفكر السياسي لدى الإمام المغيلي: مشروع رائد في بناء الدولة وإرساء لأولى ركائز الحكم الراشد»؛
- مقاربة المغيلي للوحدة والسلام في إفريقيا، رسائل هادفة ونصائح خيرة في خدمة الإنسانية.
نشير إلى أنّ الإمام المغيلي ولد بمدينة تلمسان سنة 1425م أيام حكم الزيانيين، وتوفي بأدرار سنة 1504، ودفن بالمكان الذي يحمل حاليا اسم زاوية المغيلي، ببلدية زاوية كونتة بولاية أدرار. درس بتلمسان ثم انتقل إلى مدينة الجزائر أين تلقّى تعليمه على يد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، كما انتقل إلى مدينة بجاية لانتشار العلم بها في تلك الحقبة. سافر بعدها إلى أرض التوات ومنها إلى الصحراء الكبرى، حيث ساهم في انتشار الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية بمنطقة الساحل المسماة في ذلك الوقت بأرض السودان.
ترك عدّة مؤلفات في الفقه والعقيدة والمنطق والتفسير والحديث والبيان، نذكر منها:
-  شرح مختصر خليل؛
-  مصباح الأرواح وأصول الفلاح في العقيدة؛
-  لب اللباب في رد الفكر إلى الصواب في المنطق؛
-  تفسير الفاتحة؛
-  الأربعون حديثا وشرحها؛
- شرح التبيان في علم البيان في ثلاثة العلوم: المعاني والبديع والبيان.
ملاحظة: جزء من المقال تمّ اقتباسه من كتابي المعنون: احتواء الإسلام السياسي من قبل السلطة: «التجربة الجزائرية».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024