مدير عام معهد أبحاث السّياسات الاقتصادية الفلسطيني..يكتب:

كـــيـــف نـــقــرأ الـــتّـــداعـــيـــات الاقـــتــصــاديــة والاجــتــمــاعــيــة لـــلحـــرب عــــلى قـــطــــاع غـــــــــــزّة؟

رجـــا الخـــالـــــدي

 

في ظل تواصل العدوان الصهيوني ضد قطاع غزة، والخسائر البشرية الكبرى التي تقع في صفوف الشعب الفلسطيني على مرأى العالم ومسمعه، يبدو الحديث عن الأبعاد الاقتصادية لهذا العدوان شأنا ثانوياً، لكن الحقيقة أنّ الكيان الصّهيوني يعد تدمير الاقتصاد الفلسطيني جزءا لا يتجزأ من مساعيه لكسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، بحسب ما تدل عليه عملية التدمير الممنهج التي يتبعها في قطاع غزة. وفي هذه المرحلة، ليس من السهل، مع استمرار العدوان، حصر تكلفة الحرب، أو قيمة الخسائر المحتملة لها، لذلك سنكتفي في هذه الورقة بتناول أبرز الآثار المتوقعة للحرب في الاقتصاد الفلسطيني وتبعاتها، وطبيعة الصدمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الجارية والقادمة، التي لا بد من التهيؤ لمواجهتها والاستجابة لآثارها، فضلا عن النقاش حول إعمار غزّة، وجعلها صالحة للعيش في أعقاب هذه الكارثة.


الحــلــقــة الأولى

 في خضم ما يروّج له صهيونيا وأمريكيا حول ترتيبات “حوكمة” القطاع فيما يسمى بـ “اليوم التالي”. سيحدّد مسار هذا الموضوع المصيري نتائج الحرب الميدانية، ومدى تحقيق أهداف الكيان الصهيوني المعلنة أو إفشالها في تدمير / إزالة / إنهاء المقاومة في قطاع غزة، وهي نتائج لا يمكن التكهن بها أصلا.
لتسهيل الإحاطة بمختلف التأثيرات المتوقعة، من الضروري فصل التشخيص الخاص باقتصاد قطاع غزة عن ذلك المتعلق باقتصاد الضفة الغربية ومناطق فلسطينية مجاورة (القدس المحتلة والداخل المحتل عام 1948)، حيث ستخضع جميع هذه المناطق التي يقطن فيها 7 ملايين فلسطيني لعدد من الصدمات المشابهة والسياسات الاقتصادية المعادية والعنصرية الصهيونية، مع الفارق الكبير بين ما يحصل في قطاع غزة وباقي مناطق فلسطين.

أوّلا:
اقـتصـاد قــطــاع غـــزّة:
مــن المنــكـــوب
إلى المـــدمــــــّر

 وصف قطاع غزة بعد أكثر من 15 سنة من الانقسام والحصار بأنه على حافة الانهيار، لكن يمكن اعتبار اقتصاده جراء التدمير والقتل والتهجير حتى تاريخه، أنه توقف عن العمل بدءًا من الربع الأخير لعام 2023 إلى أجل غير معروف. وإذا كان هناك نشاط اقتصادي في غزة اليوم، فهو لا يتعدى كونه اقتصاد كفاف، أو اقتصاد البقاء على قيد الحياة.
مع تدمير البنية التحتية الاقتصادية والسكنية المتواصل خلال أسابيع، يصبح الحديث عن خسائر في الجانب الاقتصادي، كما في جولات سابقة، غير واقعي وغير مجد وغير مفيد، وأمام مشهد حرب من عملاق عسكري بحركة اقتصاد حجمه 150 ضعف الطرف الفلسطيني المنهك أصلا، فإن هدف إعادة اقتصاد قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل عام 2023 ليس كافيا، ومفهوم “التعافي الاقتصادي” لا ينطبق هنا أصلا، لن يكون من الممكن إعادة تحريك عجلة الاقتصاد السلعي والخدمي والمالي بعد هذه الحرب، إلا بعد تلبية الاحتياجات الإنسانية غير المحسوبة (الإطعام وإيواء ورعاية أكثر من مليوني فلسطيني مشرد ونازح وجريح ومصدوم في قطاع غزة المنكوب والمتردي إلى أبعد حد منذ عام 2007).
من جهة أخرى، توفر بعض المؤشرات التاريخية صورة أولية عن الجانبين الأساسيين لما ستخلّفه هذه الحرب في أعقابها، هما خسارة قيمة الناتج المحلي الإجمالي. ثم الدمار المادي للمساكن والمنشآت الاقتصادية والخدمية والخاصة والعامة، من الواضح أن الجولات السابقة للحروب على غزة (خاصة 2008 / 2009 و2014) كانت أقل شراسة، ولم تشمل جميع مناطق القطاع، ولم تنطو على أزمات إنسانية ونزوج سكاني بحجم ما شهدناه ونشهده، ولم تخلق حالة مماثلة من الجوع والعطش والمرض والصدمة النفسية، وغيرها من الإقرارات الإنسانية لهذه الحرب التي ما زلنا نتلمس أشكالاً جديدة لها يوميًا.
كانت صدمة الحرب في جولات سابقة من العدوان على غزة عبارة عن “نكسة” للاقتصاد الغزاوي تتمثل في تراجع لم يتعد 10 في المئة عام 2014، سرعان ما جرى التعافي منها بإطلاق إعادة الإعمار خلال السنة التالية. ومنذ ذلك الوقت، لم يسجل اقتصاد القطاع نموّا يعيده إلى ما كان عليه قبل الانقسام والحصار، حينما كان يمثل ثلث الاقتصاد الوطني الفلسطيني، في حين وصلت حصته إلى نحو 17 في المائة عشية الحرب، بإنتاج محلي لم يصل إلى 3 مليارات دولار.
هكذا يقدر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني الناتج المحلي الإجمالي الغزاوي لربع سنة بنحو 700 مليون دولار، ما ينذر بضربة قاسية بخسارة ما لا يقل عن 25 في المئة من الناتج المحلي (الضئيل) في عام 2023. وربما مثيله في الربع الأول من عام 2024، الذي قد لا يشهد استئناف النشاط الاقتصادي العادي حتى لو أسكتت المدافع. المهم هنا ليس حجم الصدمة المحتملة للإنتاج الاقتصادي فحسب، بل القدرة على إعادة تدوير العجلة الاقتصادية، والتعافي من صدمة توصل الاقتصاد إلى نقطة الصفر مدة 3 أشهر أو أكثر. هذه مهمة قد تستغرق سنة أو سنوات قبل عودة اقتصاد القطاع إلى مستوى إنتاج ما قبل الحرب، وستكون هناك حاجة إلى مدة 3-6 أشهر لإغاثة 2.2 مليون غزاوي، وإعالتهم حتى يكون من الممكن العودة إلى العمل المنتج.
ما يجعل تحدي إعادة تشغيل الاقتصاد بعد هذه الحرب مختلفًا تمامًا عن التجارب السابقة، هو حجم الدمار المادي الذي يزداد يوميًا في المساكن والمصانع والمنشآت التجارية والمرافق الخدمية التعليمية والصحية والمعيشية، من دون القدرة على حصرها حتى الآن، لكن المؤشرات المتوافرة تظهر حتى الأسبوع الرابع من الحرب صورة لتدمير واسع النطاق في القطاع، وعلى نحو مكثف في مربعات كاملة لمدينة غزة، ما خلّف مساحات مسطحة من الردم. وحتى الآن يقدّر أنه جرى تدمير ما يزيد على 44 ألف مسكن تدميرا كاملا، وما يزيد على 132 ألف وحدة سكنية تدميرًا جزئيا: ما يمثل قرابة 50 في المائة من مخزون مساكن القطاع، إضافة إلى 150 مصنع و120 مدرسة والعديد من المباني العامة، وبناءً عليه، فإن ما يواجهنا هو تعطيل كامل البنية التحتية الاقتصادية في شمال القطاع حتى الآن، وإرباك ما تبقى من الاقتصاد وبنيته في جنوب القطاع.
الأغراض المقارنة بصدمات سابقة تعرّض لها الإقتصاد الغزاوي،يشير البنك الدولي مثلًا إلى أن عام 2014 شهد اجتزاء 460 مليون دولار من اقتصاد غزة تراجع في الناتج المحلي الإجمالي، ويشير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد”، إلى أن الخسائر الاقتصادية المباشرة الناجمة عن حرب 2008 / 2009 بلغت 2.5 مليار دولار، وأن الأصول التي تضرّرت من حربي 2012 و 2014 بلغت 2.7 مليار دولار، وأن السلطة الفلسطينية قدّرت إعادة الإعمار بـ3.9 مليار دولار. إذن، من الآن نستطيع تقدير الحجم الخيالي المحتمل التكلفة الحرب على غزة في جانبي الإنتاج والبنية التحتية.

ثانيا:
الـــضـــفـــة الغــربــيـــة:
 إدارة اقـــــتــــصـــــــاد
مجـــزّأ ومحــــاصـــــــر

 في مقابل مشهد التدمير الاقتصادي المتعاظم في قطاع غزة، فإن اقتصاد الضفة الغربية لم يتصدع بعد رغم العديد من الإجراءات الصهيونية الأمنية التقييدية والاعتداءات المتصاعدة للمستوطنين في مختلف المناطق. ورغم أن الفلسطينيين في مناطق نفوذ السلطة الفلسطينية يشاركون الهمّ الوطني الأوسع من خلال مظاهرات متواصلة وتضامن شعبي واسع مع المقاومة في غزة وأهلها، ويشاركون في أعمال مقاومة مسلحة وشعبية راح ضحيتها حتى الأول من نوفمبر 2023 أكثر من 150 شهيد، فإن الاقتصاد الخاص فيها بقي يعمل ولو بوتيرة منخفضة، وما زالت الخدمات الحكومية والبلدية تقدم، ويحاول العمال الوصول إلى أماكن عملهم، وكذلك يعمل القطاع التجاري على تسيير تدفق السلع والخدمات ودورة الأعمال قدر الإمكان. صحيح أن الوضع ليس طبيعيا، لكنه ليس أيضًا متأزمًا، طالما يسود حد أدنى من الاستقرار الداخلي تضمنه أجهزة الأمن الفلسطينية، في حين يتصدى أهالي القرى بأنفسهم لاعتداءات المستوطنين خارج مناطق نفوذ السلطة.
لكن حتى من دون اشتعال مواجهات عسكرية واسعة في الضفة الغربية، بدأت تظهر القنوات المتوقعة لانتقال الآثار الاقتصادية لحالة الحرب الفلسطينية - الصهيونية إلى اقتصاد الضفة، ما ينذر، كما في حال قطاع غزة، بأن الأمور الاقتصادية الفلسطينية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر.
هناك عدد من مكامن الضغط المتزايد على نسيج اقتصاد الضفة الغربية الخاضع لنفوذ السلطة الفلسطينية. بعضها قد يكون صادقا ووشيكا، وبعض آخر تكون آثاره أقل انتكاسا وتأخذ وقتا أطول للظهور في جميع الأحوال، فإن التجارب السابقة لاستيعاب الصدمات الاقتصادية في الضفة الغربية انطوت على خسائر مادية جراء الاجتياح الصهيوني خلال الفترة 2001 – 2004، وتراجع اقتصادي قارب 20 في الماة خلال تلك السنوات الأربع، ودمار في المباني والمنشآت العامة وصلت قيمتها إلى قرابة 2.5 مليار دولار. أما في عام 2020 فقد انتكس الاقتصاد الفلسطيني جراء جائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد (19) بما لا يقل عن 12 في المائة خلال سنة واحدة، ولم يكن متوقعا التعافي منها إلا في عام 2023 في حال تحقق نمو بـ3 في المائة، وهو توقع تبخّر مع غبار حرب غزة. وبناء عليه، فإن ما سيواجه الضفة الغربية من أزمات اقتصادية ستأتي عبر عدد من الموجات المتلاحقة، قد تصل إلى درجة التسونامي إذا التقت معا وعزّز بعضها بعضا، نسردها هنا بحسب مدى معالجتها وتوقّع ظهور أصدائها.
أولى هذه الموجات التي ظهرت حتى الآن قد تشكّل أكبر صدمة لاقتصاد الضفة الغربية والطلب الإجمالي والاستهلاك، فمنذ اليوم الأول للحرب وخلال شهرها الأول، توقف نحو 160 ألف من عمال الضفة الغربية (أو قرابة 20 في المائة من قواها العاملة) و20 ألفا من قطاع غزة ممّن سُمح لهم خلال السنة الأخيرة بالدخول للعمل في الأراضي المحتلة)، عن العمل داخل الأسواق الصهيونية، وكان هؤلاء العمال (المياوميون في الأغلب) يدخلون للاقتصاد الفلسطيني 3 مليارات دولار سنويا، أو ما يقارب 15 في المائة من الدخل القومي المتاح، ما أبقى مستويات البطالة في الضفة الغربية دون 20 في المائة. بينما كان مستواها في غزة نحو 45 في المائة. وهذا يعني أنه من دون إيجاد فرص عمل لهؤلاء في المدى القصير، سترتفع نسبة البطالة إلى ما يزيد على 30 في المائة في الضفة الغربية (وربما إلى 90 في المائة في قطاع غزة) طوال فترة الحرب.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024