مع مطلع القرن العشرين وخفوت صوت المقاومة الشعبية المسلحة التي خاضها الشعب الجزائري ضد الغزاة الفرنسيين، وإحكام سيطرتهم التامة على كامل التراب الوطني ومقدّرات الأمة، وما أعقبها من إصدار لقوانين جائرة في حق الشعب؛ على غرار: قانون المحاكم الرّادعة سنة 1902، وتفعيل قانون الأهالي الذي تم إصداره سنة 1871، والذي يَعْتَبر الجزائريين في المرتبة الدنيا، والقرار الذي ينص على عدم السماح لأي معلم جزائري أن يفتح مدرسة لتعليم العربية سنة 1904، وقانون فصل الدين عن الدولة في 1905، وقانون التجنيد الإجباري سنة 1912 في حق الشّبان الجزائريين..وكذا الدفع عُنوة بالآلاف للمشاركة في الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918)، وعودة الآلاف منهم في توابيت جرّاء حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، يُضاف إليها كل أشكال القهر والظلم والتهجير والنفي، وعمليات التفقير والتجهيل والتنصير ومحاربة الدين الإسلامي واللغة العربية والمحاكم الشرعية والمؤسسات الدينية والتعليمية والمساجد والزوايا ومصادرة الأراضي والأملاك والأوقاف الإسلامية..مع إطلاق العنَان للمستوطنين (الكولون) الذين أحكموا قبضتهم على مفاصل الإدارة والاقتصاد والمال، وأوغلوا في تغريم الشعب وفرض الضرائب على كاهله..
لم يكتف الفرنسيّون بكل هذه الجرائم ضد الإنسانية والأعمال الزجرية العقابية الجماعية، والتفنن في ممارسة كل أصناف الظلم الاستعماري والتمييز العنصري والأعمال الإرهابية..بل عمدوا إلى الاستعداد الفعلي لإحياء الذكرى المائوية الأولى لاحتلالهم الجزائر (1830 ــ 1930)، حيث شرعوا في ذلك منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي، وتحديدا سنة 1927؛ ذكرى حادثة المروحة وحصار الجزائر خلال سنة 1827. وقد بدأت هذه الاحتفالات بصفة رسمية وفعلية في جانفي 1930، واختتمت في 05 جويلية 1930؛ ذكرى نكبة بداية الاحتلال الفرنسي الرسمي للجزائر.
توزّع برنامج هذه الذكرى المُخْزِية على تنظيم مؤتمرات وملتقيات ومعارض للصور وعرض للأفلام، وتنظيم الاستعراضات والمهرجانات الضخمة الرياضية والفنية والعسكرية في كامل العمالات الثلاث (الجزائر، قسنطينة، وهران)، إلى جانب طباعة سلسلة من الكتب والمطبوعات والمجلات والملصقات.. والملاحظ أن إدارة الاحتلال قد أَشْرَكَتْ كل فعاليات المجتمع الفرنسي بالجزائر (الجيش، رجال الأمن، الأطباء، الفنّانين، الرياضيين، المثقفين، المؤرخين، المعلمين، الإداريين، الصحفيين، رجال الدين..).
وحسب ما أكّدته الأستاذة خديجة بقطاش في دراسة لها فقد “سخّرت الخزينة الفرنسية مبلغ 130 مليون فرنك، وافق عليه البرلمان الفرنسي، وتمت دعوة 80 ألف زائر من بينهم حوالي 306 برلماني من فرنسا، ونُشر حوالي 14 ألف مقالة في مختلف الصحف بالجزائر وفرنسا، ومن الصحف الباريسية التي ساهمت بمقالاتها صحف: لوماتان، لوفيغارو، والباريسي الصغير، ونُشر حوالي 120 ألف كُتيب وكراسة وُزعت على مختلف المكتبات والمؤسسات التربوية”.
وقد بدأت الاحتفالات بإقامة تمثال للجنرال دو لامورسيير بقسنطينة، الذي سَلَّم إليه الأمير عبد القادر سيفه سنة 1847، إلى جانب تكريم مجرمي الحرب الفرنسيين ــ الذين قمعوا المقاومات الشعبية بوحشية، وأبادوا قبائل بأكملها ــ وإطلاق أسمائهم على مؤسسات وساحات عامة وشوارع عبر الوطن. وقد عملت جزائر الاستقلال بعد ذلك على إزالة هذه الأنجاس من التماثيل والأسماء الإجرامية.
استعراضـات عسكريـة لجيـش الغــزاة
وإضفاءً للطّابع الرّسمي للاحتفالات، فقد قام رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك غاستون دومرغ بزيارة إلى الجزائر في ماي 1930، ومما زاد في حنق الجزائريين وأثار مشاعرهم خلال هذه الاحتفالات، الاستعراض العسكري الضخم الذي جَرَى في سيدي فرج، وتحديدا يوم 14 جوان 1930 بحضور الوالي العام للجزائر، باعتبار أن كُلا من المكان والتاريخ يحملان ذكرى أليمة في نفوس شعبنا، يوم دَنّسَ الغزاة الفرنسيون أرضنا ولأول مرة.
وممّا يؤسف عليه أن مجموعة من بني جِلْدَتِنَا قد حضروا هذه الاحتفالات المُقرفة وشاركوا في فعالياتها!! بل أن منهم من ألقى خُطَبًا بالمناسبة! لا سيما من بعض الرسميين والإداريين الذين خافوا من زوال نعمتهم وذهاب مناصبهم!!
إلى جانب الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظم بشوارع مدينة الجزائر وبعض المدن الكبرى في 05 جويلية 1930، وقد صرّح الحاكم العام للجزائر آنذاك قائلا: “في هذا المكان حيث كانت اللصوصية تضرب أطنابها..وحيث كانت أوروبا تخضع لفظاعة القرصنة، نستقبلكم وقد ساد الأمن وعاد الرخاء”، ويقصد بـ (اللصوصية والقرصنة) نشاط (الجهاد البحري) الذي كان يقوم به الأسطول الجزائري ضد التحرشات الأوروبية وحملات القرصنة التي كانوا يستهدفون بها سواحلنا، وكذا خضوع هؤلاء الأوربيين ــ بما فيهم الفرنسيين ــ إلى دفع الأتوات والضرائب لحكومة الجزائر مقابل حماية سفنهم.
بهتـان استعمــاري
من أبرز الملتقيات التاريخية الفرنسية التي انعقدت بالمناسبة من أجل التأكيد على (فرنسية الجزائر) وتكريس النظرة الاستيطانية، المؤتمر الثاني للعلوم التاريخية الذي نُظّم من 14 إلى 16 أفريل 1930، بإشراف الحكومة العامة بالجزائر، وقد ترأّسه المؤرخ كوفيل رئيس الجمعية الفرنسية للعلوم التاريخية، وفي كلمة افتتاح المؤتمر ــ الذي حضره الحاكم العام للجزائر بيير فايولي ــ قال رئيس الجمعية المذكورة: “إن انعقاد المؤتمر لا يعني فقط الاحتفال بحادث عسكري مجيد ويعني نجاح الحملة العسكرية على الجزائر، ولكن أيضا الاعتراف بما قامت به فرنسا في هذا البلد منذ مئة سنة”. وقد حاولوا بأبحاثهم ودراساتهم ومداخلاتهم تكريس النظرة الكولونيالية بأن الجزائر ذات امتداد تاريخي أوربي، ولا علاقة لها بالامتداد الإسلامي أو العربي، ولا حتى الأمازيغي أو الإفريقي.
وقد خَلَصُوا في مؤتمرهم هَذَا وغيره من المؤتمرات والملتقيات التي عقُدت بالمناسبة بالجزائر وفرنسا، إلى ضرورة تكريس نظرية (الجزائر فرنسية)، والتوصية العملية بتوسيع مظاهر الاستيطان وتشجيع الهجرة من فرنسا وعموم أوربا، وتحقيق مبدأ (إسكان أوروبي ضخم).
وأَكّدُوا على أن سبب تأخر الجزائريين هو الإسلام وتمسكهم باللغة العربية، كما وضعوا دُوَلنا المتعاقبة (الرستمية والحماية والزيانية.. وكذا الموحدية..) ضمن القرون الغامضة، كما ألحت أبحاثهم على ضرورة القضاء على مقوّمات الشعب الجزائري، ممجّدين في هذا الإطار الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية بالجزائر..رغم أنها كانت موجهة أساسا لفائدة المستوطنين ورفاهية أبنائهم.
كما خلصوا في هذا المؤتمر الضخم ــ الذي حضره نخبة من المؤرخين والمستشرقين الفرنسيين ــ إلى محاولة تكريس أفضلية الإنسان الفرنسي على الجزائري في مجال الحضارة والمَدَنِيَّة، وأن الفرنسيين جاؤوا من أجل تمدين هذا الشعب وتثقيفه وتعليمه!! ومن ذلك المؤرخ الفرنسي فكتور بيكي الذي حضر المؤتمر، وأشاد في كتابه (الجزائر الفرنسية..قرن من الاستعمار 1830 ــ 1930) بالسفاحين: الجنرال بيجو والجنرال راندو، وطالب بإقامة نُصب تذكارية لهم! ولتوثيق أعمال الملتقى فقد طُبعت أشغاله وأضحت تُعرف بــ (مجموعة المائة سنة).
الكنيسة بدورها كانت حاضرة بقوة في هذه الاحتفالية المائوية، وقد ذكرت الأستاذة خديجة بقطاش في دراستها المشار إليها آنفا أنه بمناسبة هذه المائوية قال أسقف الجزائر: “مع مرور الزمان تحصل لنا سعادة تمديننا للأهالي بتنصيرهم مسيحيين”، مستذكرين (مآثر!!) كبيرهم الكاردينال لا فيجري ودوره “المتميز” في عملية نشر المسيحية بالجزائر وشمال إفريقيا.
موقــف الشّعـب الجزائــري مـن الاحتفاليـــة المائويــــة
كان الشعب الجزائري حينذاك يعيش حياة الضّنك والقهر والظلم والفقر المدقع، باحثا عن قُوت يومه ليسدّ رمقه، ولاَهِثا عن لباس يَقِيه الحرّ والقَرّ، ورغم ذلك فقد استهجن هذه الاحتفالات واعتبرها بمثابة استفزاز صارخ ومتعمّد لمشاعره وجرحٍ لكرامته وإثارة لعواطفه، وطعنا في تاريخه وقِيمِه وتعدٍّ على ثوابته؛ من دين ولغة وتاريخ وحضارة. وبالمحصلة اعتبرها (مهزلة)، خاصة أن إدارة الاحتلال حاولت تلميع صورتها وصورة مجرمي الحرب من الفرنسيين الذين أوغلوا في الإبادة الجماعية واقتراف الجرائم ضد الإنسانية في حق شعبنا الأعزل طيلة (100 سنة).
وكردّ فعل على هذه المهزلة المائوية ــ التي شَاَرَكَتْ في فصولها كل مكوّنات المستوطنين الفرنسيين ــ عمد غالبية الشعب الجزائري في أثناء تلك الاحتفالات إلى عدم حضورها والمشاركة فيها، ومقاطعة السلع الفرنسية، واعتبروا هذا الإجراء بمثابة (جهاد ضد المحتلين)، كما خَلَقت لديهم شعورا بالوطنية، وزادت في نشر الوعي القومي في نفوسهم ورفعت من مستوى ارتباطهم بوطنهم والدفاع عنه، وبضرورة التصدي لعنجهية الاحتلال وإدارته البغيضة، وأنه لا بد لليل الاستعمار أن يَنْجَليِ.
كما انْسحب الكثير منهم من المنظمات الاجتماعية والجمعيات الرياضية والكشافة الفرنسية، وشرعوا في تأسيس كيانات وجمعيات خاصةٍ بهم، وبعث كشافة إسلامية جزائرية خالصة، وبدأوا فعلا “ينافسون الرياضيين الفرنسيين في الملاعب بتجمعاتهم الخاصة”.
ردّ فعــل الصّحافـــة الجزائريـــة والحركـــة الوطنيـــة والإصلاحيـــة
قُبيل الاحتفالات بأشهر معدودات قامت إدارة الاحتلال بحلّ حزب نجم شمال إفريقيا خلال سنة 1929، الذي كان يعبّر عن آلام وآمال الشعب الجزائري، والذي عُرف عنه مُهَاجَمة دعاة الإدماج والموالين للاحتلال ومحاربته المنسلخين عن الأمة، مطالبا دائما باستقلال إفريقيا الشمالية، أما موقفه من هذه الاحتفالات فقد دعا الجزائريين أن يكونوا يَدًا واحدة في وجه الغطرسة الفرنسية، والمطالبة بحقوقهم وبضرورة تنظيم حركة واسعة ضد الإمبريالية. بموازاة ذلك أرسل بمذكرة مطولة إلى عصبة الأمم المتحدة التي كانت مجتمعة بمدينة جنيف بسويسرا، يحتج فيها على الحالة النفسية التي يعيش فيها الشعب الجزائري بعد قرن من الاحتلال، وعلى سكوت هذه المنظمة العالمية على عدم تطبيق تقرير المصير، وهو المبدأ الأساسي الذي تأسست من أجله.
وفي ذات السنة أنشأ النجم ــ رغم حلّه سنة 1929 ــ جريدة (الأمة) التي صدر عددها الأول في أكتوبر 1930 وكانت تصدر باللغة الفرنسية، ورغم مصادرة الكثير من أعدادها وملاحقة المشرفين عليها، إلا أنها استطاعت أن تصمد إلى غاية عام 1939، وأن تكون فعلا لسان حال الشعب الجزائري المغلوب على أمره آنذاك ولو إلى حين.
من جهتها، واكبت الصحافة الوطنية التي كانت تصدر في تلك الحقبة هذه الاحتفالات، مستهجنة لها واصفة إياها بكل النعوت، على غرار جريدة (المغرب) لرائد الصحافة الوطنية الشيخ أبي اليقظان، وقد ردّدت في أحد مقالاتها أن الفرنسيين لن يحتفلوا مستقبلا بِثَانِيِ مئوية لهم بالجزائر، وفعلا ذلك ما كان. كما تطرّقت جريدة (النجاح) للشيخ عبد الحفيظ بن الهاشمي الطولقي في بعض أعدادها إلى حملة مقاطعة البضائع الفرنسية، رغم قُرْب هذه الجريدة من الإدارة الفرنسية.
بدورها الحركة الإصلاحية، وانطلاقا من لقاء الروّاد عام 1928، الذي تطرق إليه الشيخ محمد خير الدين في الجزء الأول من مذكراته، فقد ردّت على هذه الاحتفالات بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي هُيِّئ لها أثناء الاحتفالات لترى النور بصفة رسمية في 05 ماي 1931، أي بعد أقل من سنة واحدة على تنظيم هذه المهزلة التي اختتمت في 05 جويلية 1930.
وقد كان لهذه الجمعية الرائدة الدور الأبرز في إعادة الاعتبار للشخصية الوطنية وإحياء الدين الإسلامي واللغة العربية والتصدّي للمنَصّرِينَ والمتجنّسين بالجنسية الفرنسية ودعاة الإدماج، ورفعت شعار: (الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا)، وهذا بتأطير وإشراف ثلة من العلماء والأدباء والشعراء؛ كان على رأسهم العلاّمة عبد الحميد بن باديس، ومَلِكُ البَيَان العربي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي..وغيرهما.
وضمن هذا الإطار صدرت في تلك الفترة كتب تمجّد الجزائر وتاريخها وذاكرتها الوطنية، مكرّسة استقلاليتها عن فرنسا الصليبية، ومن ذلك كتاب (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) للعلامة الشيخ مبارك الميلي، الذي صدر الجزء الأول منه عام 1929، والجزء الثاني عام 1932، و(كتاب الجزائر) للأستاذ أحمد توفيق المدني عام 1931..وغيرها.
وقد كان لهذه الجمعية الرائدة الدور الأبرز في إعادة الاعتبار للشخصية الوطنية، وإحياء الدين الإسلامي واللغة العربية والتصدّي للمنَصّرِينَ والمتجنّسين بالجنسية الفرنسية ودعاة الإدماج، ورفعت شعار: “الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا”، وهذا بتأطير وإشراف ثلة من العلماء والأدباء والشعراء؛ كان على رأسهم العلاّمة عبد الحميد بن باديس، ومَلِكُ البَيَان العربي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي..وغيرهما.