مكية نجار تشرّح أسباب قصور الإسهام العربي في الجهد التنظيري..

لمـــاذا لا توجـــــــد نظريـــــة “عربيــــة” في العلاقــــات الدولية؟

 

يظهر السياق العالمي للإنتاج الفكري أن الغرب هو المتحدث الرئيس باسم العالم؛ فهو صاحب المنظومة المعرفية المتطورة التي تسيطر على عالمي السياسة والعلاقات الدولية، صياغة وقراءة، والتي تطغى عليهما، وذلك من خلال تنامي براديغم النيوليبرالية، ووسائل إنتاج المعرفة عالميا وتوزيعها. وتعبر سردية الغرب عن موقف “القوي” مقابل الآخر الضعيف موظفا خطاب الاستثنائية الثقافية أثناء الحديث عن دول الأطراف ومجتمعات الجنوب، ومن ضمنها العالم العربي؛ لذلك، يكشف الغياب الملحوظ لدراسات تعنى بالإبستيمولوجيا عموما، والعلاقات الدولية للعالم العربي خصوصا، عن مشكلة حادة في الدراسات التي تخص هذه المنطقة، والتي ما زالت إلى حدّ الآن تعبر عن غموض في طبيعة التحدي الإبستيمولوجي الذي يواجهه حقل العلاقات الدولية. زد على ذلك، ظاهرة الاستشراق التي ما زالت تؤطر رؤية “الآخر” وقراءته، كما تحدث عنها إدوارد سعيد، إضافة إلى الكيفية التي “يحكى” من خلالها العالم و«يُفسر” بها. ومن ثم، نجد أن الغرب لم يول المعرفة المتعلقة بكيفية تفكير سائر أنحاء العالم قدرًا من الانتباه. لذلك، نجد الدول غير الغربية، بحسب الأدبيات التقليدية عبارة عن كيانات تتلقى المعايير وتستهلكها  Passive-Subjects أو تتقبلها، Norm-Takers.


الحلقة الأولى


انتشرت في الآونة الأخيرة دراسات مكثفة ونقاشات حادة تستفسر عن أسباب غياب التنظير والإسهام المعرفي غير الغربي، متسائلة عمن يكتب العلاقات الدولية وعما يؤهله لذلك. ويندرج عنوان هذه الدراسة، في نسختها العربية، ضمن سلسلة أبحاث طرحت تساؤلات عن إشكالية التعددية وإنتاج المعرفة في العلاقات الدولية. ويرجع سبب تكرار طرح هذه التساؤلات عبر عقود من الزمن إلى استعصاء إيجاد إجابات السجالات والنقاشات الفكرية والنظرية التي زخر بها ميدان العلاقات الدولية على غرار النقاشات النظرية المشهورة.
وقد طرح المفكر مارتن وايت سنة 1960 أول تساؤل في هذا السياق، وأعيد نشره سنة 1966 في دراسته “لماذا لا توجد نظرية دولية؟”. وكان منطلق فضوله آنذاك، غياب نظرية سياسية دولية فسحت فضاء التفكير للنظرية السياسية بشأن البقاء والحياة الكريمة والديمقراطية وهيمنة دراسة العلاقات بين وحدات النظام الدولي الويستفالي من وجهة نظر غربية كما يظهر في كتابة وايت، على حساب تطوير نظرية خاصة بالعلاقات الدولية.
ثم تلاه كل من باري بوزان وأميتاف أشاريا في منتدى خاص سنة 2007، في إطار العنوان: “لماذا لا توجد نظرية غير غربية في العلاقات الدولية: إذ أعادا طرح سؤال وايت من زاوية مختلفة تتعدى مجرد غياب نظرية دولية إلى غياب نظرية لا تنتمي إلى الغرب في العلاقات الدولية. وحتى إن كان سجال أشاريا وبوزان يفضي إلى معالجة المنظور الآسيوي بالتحديد. فإنهما أرجعا ذلك إلى عوامل عدة تكمن في فكر الغرب المهيمن المتمثل في الأورومركزية: الذي لا يكتفي بالتحليل، بل يقدم قراءة ورؤية للعالم تخصه، نابعة من تجربته هو نفسه، مقصيا باقي العالم غير الغربي. وفي المنتدى نفسه، تساءل المفكر الصيني كين تاكينغ: “لماذا لا توجد نظرية صينية للعلاقات الدولية؟ على الرغم من عراقة التقاليد الفكرية للصين بوصفها فاعلا دوليا تاريخيا، ورجّح أن يكون لبروز نظرية صينية إمكانية كبيرة نظرا إلى نمو قوة الصين ومكانتها في العالم، حتى إن كانت تصطدم بالمثبطات المعيارية والمؤسساتية نفسها المتعلقة بالهيمنة الغربية والأورومركزية.
أعاد المفكران أشاريا وبوزان طرح التساؤل نفسه بعد عقد من الزمن لتفقّد حال العلاقات الدولية من خلال مراجعة أهم الأدبيات التي كللت بما سمياه مشروع بناء علاقات دولية عالمية وتطويرها Global IR؛ إذ أكدت إسهامات شرق آسیا بروز منطقة غير غربية تتحدى العنصرية الإبستيمية والأورومركزية التي تأسس عليها الحقل. ومن ثم، بدأ مشروع التفكير النقدي في العلاقات الدولية من منظور غير غربي يؤكد أن النظرية لم تعد نهاية المطاف، فضلا عن عدم تجانسها، لأنها ذات رؤية محدودة ومختزلة ومتحيزة، ولا تعبر عن الأغلبية في النظام الدولي”.
وقد مثل انهيار الاتحاد السوفياتي صدمة لحقل العلاقات الدولية لأنه كان بمنزلة مؤشر لفشل دراسات الاستشراف الناجمة عن قراءة ضيقة الأفق ومحدودة Parochial لبنية النظام الدولي بسبب تهميش الخطاب السائد في العلاقات الدولية للنقاش المرتبط بتنوع وجود بناءات فرعية أخرى وتنافسها على البقاء. لم ير أحد قدوم ذلك في حقل معرفي يفتخر منظروه بأدوات الاستقراء والتنبؤ في السياسة الدولية. وهو الأمر الذي كشف الغطاء عن مشكلات حقيقية تتعدى المألوف في الغرب، لكونها نابعة من بيئة يجهل خاصياتها ومآلاتها وعوامل التأثير فيها.

مختصر ميادين دراسة العالم العربي
يكمن أبسط فهم للعالم وتركيبته في سمته الأساسية التي مفادها أن النظام، أو المجتمع الدولي، يتكون من المركز، أو الغرب، صاحب الامتيازات، وأن له قواعد خاصة به وأخرى خاصة بالطرف الخاضع له Subaltern, Periphery، فهو نظام بني على نسق أوروبي كولونيالي. أما وحدات هذا النظام، فهي بمنزلة دول صاغها المركز وفرضها بوصفها النموذج الوحيد للانتماء إلى كيان منتظم معترف به، وهو ما يعرف بنموذج وستفاليا للدولة الحديثة.
بعد استقلال دول العالم الثالث عموما، والعربية خصوصا، ما بين الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حاولت دول العالم العربي أن تنخرط في النظام الدولي وتواكب الشكل الوحيد لبناء الدولة باستنساخ النسق الأوروبي، لكنها كانت في حالة هشّة جعلتها عرضة لكل تدخل مادي و/أو معنوي . وهذه كانت حال معظم الدول بعد الكولونيالية بوصفها من الأعضاء الجدد في النظام الدولي . إلا أن تجربة بعض الدول العربية في بناء الدولة القومية على الشاكلة الأوروبية لم تنضج بعد، بل لم تجد السبيل لتكييف متطلبات النهضة والتنمية والاستقلال داخليا وخارجيا، مع محدداتها الاجتماعية والثقافية وتحدياتها الجيوسياسية إلى حدّ الآن. وانتقلت عدوى المخاوف الأمنية التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة إلى الدول العربية . كالمعضلة الأمنية التي يفترض أن تكون بين الدول، أضحت محددا داخليا وخارجيا أفرز مسوغا مفاده أولوية أمن النظام على حساب باقي مكونات المجتمع في الدول العربية معرفيا، طورت الولايات المتحدة الأميركية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية ما يعرف بدراسات الشرق الأوسط عوضا عن تسمية العالم العربي، ولكن في حقيقة الأمر، يرجع منبع هذه الدراسات تاريخيا إلى أوروبا التي كانت تحتضن ما كان يُعرف بالدراسات الشرقية Oriental Studies ذات الجذور المتشعبة حول تجربة أوروبا في الحروب الصليبية والنهضة والتنوير والاستعمار، بوصفها سياقات ترجمت جهود أوروبا لمنهجة دراسة شعوب وأماكن أخرى.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، حاولت الولايات المتحدة أن تؤسس هذا التقليد على درجة عالية من التجريد على أرضها، واتخذت هذا الاستشراق شكليا وقلما حاولت أن تحسنه. فتأقلم وتطور واكتسب شعبية كبرى وسط الباحثين والمتخصصين. وهكذا، لم تكن النتيجة تنوعا في الموضوع فحسب، بل بالأحرى إعادة اختراعه كلما تعرضت تقاليده ومناهجه الاستشراقية لانتقادات لاذعة كما حدث مع كتاب الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق لإدوارد سعيد. وتعود هيكلة دراسات الشرق الأوسط إلى شهرة دراسات المناطق Area Studies والدراسات الدولية International Studies في خمسينيات القرن العشرين وستينياته.
ويشير مارتن كريمر إلى أن علماء الاجتماع في الولايات المتحدة، كانوا متحمسين لأن يختبروا دراسات الشرق الأوسط بأدواتهم في العلوم الاجتماعية، وأن يتركوا مجال الفلسفة والتاريخ لأوروبا حيث عرفت برامج الدراسات المتعلقة بالشرق الوسط ركودا نظريا نوعيا. فانصب الاهتمام المعرفي على هذه المنطقة بتطوير البرامج البحثية التي ارتبطت ببردايغم التحديث المفضل عند الأمريكيين لفهم “الشرق الأوسط”. ثم “استولت” السياسة في الولايات المتحدة على المعرفة المرتبطة بالشرق الأوسط، وهنا يكمن البعد السياسي الدراسات الشرق الأوسط والعالم العربي تحديدا التي طغت عليها السياسة وأجنداتها، وأبعدتها عن حقل نظرية العلاقات الدولية.
ومن أهم أسباب استمرار دراسات الشرق الأوسط في الجامعات والمراكز وجود التمويل الحكومي، خصوصا في الولايات المتحدة، ثم من بعد ذلك التمويل الخاص الذي يرتبط بأهداف قومية، بالنظر إلى أن منطقة الشرق الأوسط تمثل العناوين الإعلامية الأولى لبقعة توترات تجذب خبراء ومحللين أغلبهم ليسوا أبناء المنطقة، أو لم يحتكوا بالبيئة على نحو كاف.
لم تكن دراسة العلاقات الدولية لمنطقة العالم العربي منذ وقت قريب إلا بمنزلة توصيف تاريخي للتطورات المعاصرة لقضايا العلاقات الدولية للمنطقة، من دون أن ترتبط بالحقل المعرفي للعلاقات الدولية. ويشير برانت ساسلي إلى أنه كانت توجد نزعة لاستخدام أدبيات وصف التطورات التاريخية، على الرغم من أهميتها، بدلا من التركيز على الأطر النظرية والمنهجية والبردايغمية التي تؤسس قضايا النقاش الإبستيمولوجي . وقد نجد نموذجا عن هذه النزعة في كتاب العلاقات الدولية للشرق الأوسط للكاتبة لويز فاوست، بمشاركة متخصصين كبار في الشرق الأوسط الصادرة طبعته الأولى في عام 2005 عن جامعة أكسفورد. وقد تميزت طبعته الثانية الصادرة في عام 2009، وهي لا تختلف كثيرا عن طبعته الأولى، بتغطية قضايا المنطقة الأكثر أهمية وبإسهام متخصصين في العلاقات الدولية. إلا أن هذه النسخة لا تعبر عن مقاربات ونظريات العلاقات الدولية وإنما تعالج قضايا ومواضيع أدرجت فيها نظرية العلاقات الدولية بوصفها مدخلا دون تأطير نظري لمحتوى الكتاب بمعنى غياب الإسقاط النظري على العلاقات الدولية للمنطقة، وهو ما يعبر عن اعتقاد ضمني لعدم مواءمتها من أجل تفسير السياسات الإقليمية في المنطقة.
وتعرضت هذه النسخة لانتقادات مفادها أن دراسة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط تختلف كليا عن المناطق الأخرى، حيث تدرج النظرية بوصفها إطارا تحليليا، بل إن طريقة المعالجة توحي بأسلوب دراسات الشرق الأوسط ودراسات المناطق المبني على المعطيات والمواضيع لتدارك الإخفاق الميداني في العلاقات الدولية صدرت الطبعة الخامسة من الكتاب سنة 2016، ثم صدرت الطبعة السادسة سنة 2019 معدلتين ومنقحتين؛ إذ نجد فيهما محاور نظرية العلاقات الدولية مواكبة لآخر التوجهات البحثية من وجهة نظر علمية.
ولا يخلو كتاب فاوست، أو غيره من الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط، من إسهام مهم في فهم الديناميكية السياسية للشرق الأوسط نفسه، إلا أن ذلك يُقوّض إثراء نظرية العلاقات الدولية التي ينبغي أن تنبع من قلب المنطقة نفسها. وبما أن المنطقة العربية ما زالت تختلف عن باقي العلاقات الدولية للمناطق الأخرى في الهامش والأطراف، فإن هذا الأمر يرجع إلى اختلاف التعامل معها سياسيا، واستثنائيته.

السياسة.. خلف كل شيء
قبل التفصيل في معالجة وجود روابط بين الأيديولوجيا أو السياسة والنظرية التي ما زالت تشكل تصورات استشراقية، يجب أن نعيد التفكير في العلاقة بين النظرية والتاريخ، وذلك من خلال مساءلة سرديات ما بعد الحداثة بشأن السياسة العالمية والتي استلهمت كثيراً من أفكار الفلاسفة الأوروبيين المحسوبين على المقاربة ما بعد البنيوية. وأهم إسهام في الفكر ما بعد الحداثي في العلاقات الدولية، هو قدرته على إظهار كيفية ارتباط الحداثة والسياسة العالمية، بوصفهما عمليات تأريخية - تنظيرية، والكيفية التي ينبغي من خلالها معالجتهما معًا غير منفصلتين، ولكن ذلك من منظور أورومركزي محض في البداية. وتكمن أهمية التاريخ في أنه يشكل أرضية انطلاق للمعالجة الإبستيمولوجية، وفقا لمبدأ: “التاريخي هو الإبستيمولوجي”. والسياسة عامل محدِّد ومحدَّد في المعرفة عموما.
ترى أرلين تيكتر وأولي ويفر، أنه لا يمكن رصد أنساق معرفية للإنتاج المعرفي الفكري بشأن العلاقات الدولية في الجنوب ، بمعنى أنه لا تعرف الطبيعة الإبستيمولوجية لما ينتج معرفيا في دول العالم الثالث، ما يمكن إدراكه هو أن التدريس في الأطراف يتبع المناهج الغربية في أغلبها، ولكنها تظل مشحونة بالنزعة الإمبريالية والتبعية ومنطق “المؤامرة المعرفية”. وخلصت دراسة تيكنر وويفر، من خلال سياسات المعرفة الحديثة، إلى أن المركز لا يكترث بالأطراف في كل الأحوال، عدا ما يتعلق بمصالحه أو عبر مبادرات خجولة ما يعني أن المركز (الشمال) لا يعرف خارج إطار مصالحه، أو لا يهتم بأن يعرف كيفية تفكير الجنوب، وخصوصا في العلاقات الدولية. نجد المشهد نفسه في العالم العربي، وقد يكون أسوأ، حين منحت الأولوية للأجندات الإقليمية والداخلية في الأبحاث، واستبعد العمل على التنظير في العلاقات الدولية في الدول العربية. وحين يُراد مناقشة “منظورات” العالم العربي لا يمكن مناقشتها خارج نطاق دراسات المناطق.
وهكذا، ارتبط إحداث دراسات الشرق الأوسط، أو اختراعها، بحسب كريمر، وارتباط العالم العربي بجغرافيا المجتمعات المهمشة أكاديميا وبنيويا بسياسة التهميش داخليا وخارجيا، وقد انعكست على فعاليته المعرفية كمنطقة غائبة إبستيمولوجيا. لذلك، يحتاج التطرق إلى دراسات العالم العربي إلى نقد مزدوج مبني على ثنائية الداخل والخارج، بحسب إليزابيث كشاب، ويعكس السياق الداخلي معضلة السكون أو الركود الفكري العربي، أي إنه لا يمكن التفكير في أي إطار أكاديمي إن لم يرتبط بمركزية التعبير وقبول النقد العربي ضمن المجتمعات العربية ويخص الأمر، أساسا، الأنظمة العربية التي تعرقل تطوير النسق المعرفي. ومن ثم. نجد جل أنواع النشاطات المعرفية وميادينها في منطقة الشرق الأوسط العربي “تنبت” و«تنمو” و “تزدهر” خارج حدوده، ويتميز اهتمام معظم المفكرين العرب وانشغالهم بالتركيز على المعضلات أكثر من التنظير. ومن ثم، يبدو أن العالم العربي قد استوعب المجال السياسي في بعده الأنطولوجي بوصفه ممارسة. أما إبستيمولوجيا، فإنه ظل يعاني ركودا لافتا للانتباه إذ ثمة اعتقاد تقليدي فضل ممارسة صناعة السياسة عن عملية بناء النظرية ما ترتب عليه وجود مسافة بين التنظير والمنظرين. 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024