“فوتيريبل” تقترح أربع سرديات لأنماط الحياة الممكنة

كيف سنعيش في أفق عام 2050؟

سيسيل ديزوناي ​مديرة الدراسات والبحوث في Futuribles ترجمة: هيئة تحرير دورية استشراف

هل سيكون التقدّم في الطب والتكنولوجيا قادرًا، في هذا الأفق على دحر حدود المرض، والإدمان والموت؟ أم أنّ الأضرار البيئية والأمراض التي تسمى “أمراض الحضارة” ستكون قد أدّت إلى تدهور رهيب في جودة الحياة؟ أم أنّ هذه الوضعيات ستتعايش على الأرجح، ضمن مجموعات سكانية مختلفة؟ وهل ستؤدّي القيود المفروضة على الموارد الطبيعية (الماء والهواء والتربة، وما إلى ذلك) إلى صراعات عنيفة على تملكها، وإلى طرق إدارة تسلطية، أم أنّها ستحفّز ابتكارات تكنولوجية ثورية تفتح مستقبلا مشرقا؟ وهل يُعلن تمكين الأفراد إزاء المؤسّسات التي لا تزال تؤطّر إلى حدّ بعيد المنظمات الجماعية (دور العبادة، والدول والنقابات والأحزاب السياسية، وما إلى ذلك) عن نوع جديد من العلاقات الاجتماعية تحكمها العواطف والحساسيات المشتركة، أم بالأحرى ظهور هويات حصرية ومهيكلة؟ وهل ستؤدّي تحوّلات الأنشطة اليومية (العمل والاستهلاك والترفيه، وما إلى ذلك) التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية إلى تجزئة وتداخل غير طوعيين ومؤلمين للأزمان، أم إلى حرية أكبر للأفراد في استخدامهم الزمن؟

إنّها أسئلة مفتوحة نسبيًا بالنسبة إلى أولئك الذين يرغبون في استباق ما يمكن أن يحدث، وهي رهانات مهمة بالنسبة إلى الأفراد الذين يرغبون في المشاركة في بناء المستقبل. وللمساعدة في هيكلة التفكير في هذه الموضوعات التي يتردّد صداها حتما بين بعضها البعض، أنجزت جمعية “فوتوريبل “الدولية” (Futuribles International) في تقريرها الأخير “تقرير الرصد” (Rapport Vigie)، استكشافا استشرافيا لعشرين سؤالا رئيسا تتعلّق بمستقبل أنماط الحياة، وبلورت أربعة سيناريوهات، وهي أربع سرديات الأنماط الحياة الممكنة بحلول أفق عام 2050. وتكتسي بعض هذه التصوّرات بعدا عالميا، بيد أنّها تركّز مع ذلك، على البلدان المتقدّمة وخاصة على أوروبا. توضح المقالة التالية الخطوط العريضة لهذه السيناريوهات.

الـــسيـنـاريـو الأول : مجتـمع الأنات

تستمر حركة الفردانية في ما يسمى بالمجتمعات المتقدّمة؛ فتحقق الجسد والروح، والبحث عن المعنى، والاستماع إلى الذات هي كلّها أكثر من أيّ وقت مضى تطلعات مركزية. ويرفض عدد متزايد من الأفراد المعايير الاجتماعية المتعلقة بالعمر والجنس، والوضعية المهنية ... إلخ؛ فالجميع يودّ تأكيد شخصيته وقيمه وتفضيلاته، وحساسيته.
إنّ الهدف الرئيس من التربية (الأبوية والمدرسية على حدّ سواء) هو تشجيع تحرّر الأفراد من أطر ثقافية واجتماعية يمكن أن تلجم فردانيتهم. ويمر تكافؤ الفرص عبر تنمية المهارات والكفاءات (“القدرات” Capabilities باللغة الإنكليزية)؛ ما يسمح للجميع ببناء مسارهم الخاص ومقاربتهم الشخصية للعالم.
تتجذر الآراء والالتزامات الفردية على نحو متزايد في علاقات ذات حساسية إزاء الرهانات. ولا يتم تنظيم الحركات البيئية القوية لمصلحة التنوّع البيئي” أو “ضدّ انبعاثات الغازات الدفيئة”، ولكن حول الدفاع عن الحقوق في هواء نقي وجمال المناظر الطبيعية والاحترام المتساوي الجميع الكائنات الحساسة البشر والحيوانات والنباتات ... إلخ. ويجري تنظيم العلاقات الاجتماعية على نحو رئيس حول روابط عاطفية قوية إلى حدّ معين تبنى من خلال الالتزامات والتجارب المشتركة، بما في ذلك الالتزامات والتجارب المشتركة عن بعد. وتصبح الالتزامات قابلة للعكس على نحو أبعد.
لا يكون للمنظمات الجماعية معنى إلا إذا كانت تمنح للأفراد الظروف المثلى لتحقيق ذواتهم وتشجيع التعبير عن حساسيتهم. وبوجه عام، يُنظر بسهولة إلى المنظمات الجماعية بوصفها عقبات، فأعضاؤها يتم تجديدهم على نحو منتظم.
إنّ توقّعات المواطنين إزاء الدول هي ملتبسة على نحو متزايد فتوقّعات توفير الخدمات الأساسية هي في تزايد، وفي مقدّمتها الأمن (المادي والبيئي والاجتماعي، وما إلى ذلك) والممانعات متزايدة إزاء أيّ شكل من أشكال القيود الجماعية. فالمتوقع أن تكون الدولة منظمة فعالة للخدمات العامة، وتطوير قواعد قانونية بسيطة قائمة على التسامح من أجل بناء العلاقات الاجتماعية والتحكيم في الخلافات. والحركات السياسية، التي أصبحت تكتسي طابعًا سريع الزوال على نحو متزايد تحشد الناشطين الذين يتشاركون بعض الوقت مصلحة مشتركة ويسعون إلى التأثير في القرارات.

محـرّكـات الـــسـيــنــاريــو

تتزايد حركة الفردانية، ويسهّلها رفع مستوى التعليم والتأثير الأقلّ للانتماء المتوارث، أو حتى عن طريق الوصول إلى المعلومات والتكنولوجيا الرقمية. ويمكن أن يؤدّي إلى الفردانية إذا كان ينظر إلى ما هو جماعي بوصفه عائقًا أمام تحقيق الذات الشخصية. ويعدّ كثير من الناس على نحو متزايد أنّهم في الوضع الأمثل للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية وغيرها، واتخاذ القرارات التي تناسبهم على نحو أفضل.
تستمر العولمة، وهو ما سينعكس في أفق عام 2050 من خلال تداخل متزايد بين الاقتصادات والشركات والثقافات والشبكات ... إلخ، ويتنقل الأفراد على نحو طبيعي بين شبكات الانتماء والمقاييس الجغرافية المختلفة (من المحلي إلى العالمي)، وفقًا لأنشطتهم، ومعتقداتهم، ووسائلهم.
 على الرغم من تفاقمه، لا يعد التغير المناخي أولوية بالنسبة إلى غالبية الأفراد في الدول الغربية. فإن كان أكيدًا أنّ مظاهره أكثر تواترا وإزعاجًا (دورات موجات الحر الشديد، والجفاف والفيضانات .... إلخ)، فإنّها لا تضع أنماط الحياة السائدة موضع سؤال. وينطبق الشيء ذاته على التلوث والتوترات بشأن الموارد الطبيعية والتنوّع البيئي.
يتم إحراز تقدّم كبير في الخوارزميات التي تسمح بتخصيص المزيد من المحتويات الرقمية التي يمكن أن يصل إليها الأفراد، والتي تتعلّق بأقاربهم، أو بالأخبار اليومية، أو بمشترياتهم. وهذا البعد الرقمي هو أيضًا أداة لتمثيل الذات وللاعتراف الاجتماعي. وتتيح التطبيقات الحاسوبية والكائنات المتصلة بالشبكة للجميع مراقبة سلوكهم وصحتهم، ومخاطر تطوّر الأمراض، وما إلى ذلك.
تأثير الديانات التقليدية آخذ في التناقص (الانجرافات والفضائح ومشاعر فقدان الحرية الفردية، وما إلى ذلك).

العيـش في هـذا السينـاريـو في أفـق عـام 2050

يصبح الوصول إلى السلع والخدمات مشكلة حيوية بالنسبة إلى الأفراد. وقد يعزّزه القرب من المدن واستخدام الخدمات عبر الإنترنت، ولكن أيضًا بعض السياسات المحدّدة للمؤسّسات.
يصبح هدف السياسات الاجتماعية تمكين الأفراد، من خلال ضمان الوصول إلى الخدمات اللازمة لتحقيق الذات. وقد يؤدّي ذلك إلى رفع بعض أشكال الحظر، مثل القتل الرحيم أو تعاطي الحشيش، وكذلك رفع بعض الالتزامات، مثل التعليم والتطعيم. ومن ناحية أخرى، يجري إرساء عدد من الآليات لدعم الأفراد في بناء مسارهم نظم المعلومات والتدريب، وسياسات التمييز الإيجابي للحدّ من أوجه اللامساواة، ومن الدخل الكوني المنخفض والمساعدات المحدّدة الأهداف ... إلخ.
يمكن أن يؤدّي السعي إلى تحقيق الذات على المستوى الشخصي إلى مزيد من تفرد الممارسات والأوقات ومسارات الحياة. فكلّ فرد يبني ثقافته، وهويته وتعليمه ويستحدث علاقته بالعالم وبالعمل، وبالعائلة. ويمكن أن تكون هذه البناءات متقلّبة؛ فكلّ فرد يمكنه، خلال حياته، أن يكون لديه العديد من العائلات والعديد من المهن وحتى عدّة أديان وعدّة جماعات أهلية مرجعية. وتصبح سيولة الروابط والشبكات مركزية، وكذلك بعض القيم مثل التعاطف.
- تصبح الكفاءات أساسية في المسارات الوظيفية، ما من شأنه أن يساعد في تزايد حدة الفردانية وتفتيت مسارات التعليم والتدريب، وكذلك الوظائف.
- يظلّ الاستهلاك رافعة قوية لتأكيد الذات والتمايز الشخصي.
- تفسح الأعراف الاجتماعية القديمة والديانات التقليدية المجال أمام أشكال جديدة من الروحانية تصاحب البحث عن المعنى.
- يخصّص وقت الفراغ للرفاه والصحة والتعلّم .إلخ..
- يصبح العقد الوسيلة الرئيسة للعلاقة بين الأفراد والجماعات الشركات والمؤسّسات والأسرة ..إلخ.
كلّ شخص مسؤول عن صحته، وهو موضوع العديد من الاستثمارات فالتحدي الذي يواجه الأفراد هو البقاء بصحة جيدة في بيئة متدهورة. وتتطوّر التقنيات الهادفة إلى زيادة الأداء البدني والفكري. ويصبح الألم والموت غير مطاقين على نحو متزايد. وتضم حركة “ما بعد الإنسانية” (Transhumanism) أتباعًا على نحو متزايد.

السيـنـاريـو الثـاني: المجـتمـع تحـت الـتحــكــّم

لم تعد خطط العمل الجماعية الحالية مناسبة لحجم التحديات التي ينبغي أن تواجهها البشرية. ويؤكّد على هذا الخطاب أكثر فأكثر الأقليات النشطة التي تبرز عجز المؤسّسات وأيضًا عجز المبادرات المواطنية عن أن تأخذ على عاتقها التحديات الهائلة المرتبطة بالدخول إلى حقبة “الأنثروبوسين” (Anthropocene) (حقبة التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والتقنية، بما في ذلك، تغير المناخ البشري المنشأ وتأثيره على الأرض وحياة الإنسان)، بقدر تزايد الكوارث الطبيعية.
وسيجعل تدهور الظروف المعيشية لجزء متزايد من السكان، وتفكيك البنيات الاقتصادية الفجوة بين حجم المخاطر البيئية وعدم فاعلية الإجراءات المتخذة للتعامل معها، جلية في نظر معظم الناس وستضغط الحركات الاجتماعية المصمّمة بشدّة، وكذلك الشركات من أجل أن تفرض الدول، بوصفها أكثر الجهات الفاعلة شرعية والمسلحة أكثر، انتقالاً سريعا نحو نموذج آخر للتنمية.
وسيكون ضمان بيئة صحية وإيكولوجية هو التحدي الجديد الأكبر والأولوية المطلقة بالنسبة إلى المؤسّسات الرئيسة على الصعيد الدولي. وتخضع الحريات الفردية لهذه الضرورة الجديدة التي تعد حيوية. ولذلك تقوم الدول الأوروبية بتعبئة الأدوات والسياسات العامة بمختلف أنواعها لتقييد سلوك الفاعلين الاقتصاديين والأفراد، والأقاليم. وتتم مراقبة الاستهلاك الفردي الذي يُقدّر بما يعادل الكربون الذي يصبح شكلاً جديدًا من العملات ويخضع إلى حد بعيد لنظام الحصص. وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، يتم تنظيم الإنتاج الصناعي ومراقبته إلى حدّ بعيد أيضًا، مع معايير صارمة جدّا للحدّ من التأثير البيئي (ضريبة الكربون، وضريبة القيمة المضافة الدائرية ... إلخ).
ويحدث انتقال سريع نحو أنماط حياة أكثر اعتدالاً، يتم تأطيره بواسطة السلطات العامة والمجتمع نفسه الذي يفرض معايير اجتماعية جديدة على الأفراد استنادًا إلى مبدأ “الكفاية” (Frugality). ويمكن أن تكون هذه العملية إلى حدّ ما طويلة ومؤلمة بحسب البلد والجهات الفاعلة. وهي تؤدّي إلى نموذج آخر للمجتمع الذي يضفي قيمة على الموارد الطبيعية والإنتاج المحلي، وأنشطة الخدمات وجودة العلاقات الاجتماعية. لكن هذه القواعد الجديدة لا تحظى بالإجماع؛ ذلك أنّ حركات تشجبها بوصفها عقبة أمام الحريات الفردية وخلق فرص العمل والثروة. وعلى العكس من ذلك، يدافع آخرون عن قواعد أكثر راديكالية “التيار المناهض للتمييز بين الأنواع” (Antispeciesism)، ورفض أيّ استخدام للطاقة الأحفورية أو النووية.. إلخ).

محرّكات السـيـنــاريــو

المحرّك الأول لهذا السيناريو هو تسريع التغيرات - البيئية وتفاقمها التغير المناخي والتوترات - والصراعات على الموارد الطبيعية، وتدهور التنوّع البيئي ... إلخ.
تترجم هذه الظواهر إلى قيود متزايدة على الأفراد والشركات (التلوث، والأمراض، وارتفاع أسعار الموارد والأحوال الجوية القاسية، وما إلى ذلك). ويمارس عدد متزايد من الأفراد والشركات ضغطا على السلطات العامة.
تتزايد الهجرات الدولية. ويمكن أن تكون لهذه الهجرات دوافع مختلفة (اقتصادية وسياسية و/أو بيئية)، وتتعلّق بجميع مناطق الكوكب.
يتطوّر الشعور بـ«المسؤولية الفردية العالمية نحو القضايا البيئية كما تطرحها الأمم المتحدة)، ما يعني أنّه يجب على كلّ فرد أن يحدّ قدر الإمكان من التأثير البيئي لأنشطته.

الـعيش في أفق عــام 2050 في هـذا السـيـنـاريـو

يمكن أن تؤدّي عملية الانتقال إلى مرحلة أولى من التكيّف والتضحيات؛ إذ تجب إعادة النظر في أنماط الإنتاج والاستهلاك من أجل التقليل إلى حدّ بعيد من تأثيرها في النظم الإيكولوجية. فتكلفة المنتجات والخدمات الأكثر إضرارًا بالبيئة والمناخ تزداد على نحو حاد. ويصبح تثمين الموارد المحلية ونقل الأنشطة الاقتصادية المحلية (التصنيع، ولكن أيضًا الإصلاحات والخدمات المختلفة) أولويات للفاعلين المحليين والجماعات المحلية. وبعد مرحلة للتكيّف تتطوّر سوق جديدة للسلع المستدامة وذات الأثر البيئي المنخفض. وللحدّ من تأثير الزيادات في الأسعار يمكن تنفيذ العديد من أدوات الفعل العمومي: تقديم الإعانات للأكثر عوزا، والدعم لتمويل التكنولوجيات البديلة الهادفة إلى خفض التكاليف ... إلخ
سيصبح الاستهلاك المفرط للمنتجات الجديدة ترفا، وستتزايد ممارسات بيع المنتجات المستعملة وشرائها وعمليات التأجير. وبوجه عام، قد يشغل الاستهلاك مساحةً أقلّ في أنماط الحياة، وستولى الأولوية للترفيه غير المادي (الثقافة وغيرها) و«للمنتجات التي يصنعها المرء بنفسه، وللإصلاح، وللتبادل، وذلك للتعويض عن التكلفة الإضافية للمنتجات الصناعية. وسيتم تشجيع ممارسات الإنتاج الذاتي والاستهلاك الذاتي (الغذاء، والطاقة ... إلخ) (عن طريق التخفيضات الضريبية مثلا).
قد يكون في الإمكان إعادة النظر في العلاقة بالأقاليم، وكذلك إضفاء قيمة على المناطق المحيطة بالمدن والمناطق الريفية؛ لأنّها مواتية لممارسات الإنتاج الذاتي (خاصة الزراعي). وقد يكون في الإمكان على وجه الخصوص إضفاء قيمة خاصة على التبادلات بين الأفراد، على اعتبار أنّ الروابط ستصبح أكثر أهمية من السلع تقاسم الوقت، والأنشطة، وتبادل الخدمات وسلع الاستهلاك الجاري، والممارسات الجيدة ... إلخ.
قد تتحسّن الحالة الصحية للأفراد بفضل تضافر مجموعة من العوامل: انخفاض التلوّث المرتبط بالنقل وبالصناعة، ونمو التغذية العضوية، وانخفاض التعرّض للاضطرابات الغددية.. إلخ.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024