مكيــة نجــار تشرّح أسبـاب قصـور الإسهـام العربـي في الجهـد التنظـيري..

لمـــاذا لا توجـــد نظريــــة “عربيــــة” في العلاقــــات الدوليــــة؟!

 

إن استمرار الهيمنة وإخضاع العالم العربي للمنظومة المعرفية الغربية راجع، بدرجة كبيرة، إلى استمرار تخلّف العالم العربي. ونجد في هذا السياق إشارة واضحة لبعد تحدي ديناميكية الشرق الأوسط للعلاقات الدولية. لذا، فإن ما تقوم به السردية في الغرب ليس إخضاع البنى والمسائل الذاتية الاجتماعية فحسب، بل إنها تعمل أيضًا مثل “حاجب” يغطي حقيقة سياسة البناء المعرفي عن الأنظار.

الحلقة الثانية

وما تنتجه المنظومة الفكرية، في الغرب أو من ينتسب إليه، فكريا ومنهجيا من دراسات الشرق الأوسط، أو العلاقات الدولية، مشتق كله من الفكر الأرثوذكسي الغربي صاحب الشرعية والسلطة المتفردة في سرد تاريخه وتاريخ العالم.
السيـــاق التاريخـــي
إيضاحا لمعالم هذه الدراسة، لا يعد الجانب التاريخي في العلاقات الدولية هدفًا في حدّ ذاته، ولكنه يصلح أرضية أساسية تتبين منها معالم المعرفة من خلال تطور غايات النظرية. وفعلا، قد يكون التاريخ الضّحية الأولى في تطوّر العلاقات الدولية؛ لأنه يسهل تجاهل جوانب فيه عمدا أو سهوا. وحين تتطوّر نظريات في مكان جغرافي محدود وزمان محدود، ماذا كان يحدث في سائر الأمكنة الجغرافية الأخرى؟
ببساطة، وتاريخيا أيضًا، يسرد سائر العالم، غير الأوروبي، تاريخه بطريقة متعثرة، لأن أوروبا فرضت مفاهيم تاريخية وتقسيمات زمنية؛ حيث الحديث عن “تاريخ الإنسانية” هو حديث بلسان أوروبي غربي محض. وهذا سبب سوء فهم بقية مناطق العالم وتجاهلها. وهذا أيضا ما تحدّث عنه جاك غودي في كتابه “سرقة التاريخ”، من جانب أوروبا التي طالت العالم كله.
ويفهم من سرقة التاريخ الاستحواذ على تقسيم زمن التاريخ من خلال استغلال مسارات أحداث داخلية خاصة بأوروبا بوصفها مراحل مفصلية لتاريخ العالم كله، ولكن أوروبا لم تكتف بسرقة التاريخ، بل إنها قامت أيضا بـ«سرقة الحضارة” من خلال تاريخ مفاهيم الحضارة والثقافة وربطها بخصوصية السياق الاجتماعي، وهو سياق أوروبي في هذه الحالة. ومن ثم، فإن السياق الاجتماعي الغربي هو الوحيد الذي يمكن توقعه مصدرا للحضارة بوصفها تقدمًا وحداثة: أي إن العالم الأول لديه الفلسفة والعلم، والعالم الثالث ليس لديه إلا ثقافات. وهذا ما رأى غودي أن ضرره في المستقبل أكبر من ضرره في الماضي. وفعلا، فإن جزءا كبيرا من كتابات المؤرخين حول المجتمعات الديمقراطية في السابق أو في الحاضر، بحسب المؤرخ جيرار نواریال، تعتبر خطابات تبريرية تدافع عن مواقفهم السابقة، وعن مكانتهم الأكاديمية، وعن طموحاتهم أو عن سمعتهم.
إن ما يقوم به التاريخ في مناطق جغرافية أخرى ينطوي على فعلين: الأول مزدوج مبني على العنصرية الإبستيمية أو العلمية، وهو يتزامن مع “الغطرسة الحضارية” حيث الحط من القيمة الإنسانية البعض الشعوب من خلال إسقاطها من المشهد، أو التقليل من شأنها، وفي الوقت نفسه، يجري التشديد على عالمية الفلسفة الأوروبية وتسليط الضوء عليها. أما الثاني، فهو “سكوت التاريخ أو صمته”، أو مرض النسيان بوصفه “أمنيزيا” العلاقات الدولية بعضه عن غير قصد. وجله عن قصد، فيما يتعلق بتاريخها. ثم إن أساس حقل العلاقات الدولية حاليا هو التجريد، أو عملية بناء النظرية التي أقحمتها في نقاشات “كبرى اختزلت واقع العلاقات في العالم وحجبته، متفادية التحليل الدقيق” وتفسير ذلك هو أن الحقل يحاول أن يحذف جذور العنف التي انبثق منها هو والسياسة الدولية، حيث وصمة الاستعمار والاستعباد وسرقة الأراضي تشكل جانب أمنيزيا العلاقات الدولية.
وكي نفحص عوارض الظاهرة التاريخية في تفاصيلها، يأخذنا المفكر جوزيف ستيغليتز إلى أصل أزمة التاريخ في أزمة الليبرالية التي فرضت أرثوذكسية فكرية، ويتحدث عن نهاية النيوليبرالية وبداية نهضة التاريخ، وينتقد منشأ ما بعد الليبرالية التي أرادت أن تضع جانبا جزئية سردية مهمة من التاريخ قيد النسيان، أو الإخفاء، أو حتى التدمير . ويتساءل عن باقي السرديات الأخرى؛ لأن التاريخ ما زال حاضرا في سياقات عرفت تاريخيا أوج الحضارات، ولكنها اندثرت استعماريا باسم الحداثة.
وهل يعني هذا غياب الفاعلية Agency في باقي العالم؟ حتما لا: إذ لا يعني السكوت أو الضعف أو الموقف السلبي أو السكون الافتقار إلى الفاعلية، هذا ما تعالجه التأملية التي تدعو إلى أخذ العلائقية في الاعتبار، أي ارتباط القدرة على الفعل التي تنبع من ضلوعها في شبكة من كيانات أخرى والمفاهيم غير الأكاديمية بوصفها مظاهر غير ثابتة عند كل فاعل.
عموما، يبدأ البحث النقدي لتأريخ العلاقات الدولية من نبذ الأسس الحتمية الموضوعية للعقلانية في كل أشكالها الدوغمائية الأيديولوجية، ويهدف إلى تسليط الضوء على بناءات الإبستيمولوجيا الحديثة من الداخل. وبالنسبة إلى بقية العالم، أو الجنوب الكبير، أو العالم الثالث، فإن ذلك يعتبر مسؤولية أخلاقية المعرفة.. “منزل” الحداثة أو المنشأ الكولونيالي للقوة الكولونيالية حيث نعيش، وفهمه، والبداية تكون من بيت المعرفة في مساره التاريخي.
ميدانيا، في السياق العربي، على نحو مختصر، لجأ المفكرون العرب في تأملاتهم من كل أطياف المعرفة والفلسفة إلى رفض الرؤية الضيقة الاختزالية لتاريخ العرب، وجاءت مشاريعهم الفكرية النهضوية كالتي اهتم بها المفكر مالك بن نبي ، يوصفها محاولة لإطلاق عنان التفكير في تحديات العالم العربي في مرحلة أصبح هشّا ومحصوراً بين تركة الاستعمار وحاضر الإمبريالية والاضطهاد السياسي والاجتماعي الداخلي لأنظمته.. كيف يمكن أن يضع التاريخ الذي يحكي عن منطقة العرب سياقا خاصا للأفكار بشأن السياسة العربية كوحدة متجانسة؟ إن هذا ما تعجب منه محمد عابد الجابري الذي نهى عن تكرار الخطأ والوقوع في التعميمات بسبب “لفق ونعت” صفة “العرب” على نهج أو مقاربة أو رؤية معينة تغطي على التنوع الفكري والعقائدي، وحتى المذهبي النسقي السياسي في المنطقة، مشيرا إلى أطياف الشيعة والسنة وتباين الأنظمة العربية مع تباين استقطاباتها للقوى الخارجية .
ومن جانبه، يرى محمد العروي أن شعوباً أخرى عرفت هذا النوع من الوهن والتراجع حتى لجأت إلى اللغة والتاريخ من أجل تحديد ذواتها واسترجاع كرامتها، مثلما فعل الألمان والروس في مرحلة معينة من التاريخ. وللخروج من المأزق، يدعو العروي، كما طرح الجابري ذلك، إلى تبني مقاربة تاريخية نقدية بمعنى الانخراط الصادق والعمل الإيجابي في كتابة التاريخ لمعالجة الواقع، وتحديد سياق الأفكار والنظريات التي وضعها الغرب وتبني الأصلح منها. ومع ذلك، لم يتمكن العرب من تأكيد أنفسهم باستعادة سرد تاريخهم والتحكم في مصيرهم ما دامت المعرفة مستخفة، ووهنت مع وهن النهضة والمستقبل منذ استقلال دولهم.
في هذا القسم من الدراسة، نعرج على المأزق ما بعد الكولونيالي بوصفه مرحلة مهمة لفهم استمرار النسق الكولونيالي المعياري للنظام الدولي الذي يقوم بإخضاع الدول العربية للسلطة الغربية حتى في حال استقلالها فعليا. ونهتم بكيفية تعدي التحول التأملي في العلاقات الدولية، بوصفه تقليدا ما بعد وضعي، مجرد التحكم ضد التحيز بمعنى أن يعكس التموضع الإبستيمي وتأثيره في طبيعة المعرفة المنتجة ومعناها. وبذلك، يمثل التحوّل التأملي جوهر مسائل الإبستيمولوجيا والأنطولوجيا والمنهجية والأخلاق التي ترافق البحث الإمبريقي للظروف التاريخية والاجتماعية لبناء المعرفة في العلاقات الدولية وإنتاجها.
الوضــــع ما بعـــد الكولونيـــالي
بعد حركة تحرّر العالم الثالث من الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، انقسم العالم إلى غرب قوي صغير نسبيا، وعالم ثالث ضعيف كبير نسبيا. وتمثل المنطقة العربية الحلقة الوسطى في جوهر الصراعات الجيوسياسية والفكرية، وحالة لا مثيل لها من استقطاب (ات) مع القوى الخارجية، في مقدمتها الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية. وفي غياب أي خيار آخر، تبنت هذه الأنظمة الهشة، مثل غيرها في العالم، نموذج الدولة الوستفالية وتطبيقه، ولكن ذلك كان شكليا، ومن دون مراعاة اختبار ذلك على أراضيها.
ويشير أنطوني أنجي إلى أنه يجب الأخذ في الحسبان أن هذا النموذج اتسم بالعنف والغش والإخضاع والقتل واجتثاث بنى المجتمعات التي توغل فيها، بوصفها ظواهر رافقت امتداد النظام الأوروبي وانتشاره من البداية. ومن ثم، فإن من أهم الصعوبات التي يواجهها العالم الحديث الغربي بشأن العالم غير الغربي، الإفريقي والآسيوي واللاتيني الذي لم ينجح في تحقيق النموذج الوستفالي ديمقراطيا وقيميا، هو إقرار “طابع العنف الذي رافق ذلك الانتشار”.. وفي هذا المنوال نجد موضوع “نفاذ” السيادة في دول العالم العربي مؤشرا مربكا إن لم يكن استثنائيا من حيث إن حالة التدخل في الشؤون الداخلية تسبب هشاشة في السيادة، يسميها فريد هاليداي “حالة التدخل”. أو “النفاذ المستدام”؛ وهي حالة لا نجد ما يماثلها في العالم. ولكن، حتى مفهوم السيادة فيه ما يربك، لأنه يجدر أن يتكيف مع السياق الفكري والحضاري للحاكم والمجتمع من حيث العقد الاجتماعي الذي يجب أن يستجيب بفعالية للشأن الداخلي بوصفه مصدر شرعية الحاكم، ثم يترجم إلى الخارج في مختلف تعاملاته، وإن ما يحدث هو عكس ذلك تقريبا؛ إذ تقدم أولوية شرعية النظام إزاء الخارج، أما داخليا فكثيرا ما تعتمد على السند الأيديولوجي الحجاجي العاطفي لكسب الشرعية، وهو “سياق القوة بوصفه شرطا داعما للسيادة في معناها الوستفالي، حيث لا يمكن أن نحدّد السيادة من دون متغير القوة من منظور غربي، حتى إن ادعت عكس ذلك في بعدها المعياري.
إن دولة ما بعد الاستعمار هي دولة تحاول أن تتكيف مع مفهوم السيادة بمنظور غربي، أي إنه سبق شرط القوة لتعزيز السيادة. وبما أن هذه الدولة لا تكتسب كل شروط القوة اللازمة، فإنها توظفها لتغطية هشاشتها فتربك حساباتها الآنية وتقوم بترتيبات الحفظ الوضع الراهن، وكثيرا ما يقحمها ذلك في صراعات إقليمية. وهذا الوضع يترجم عمودية سلوك الدولة على نحو يؤدي إلى الاستعانة وطلب الحماية، وذلك في خرق واضح لأساس السيادة. وهذا المشهد ما زال قائما في المنطقة العربية المشحونة بتدخلات قوى خارجية وإقليمية، وحتى القوى الصاعدة منها بدأ نفوذها يقوى في العالم العربي. زد على ذلك أن من أهم المسلمات الجوهرية في فكر الغرب التعامل مع مركزية الدولة القومية كوحدة من وحدات التحليل. وقياسًا على هذا المستوى التحليلي المركزي، فإن الدول “الصغيرة” (الضعيفة) ليس لديها تأثير في السياسة الدولية.
إن مجرد الاعتراف السياسي” بالدولة وسيادتها لا يعني بتاتا أنها ستعامل على أساس ند مقابل ند، بل إن لهذا الاعتراف وجه آخر مفاده أنها خارج اللعبة أصلا. وإن الاعتراف بمجموعة اجتماعية، أو دولة من جانب مجتمع وثقافة مهيمنة ومسيطرة ما هو إلا تعبير ضمني للاندماج والامتثال لقواعد الأيديولوجيات التي تسير العالم . وبناء على ذلك، يستبعد تحقيق الانعتاق لهذه الدولة. وهذا جانب واحد مهم يترجم تعثر العلاقات الدولية وعجزها النسبي عن التحدث عن العالم الثالث أو الجنوب ما بعد الكولونيالي من حيث الضرر الذي سببته له المرحلة الاستعمارية وآثارها المستمرة، والتي كثيرا ما يتفاداها الغرب ويتحاشاها : ما يعني نهاية المسار التاريخي للكولونيالية الأوروبية التي أطرت فكرة “الإنسانية” وربطتها بالاستعمار والإمبريالية. ولكن، ما زالت ظروف الكولونيالية وسياقاتها قائمة بسبب غربية المنظومة المعرفية وقوتها التي حوّلت مجرد الاختلافات إلى قيم، لم تعزز “العنصرية” الإبستيمية فحسب، بل جعلت أيضًا أشكالا من المعرفة وفلسفتها المهيمنة تنتقل إلى إدراك التابع Subaltern فيمتصها ويستهلكها. لذلك، لا يجدر تفسير أي وضع متأزم في العالم الثالث - بما فيه العالم العربي - على أساس الهيمنة الاستعمارية وآثارها التي تجوز فعلا يوصفها فرضية قائمة. ولكن هذه القضية المعقدة أخطر كثيراً مما نتوقع بحيث لا يكفي أن نتكلم عن التحرر وتحرير العقول Decolonizing حين يوجد نوع من التواطؤ أو “قبول” للتابع أو الخاضع بالوضع، وأخذ نفسه بالمقياس الذي قاس به المستعمر.
فكاكــة أو تفكيــك الكولونياليـــة
ما الذي يربط الظاهرة “الكولونيالية” في العالم العربي بحقل العلاقات الدولية؟ كانت الانطلاقة من مرحلة ما بعد الكولونيالية التي هي فرع من الدراسات الكولونيالية؛ لأن أصلها يعود إلى الدراسات الثقافية ويعد إقحام تصورها في العلاقات الدولية حديث النشأة . وتتجلى الكولونيالية في نصوص وسرديات العلاقات الدولية حيث سیاقات تاریخ تشكلها ضاربة في الاستعمار والإمبريالية . ومن هنا، فإن تفكيك الكولونيالية لا يُقدم بوصفه بديلا، بل بوصفه محاولة لكشف الغطاء عن هذه النصوص واستعادة قصص وسرديات من جغرافیات ورؤى أخرى حول حقل العلاقات الدولية.
من الواضح أنه لما بعد الكولونيالية أوجه تقارب وصلة مع التحوّل ما بعد الوضعي في العلاقات الدولية، ومع ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة عموما. ولكي نضع الأمور في نصابها، يجب أن نشير إلى أن مفكري ما بعد البنيوية مثل ميشيل فوكو Michel Foucault، وجاك لاكان، Jacques Lacan وجاك ، وجاك دریدا  Jacques Derrida وآخرين لا ينتمون إلى فكر ما بعد الكولونيالية، وإنما توظف أفكارهم انتقائيا في العلاقات الدولية حول فكرة تشكل المعرفة، بناء على علائقية القوة الأدائية التجلي أو الخفاء In-visibility، وفكرة الخروج من منطلق الحس العام. وعموما، تقترب ما بعد الكولونيالية من دراسات التابع والمهمشين والجنوب التي تحاول التحرر فعليا من الكولونيالية وهي تتجه نحو فكاكتها Decoloniality.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024