استعادت دور الجامعة الريادي.. الأستاذ الدكتور أحمد شعلال يكتب لـ”الشعب”

الجزائــر المنتصـرة..رهـان السيــادة المعرفية والتنميـة المستدامة

الدكتور أحمد شعلال مدير جامعة وهران2 محمد بن أحمد رئيس الندوة الجهوية لجامعات الغرب

 الحضــارة تُشيَّـد علـى أسس علميـة راسخة والقطـــاع الجامعي رافعتها الكـــبرى

 الابتكـار وريــادة الأعمــال.. ربط “المعرفة الأكاديمية” بـ”المهارات التطبيقية”

 تـوظيف أكثر مـن 8000 دكتـور.. إنجاز تاريخــــي واستثمــار في الكفــاءات العلمية

إن الجزائرَ المنتصرة على القوى الاستعمارية وكل معوّقات التحضّر ومصاعب البناء، لم تكتف بتحرير الأرض، بل مضت إلى بناء الإنسان أولا، ثم تأسيس مجتمع المعرفة عبر عدة قطاعات، أبرزها قطاع التعليم العالي، الذي شهد تحوّلات نوعية فارقة، نقلته من طور التأسيس إلى فضاءات الريادة.

  كانت نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ الجامعة الجزائرية، فمع انطلاق مسار الإصلاح الجامعي، الذي أرسى رؤية جديدة تُعيد للجامعة رسالتها الأصلية، لا سيما في التكوين الدقيق، والبحث المبتكر، وخدمة المجتمع بوعي حضاري وعمق استراتيجي، حيث حقّقت الجامعة الجزائرية منذ ذلك الحين نموًا مذهلًا في الكمّ والنوع، إذ بلغ اليوم عدد مؤسسات التعليم العالي 117 مؤسسة، منها 55 جامعة، و9 مراكز جامعية، و40 مدرسة وطنية عليا، و13 مدرسة عليا للأساتذة، تستقبل أكثر من 1.7 مليون طالب، يُؤطرهم حوالي 66 ألف أستاذ وباحث في مختلف الرتب العلمية. وهو رقم يُترجم ديناميكية منظومة التكوين العالي واتساع قاعدة النخبة الأكاديمية.
تبنّت الجزائر نظام “ليسانس – ماستر – دكتوراه (LMD)”، في خطوة للاندماج في الفضاء الجامعي العالمي، ومواجهة التحديات البيداغوجية، والمعرفية، والمؤسساتية التي يفرضها العصر، كما عرفت منظومة البحث العلمي طفرة نوعية، تمثّلت في إنشاء هيئات، ومراكز ومخابر بحث وطنية، وتطوير مسار الدكتوراه، وتعزيز النشر الأكاديمي، فضلًا عن الانفتاح على قواعد البيانات العلمية العالمية.
ولقد أثمرت الإصلاحات الكبيرة والمتسارعة وبتأطير من السلطات العليا للبلاد، منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون سدّة الحكم، بروز عدد من الجامعات الجزائرية في التصنيفات الإقليمية والدولية، على غرار جامعات باب الزوار، وسطيف، وقسنطينة، وبلعباس، تلمسان، واد سوف، وبجاية. وحصول نخب من الطلبة على جوائز عالمية في المنتديات الدولية وهو ما يعكس المسار التصاعدي الذي تسلكه الجامعة الجزائرية نحو التميز والاعتراف الدولي.
اليوم.. تسعى الجزائر ممثلة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى تحويل الجامعة إلى قاطرة للتنمية والتميّز بناءً على السياسة العامة للدولة الجزائرية، والتي تستند إلى مخرجات برنامج رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، عبر ربط الجامعة بعالم الأعمال والمؤسسات، حيث يُعدّ من الرهانات الجوهرية التي تعوّل عليها الجزائر اليوم من أجل تحويل الجامعة من مؤسسة للتلقين، إلى فاعل اقتصادي ومعرفي حقيقي. ويقوم هذا الربط على جملة من السياسات والتوجهات التي تسعى إلى تقليص الفجوة بين “الجامعة” و«سوق العمل”، وبين “المعرفة الأكاديمية” و«المهارات التطبيقية”.
 إن تشجيع الابتكار وريادة الأعمال داخل المنظومة الجامعية هو أحد المداخل الأساسية لتحويل الجامعة إلى فاعل اقتصادي ومعرفي. وفي سياق الرهانات الجديدة للتنمية المستدامة واقتصاد المعرفة، لم يعد من المقبول أن يظل الطالب متلقيًا سلبيًا، بل أصبح مطلوبًا منه أن يكون مبادرًا، ومبتكرًا، ومُنتجًا للثروة.
  وتنفيذا لبرنامج الحكومة الذي يندرج ضمن استراتيجية رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الذي أفرد عناية خاصة لقطاع التعليم العالي لاسيما مشروع رقمنة التسيير الجامعي الذي يهدف نحو إنشاء جامعة ذكية، من الجيل الرابع، تهدف إلى تحسين الحوكمة الجامعية، وتبسيط الإجراءات، وتعزيز الشفافية، وتسهيل الخدمات البيداغوجية والإدارية للطلبة والأساتذة على حدّ سواء. وفي ظل التوجه العالمي نحو الجامعة الذكية، أصبحت الرقمنة خيارًا استراتيجيًا لا رجعة فيها للانفتاح على الجامعات العالمية، والتوأمة العلمية، وأنموذجًا يحتذى به في القطاعات الأخرى. وتعزز ذلك وبمتابعة شخصية للسيد رئيس الجمهورية بإنشاء قطب متميز بسيدي عبد الله، يجمع بين مدارس عليا في الرياضيات والذكاء الاصطناعي والنانو-تكنولوجيا والسبيرانية.
ويتجه البحث العلمي حاليا، صوب قضايا البيئة، والطاقة المُتجددة، والذكاء الاصطناعي، والهوية الوطنية، إذ يُعدّ أحد الأعمدة الاستراتيجية في إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، وربطه بإشكالات الواقع الوطني، مع قدرته على تقديم حلول مبتكرة لمشكلات التنمية، بدل الاكتفاء بنسخ نظريات أو محاكاة نماذج لا تعبّر عن الاحتياجات الوطنية، ما يفرض توجيه غالبية الطلبة نحو التخصصات العلمية والتكنولوجية دون إغفال للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
تتمثّل أولى هذه الآليات في إنشاء واجهات ودوائر لليقظة الاقتصادية داخل الجامعات، مهمّتها رصد التحوّلات في سوق الشغل، وتتبع حاجيات القطاعات الإنتاجية والخدمية، بما يسمح بتكييف البرامج التكوينية وملاءمتها مع الواقع الاقتصادي المتغيّر. وتكوين الطلبة ومرافقتهم ليصبحوا فاعلين اقتصاديين.
ثم تلتها اتفاقيات شراكة دائمة بين الجامعات ومؤسسات الدولة الداعمة لخلق المؤسسات الناشئة والمقاولات، بالإضافة لاتفاقيات مع المؤسسات الاقتصادية سواء في القطاعين العام أو الخاص، لتشجيع التبادل في الخبرات والمهارات، وفتح المجال أمام الطلبة لاكتساب تجارب عملية ضمن محيطهم المهني المستقبلي.
وفي هذا المَسعى الوطني، تسعى الوزارة الوصية إلى إشراك رجال الأعمال وأرباب المؤسسات في صياغة البرامج البيداغوجية، وفي عضوية المجالس العلمية والبيداغوجية، وهو ما يعزّز من واقعية التكوين الجامعي ويمنحه بعدًا تطبيقيًا مباشرًا.
   إن تعميم إنشاء حاضنات أعمال جامعية (Incubateurs) يندرج ضمن سياسة تشجيع الطلبة لتحويل أفكارهم ومشاريع تخرجهم إلى مؤسسات ناشئة (Startups) وتأطيرهم قصد المساهمة في خلق مناصب شغل، وفي تنشيط النسيج الاقتصادي المحلي والوطني.
كما تم إنشاء مراكز تطوير المؤسسات الناشئة  في جميع المؤسسات الجامعية مدعمة بمخابر تصنيع (Fab Lab)، ودور للذكاء الاصطناعي، وهي فضاءات مرافقة ودعم تقني وإداري للطلبة وأفكارهم المبتكرة، مما يتيح لهم المرور من مرحلة الفكرة إلى المشروع الفعلي، ويمنحهم بنية تحتية ومرافقة مهنية في بداياتهم الأولى.
  ومن أبرز هذه المبادرات، برنامج “ابتكار” وبرنامج “إنجاز”، اللذان يهدفان إلى تكوين الطلبة في مجالات المقاولاتية والتسيير الريادي، عبر دورات تدريبية، ومسابقات، ومرافقة ميدانية لتحويل المشاريع الجامعية إلى نماذج أولية قابلة للتسويق. وقد مثّل هذان البرنامجان حاضنة أولية لثقافة “الطالب المقاول” داخل الجامعة الجزائرية. والتي تم تثمينها بتأسيس جائزة السيد رئيس الجمهورية للباحث المبتكر، تهدف إلى تحفيز الأساتذة والباحثين والطلبة، على حد سواء، كما تم رسم خطة شاملة من قبل الوزارة لتوجيه مشاريع الدكتوراه نحو قضايا استراتيجية كبرى تمسّ الأمن الغذائي والمائي، والطاقات المتجددة، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكس إرادة واضحة في تحقيق توطين فعلي للبحث العلمي ضمن الأولويات الوطنية، وربطه بمقتضيات السيادة الاقتصادية والتكنولوجية.
  وقد تجسّد اهتمام السّلطة بالقطاع الجامعي مؤخرًا في خطوتين بارزتين: أولاهما الزيادة المعتبرة في أجور أساتذة التعليم العالي بما ينسجم مع متطلبات العيش الكريم، وثانيهما توظيف أكثر من 8000 حامل لشهادة الدكتوراه، في إنجاز تاريخي يعكس إرادة وحرص رئيس الجمهورية للاستثمار في الكفاءات العلمية، وربط التكوين الدكتورالي بمناصب الشغل والقضاء على البطالة في أوساط النخبة.
كما تم التفكير وبعمق في حسن توزيع المؤسسات الجامعية على مختلف مناطق الوطن بحيث أصبحت موزعة توزيعا استراتيجيا يضمن توازنا جهويا واقليميا وهو توجه ينبع من إدراك سليم ووجيه لما تزخر به الجزائر من مساحة شاسعة كان لزاما أن تقحم الجامعة نفسها في إطار الخطة التنموية للرئيس، لكي تصبح الجامعة قاطرة فعلية للتنمية المحلية آخذة بعين الاعتبارات الخصوصيات المحلية.
  إن الرهان الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في تحديث الجامعة الجزائرية من حيث البنية أو العدد، بل في إعادة تعريف دورها ووظيفتها في السياق الوطني والدولي، فالمطلوب هو الانتقال من جامعة مستهلكة للمعرفة إلى جامعة منتِجة للثروة، قادرة على توليد القيمة المًضافة، وخلق الفرص، والمساهمة المباشرة في الاقتصاد الوطني.
كما تبرز الحاجة إلى بناء شبكات تعاون ثلاثية الأطراف بين الجامعة، المؤسسة، والدولة، تُحدِث تناغمًا بين السياسات العمومية، وحاجات السوق، ومخرجات التكوين. فهذه الشراكة المتكاملة وحدها الكفيلة بإحداث نقلة نوعية في وظيفة الجامعة وجعلها عنصرًا فاعلًا في التنمية.
وفي هذا الإطار، يتطلب الأمر تطوير نموذج اقتصادي جديد للجامعة، يقوم على مبدأ الشراكة والابتكار، بحيث يصبح للجامعة مصادر تمويل بديلة، ومرونة تنظيمية، وقدرة على تسويق المعرفة والخدمات، دون المساس برسالتها الأكاديمية. إنه نموذج يُخرِج الجامعة من التبعية المالية والإدارية، ويمنحها استقلالية مسؤولة في خدمة الوطن والمجتمع.
 كما إن الانفتاح على الجامعات العالمية يُمكن من تطوير الأرضية المعرفية، وخلق فعل تشاركي بين الباحثين الجزائريين ونظرائهم في العالم، مما يُسفر عن ربط الجامعة الجزائرية ربطا يُمكنها من رسم استراتيجية فعالة لمواكبة التطور. ويجب أيضا التفكير بجدية في استقطاب الكفاءات العالمية، سواءً أساتذة أو باحثين لأجل تعزيز المشهد الجامعي، ومكانة الجامعة الجزائرية في التصنيف العالمي، وجودة التكوين والبحث العلمي.
 ونعتقد أنه من الضروري اليوم إعادة التفكير بجدية وجرأة في حوكمة الخدمات الجامعية، وتحديثها حتى تواكب التطورات التي شهدتها الدولة الجزائرية اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا.
أن الحضارة لا تُشيَّد إلا على أسس علمية راسخة، والقطاع الجامعي هو رافعتها الكبرى، فمن رحم الجامعة تولد الأفكار، وتتشكل الكفاءات، وتُصاغ مقومات التقدم والرقي، وتبني الجزائر الجديدة المنتصرة وفاء لتضحيات الشهداء الأبرار والمجاهدين الأخيار.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025
العدد 19811

العدد 19811

الثلاثاء 01 جويلية 2025
العدد 19810

العدد 19810

الإثنين 30 جوان 2025