مكيـــــة نجــــار تشــــرّح أسبــــاب قصــــور الإسهــــام العربــــي في الجهـد التنظــيري..

لماذا لا توجد نظرية”عربية” في العلاقات الدولية؟!

 

مبدئيا، نرى أن التعامل مع الكولونيالية (فكاكة الكولونيالية في العلاقات الدولية) ينطوي على عملية النزوح Decentering من موقف إصدار الحكم في دراسة السياسات الدولية عامة، وهو ما يعني، بحسب كيمبرلي هاتشينجس، الابتعاد عن منطلق الحس العام أو المشترك Common sense للنظرية الغربية والتاريخ الغربي، وكل ما يتصل به من دون تجاهله أو التغاضي عنه، وهو أمر يتطلب اتخاذ مسافة من أجل إقحام أصوات أخرى.
الحلقة الأخيرة
هذا ما تجده هاتشينجس صعبًا جدا، لأنه يتحدى مركزية العمل والحوار السائدين؛ بحيث لا ينظر إلى التصنيفات والمفهمة غير الغربية على أساس خلوها من الحنكة وحسن التوجيه، بل ببساطة على أساس أنها تصطدم مع الحس العام الإبستيمولوجي للأكاديميا الغربية. فما هو الحس العام إذن؟ إن كل ما يوزع بوصفه معرفة من خلال الترتيبات البيداغوجية أو الدراسات يجري تطبيعه في الوقت نفسه، وينتج نوعا من الحس العام مثل خلفية معرفية بوصفها “حقيقة” تتداول في عبارات “وقائع”؛ بحيث تصف بكل بساطة، ما هو “موجود” Is. وفي هذا إشارة واضحة إلى تبني أي معرفة تمثيل لـ “الآخر” بوصفه “حسّا عاما معرفيا”.
ولكن، كيف يتشكل الحسّ العام؟ تشير أودري أليخاندرو إلى عملية “تطبيع” القوة غير المرئية ضمن جهاز سلطة Power Dispositif وهو عبارة عن ميكانيزمات مؤسساتية وبنى معرفة تعيد ممارسة القوة داخل المجتمع. وحين “يطبع” التهميش والانتهاك، فإنه لا يوجد خيار آخر غير المشاركة في جهاز منطوق القوة هذا. وحين نتحدث معظم الأحيان، فإننا لا نحتاج إلى توصيف كل التفاصيل وشرح كل التعابير. يمكن ببساطة أن نخمن نوع المعرفة التي نتشاركها مع المتلقي. وهكذا يتحوّل خطاب وراء خطاب إلى “الحس العام”، وفي هذه الحالة، لا يمكن مساءلة مسلّماتنا أو نظريتنا للعالم. وهذه حال مركزية المعرفة حول المجتمعات غير الغربية، وخصوصا العربية منها، وفي سياق لامركزية المعرفة نفسه، تضاعف نورا فيشر أونر هذا النزوح عن المركزية Double Decentering في العلاقات الدولية والعالم العربي، وذلك من خلال اختبار الأسئلة والأجوبة التي قد تنسخ ثنائيات الاستشراق. وتدعو إلى إضفاء الطابع “المحلي” على ما هو أوروبي، بناءً على الأورومركزية التي تحولت بعد النزوح الأول المتمثل في هجرة العلماء الأوروبيين إلى الولايات المتحدة، مرورا بالمركزية الأمريكية American Centrism، ثم المركزية الغربية Western Centrism أو الأورومركزية التي أضحت مثل قوة معيارية تدعي العالمية Universalism على أساس إمبريالي. وفي كلتا الحالتين، هذا خطاب نقدي نابع من المنظومة المعرفية الغربية وموجه إليها، وهو - لا محالة - يضفي عليها ثراء (المدرسة النقدية) ما دام الدارس في هذه الحالة غربي الفكر والمنهج على الأقل.
زد على ذلك، مسألة استمرار الاستعمار Coloniality في شكله الإبستيمي المعرفي، وهي مسألة قلما يعترف بها الغرب، ما عدا مجموعات من الوسط الأكاديمي. ومن ثم، فإن الخطوة التي يجب أن تتخذ هي فكاكة هذا الاستعمار، وهذه نزعة فكرية تحررية ظهرت وتطورت كثيرًا مؤخرًا في أمريكا اللاتينية، وانتقلت إلى آسيا وإفريقيا، بوصفها مناطق ما بعد كولونيالية مهمشة ومعنية مباشرة بالاستعمار الإبستيمي الفكري.
 يبحث هذا العالم ما بعد الكولونيالي عن معنى ثقافة هوية ذاتية تعبر عن وجوده في ظل ضعف الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وهذه المهمة الشاقة تتطلب جهودا مستدامة للتحرر فكرياً من سلطة المهيمن الأورومركزي الذي لا يتحكم في سرد تاريخ الآخر ومعرفته فحسب، بل هو أيضا مصدر إنتاج كل أنواع المعرفة المتداولة حاليا.
ويبدو ذلك جليا في موقف مقاربات الوضعية إزاء العلوم الإنسانية والاجتماعية، الذي يعبر عن سلوك كولونيالي، حيث يكون الباحث الوضعي الملاحظ الوحيد فقط هو الذي يخول التفسير، ومن ثم اتخاذ قرار في القضايا المهمة والحقيقة والصدقية.
ولكن كيف يحدث ذلك؟ إبستيمولوجيا، يتمثل العمل ضمن العلوم الاجتماعية أساسا في تطوير المعرفة من خلال خوض تفاعل مكثف بين “موضوع” الدراسة (مخبر أو أي وصف نتبناه) والباحث. ومن المعروف أن البحث هو شكل من التفاعلات بين شريكين أو أكثر، وأن جودة البحث تعتمد على مدى جودة التفاعلات التي يقوم بها الباحث. وفي الأخير، فإن الباحث، أحد الشريكين في التفاعل، هو الذي يملك نتاج البحث والقرار ومعايير الصدقية، وهو أيضا، الأقل معرفة عن الموضوع المبحوث فيه.
ينطوي استمرار الظرف الكولونيالي باستمرار السيطرة على المعرفة التي قد تنجم عنها “شيطنة” شعوب وحضارات وثقافات ومناطق، وتجريدها من الإنسانية والمعادلة هي كالتالي: إذا كانت هذه الشعوب متدنية أنطولوجيا، فهي بالضرورة قاصرة وعاجزة إبستيميا. ليس من السهل أن نجد أجوبة تطابق واقعا مختلفًا كليا عن الحس العام لقدرة التفكير وإنتاج المعرفة. وحتى نتقدم في المعرفة، يجدر بنا أن نخطو نحو الخلف مستعينين بما يُعرف بالتحول التأملي، وهو يعبر عن سياق تأملات استفسارية طرحها مفكرون من الهامش والأطراف والعرب شركاؤهم في ذلك من قبيل: هل يمكن أن يفكر الآسيوي؟ وهل يمكن أن يتحدث التابع؟ وهل يمكن أن يفكر غير الأوروبي؟
التحول التأملي
بمناسبة مئوية التأسيس الرسمي لحقل العلاقات الدولية بجامعة أبيرستويث عام 1919، أصدر أميتاف أشاريا وباري بوزان كتاب صناعة العلاقات الدولية العالمية: أصول العلاقات الدولية في عيدها المئوي وتطورها. ويُعد هذا الكتاب إضافة ثرية تعالج أهم مفاهيم السياسة الدولية وخصائصها، ففيه سطر المؤلفان حالة الحقل ورسما خريطة مستقبل النظام الدولي، في إشارة إلى أن العلاقات الدولية تعيش مرحلة “ما بعد الغرب” Post Western ، وهو التصور نفسه الذي استنبطه مفكرون و متخصصون مؤخرا، محسوبون على المدرسة التأملية جراء التحول ما بعد الحداثي، وما أفرزه من مقاربات حول ما بعد البنيوية والأدائية Performativity والفاعلية Agency.
إن ظاهرة التحول التي تشهدها السياسة العالمية، وتأثيرها في برامج البحث التي تقوم بمساءلة أسس قيام المعرفة المتداولة مع آليات إنتاجها في العلاقات الدولية، بحسب الباحثة إينانا حماتي عطية، تستلزمان اجتهادات إبستيمولوجية ومنهجية يمكن للتأملية بوصفها إطارا فكريا عمليا، إتاحة فهم نوعي لهذا التحول، وهذا ما سمته حماتي عطية بـ«التحول التأملي” الذي يبدأ بإعادة النظر إلى “الأنا” في الميدان العلمي البحثي من خلال تقصي ثقافة الوضعية المهيمنة وموقفها من مشكلة القيم. وبحسب منظورها، تقوم التأملية بـ«الوضعنة” Objectivation المتزامنة والمتممة للقواعد والمناهج والمعاني التي تحكم عملية إنتاج المعرفة على نحو عام، إلى جانب الآثار الاجتماعية للتمثيلات والقيم أو الأحكام التي تنبثق من ذلك: ما يفهم منه أن لدى المعرفة حاليا قوة مبدعة Creative اجتماعيا، وهي قوة التمثيل على حساب الواقع.
ونفهم مما سبق أن المعرفة بوصفها بناء اجتماعيا ناتجا من ممارسة اجتماعية تحكم وتنتج وتصدر أحكاما اجتماعية ذهنية متعلقة بالواقع؛ فشكل المعرفة لديه هدف وحكم سياسي للفعل الاجتماعي الذي كان مصدر خلاف بين فلاسفة العلم والمنظرين الاجتماعيين في مراجعة نقطة بداية التفكير في البحث العلمي بشأن طبيعة المعرفة ومصادرها وحدودها.
ومن بين الأسباب القوية للتحول التأملي الرجوع إلى نقطة بداية مختلفة عن الإبستيمولوجيا: ماذا يمكن أن نعرف؟ وعن الأنطولوجيا: ما الذي نعرفه؟ وتتحول المعرفة إلى موضوع أنطولوجي في حد ذاتها؛ إذ تستدعي قفزة سوسيوتاريخية من خلال الإبستيمولوجيا الاجتماعية بالنظر إلى أنها ظاهرة اجتماعية. ومن ثم، تصبح التأملية بمنزلة بحث اجتماعي - عملي وتفهم بوصفها عملية مستمرة للتقييم السوسيولوجي لأدوات المعرفة خلال عملية الإنتاج أو المعرفة التي تفرز جزءا من الحقائق عن طريق التحليل السوسيوتاريخي، ويصبح اللجوء إلى التأملية، بوصفها فلسفة، بمنزلة أداة اليقظة الإبستيمية Vigilance Epistemologique وفهم الذات وترجمتها إلى محرك أكسيولوجي لممارسة المعرفة. لذا، تكمن المسؤولية في الممارسة من خلال التوفيق بين ادعاءات المعرفة مع ظروف إمكانيتها ومسؤوليتها الاجتماعية، إضافة إلى الجوانب السياسية.
ومع زيادة الاهتمام - في الآونة الأخيرة - بالمعنى السياسي والاجتماعي للمعرفة، بعد حسم قضية أنها ليست موضوعية البتة، أو حقيقية أو صالحة، أو حيادية، بل هي تعبير لإدراكات سوسيوتاريخية، وقيم ومصالح واهتمامات معينة، فإن قيمة المعرفة تصبح مصدر إشكال. وتصبح مهمة الإجابة عن أسئلة من قبيل: ماذا تريد من المعرفة؟ استطرادا لسؤال: ماذا نريد من الإبستيمولوجيا؟ تقابل من حيث الأهداف المباشرة: ماذا ننتظر من المعرفة، أو نتوقع منها، عمليا؟ لأن المعرفة ليست “شيئا” تحصل عليه للاستخدام، بل هي “ممارسة” تقوم بأشياء (لأنها تؤدى بأسلوب) ويجري تحسين أدائها كل مرة . وهذا هو جوهر مفهوم الأدائية من حيث الأداء وتحسين الأدائية Performed and Performative. وتختم حماتي عطية، التي استلهمت من أفكار بيير بورديو التأملية المرتبطة بالمسؤولية في الممارسة، بأن “الهيمنة” في إنتاج المعرفة وتوزيعها يمثلان نوعا من “النرجسية التي تجعل الذات كالمالك الوحيد المستودع المعنى”، ومن ثم الحقيقة.
محليا، لم تكن معظم دول العالم العربي بعد الاستقلال، مهتمة بتطوير العلوم الاجتماعية التي يمكن أن تتحدى أنظمتها أو تخرج عن سيطرتها. كان يوجد ميل إلى جلب باحثين أجانب بسبب حيادهم السياسي وفي هذه الظروف لم تكن المناهج والإبداع الأكاديمي ليزدهرا داخل المراكز الحكومية الرسمية التي كانت ترفض النقد، ما عطل تطوير علوم اجتماعية محلية بصفة عامة. وفي هذا السياق، نعيد النظر إلى مسألة حرية الفكر والتعبير وأهميتها في هذا العلم. وفي هذا تأكيد مرة أخرى على ازدواجية ظروف نشأة المعرفة وتطورها داخل العالم العربي وخارجه. وقد يكون الظرف الداخلي العامل الجوهري لأي نهضة معرفية في أي دولة كانت. وتجربة النهضة المعرفية في العالم العربي الإسلامي ليست غريبة عن المنطقة التي كانت تمثل إحدى ركائز التنوير الحداثي الذي عرفته أوروبا والبشرية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024