لم يكن الخامس من جويلية 1962 كغيره من أيام السنة بأدرار، ها هو مؤذّن جامع خطّاري يرفع أذان الفجر، ليكسّر صمت ليل مدينة أدرار، النائمة في شغلة التحضير لاحتفال الاستقلال بساحة (هنري لابيرين)، لعلّه آخر يوم ترقد فيه الساحة بهذا الاسم اللّعين، إذ ظلّ اسم هذه الساحة منذ سنة 1935، يرتبط بشخصية عسكرية فرنسية، أبادت نصف ثروة الرّعاة من الإبل بمؤازرة الرّاهب (شارل دو فوكو).
كان كل شيء يرتّب له بإحكام واقتدرار في (جنان كابويا) وفي غيره من الأماكن الأخرى بأدرار وقصر سالي، بمعية بعض مجاهدي المنطقة.
وما إن بزغ ضوء صباح ذلك اليوم المبارك، حتى بدأت الوفود تتقاطر على الساحة الكبرى للمدينة، التي اتخذت اسما آخر مبدلا عن (هنري لابيرين) منذ هذا اليوم، فصار اسمها(ساحة الشهداء)، أقواس ساحة الشهداء الأربعة (قوس رقان، قوس بشار، قوس تيميمون، قوب بوبرنوس) تدفع بأمواج من البشر، رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، استعدادا للاحتفال بأول يوم من استقلال الوطن.
حيث قدّم جيش التحرير استعراضا عسكريا بمعية بعض أعضاء الجبهة الجنوبية، الذين دخلوا من مالي للمشاركة في هذا العرس، منهم محمد الشريف مساعدية كما ذكرنا وعبد الله بلهوشات، وبعض الأعيان والعلماء، منهم الشيخ محمد بلكبير، فنصّبت لهم منصّة بالساحة، ألقى بها محمد الشريف مساعدية خطابا ألهب النفوس وشدّ العقول، لتتوالى رقصات الزهو والبارود وغيرها من الطبوع الشعبية الأخرى، وهم يردّدون (علامنا نجمة وهلال.. الله يرحم الشهداء).
يذكر لحسن رزوق رئيس بلدية أدرار السابق، وهو يومها ابن السابعة عشر عاما من عمره، أنه جاء للساحة الكبرى في حدود الساعة السابعة والنصف صباحا، ووقف مع ثلّة من أقرانه عند المكان المعروف حاليا بـ(مقهى أبّاأحمد) فشاهد استعراضا بالزي العسكري لجيش التحرير، استطاع أن يتعرّف على بعضهم بحسب قوله، منهم غوماري مصطفى ومحمد لعموري ومحمد العلمي وهم من أدرار، فيما كان رئيس هذا اللواء العسكري من مدينة ندرومة بحسب قوله دائما.
إن احتفال سكّان مدينة أدرار وما جاورها من القصور التواتية والقورارية والتيديكلتية، يثبت انخراط سكان الجنوب في الفرحة العارمة التي شملت أرجاء الجزائر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، لتعبّر بلسان واحد، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار، وما تسمية ساحة (هنري لابيرين) بساحة الشهداء في هذا اليوم المشهود، إلا اعتراف وتقدير بأولئك الشهداء، وتخليدا لدمائهم الطاهرة.