مـن التواصل الاجتماعي إلى العمل الإبداعي

أدب الــرسائل.. الـكتـابة في أبهى تجـلـيـاتها..

أسامة إفراح

لطالما كان تبادل الرسائل عادة اجتماعية، بأشكال محددة، ولكنه تعدى ذلك الاستعمال الاجتماعي المتواتر ليكون أيضًا جنسا أدبيا. وإذا كانت المراسلة، من حيث المبدأ، تأتي في شكل تواصل بين شخصين، كاتب الرسالة ومتلقيها، فإن هذا النموذج، في كثير من الحالات، يمكن أن يتسع ليصير تجسيدا لخطاب إبداعي، نثري أو شعري، أو الاثنين معا، خطاب تطور عبر التاريخ، ولم تفقده التكنولوجيا ألقه ورونقه.

يمكن أن تصبح المراسلات بمثابة دعامة لـ «عمل رسائلي”، بشرط أن يكون محتوى هذه الرسائل له قيمة أدبية مثبتة، وإذا كانت الرسائل وهمية، فسنتحدث عن “رواية رسائلية”.
يفرق محمد التونجي، في “المعجم المفصل في الأدب”، بين الرسائل التي يتداولها عموم الناس، والرسائل الأدبية، أما الأولى فهي “ما يكتبه المرء إلى صديقه أو أهله، وتكون موجزة محدودة الموضوع، سهلة الأسلوب خالية من التأنق اللفظي غالبا”، يقول التونجي، في المقابل يعرّف الرسائل الأدبية بأنها “نوع من الكتابات أخذ طابعا أدبيا متميزا”، ويذكر التونجي أنواعا منها “الرسالة الإخوانية” والتي “تتناول موضوعا أدبيا يكتبه الأديب لصديقه شعرا أو نثرا، أو يتضمن لغزا، أو حلا لمعضلة علمية معينة، أو اعتذاراً عن تقصير، أو عتابا عن تأخير. وقد تكون في مديح، أو رثاء، أو ثناء على صفاته وأخلاقه. والأديب يعتني برسالته اعتناء أدبيا ولغويا ملحوظا؛ فنراه يستخدم الأسلوب المنمق، والمصنوع بفنون الصنعة البديعية”.
كما يذكر التونجي الرسالة الشعرية، وهي “نوع من الرسائل الإخوانية، ولكن خصت بالشعر. يكتبها الشاعر لصديقه الشاعر إما للتحية الأخوية، أو للنقد والتعليق على قضية. واشتهرت رسائل شوقي وحافظ الشعرية حين كان الأول في الغربة”.
أما الرسالة الديوانية، فقد جاء في المعجم المفصل أنها عرفت حين أنشئ ديوان الرسائل، وكلما ازداد عدد الدواوين ازدادت الحاجة إلى كتاب للرسائل الديوانية. ولما كانت الرسالة الديوانية صادرة عن أمر رسمي من الخليفة أو الأمير لوالٍ أو وزير أو شخصية بارزة معينة، فقد تطلب ذلك من كاتبها ثقافة كبيرة في الأدب واللغة والتاريخ، وحفظ عدد من الشواهـد الشعرية والنثرية والأقوال والحكم، ولا سيما القرآن والحديث. وتتصف الرسالة الديوانية بالأسلوب الرصين، المنمق، البلاغي. وقد اشتهر في التاريخ العربي عدد بارز من كتاب الدواوين كان لهم قدم راسخة في الأدب مثل عمارة بن حمزة، وابن المقفع، وعبد الحميد الكاتب، والقاضي الفاضل. وبلغ بعضهم مرتبة الجمع بين الوزارة والكتابة.
وليست الرسائل حكرا على الأدب العربي، بل عُرف هذا الجنس الأدبي لدى الغرب ومنذ القديم، ومن الأمثلة على ذلك رسائل شيشرون (من 68 إلى 43 قبل الميلاد)، ورسائل فولتير (أكثر من 15 ألف رسالة من 1704 إلى 1778)، ورسائل غوركي إلى أبنائه.

رسائل درويش والقاسم

من جهتها، تعتبر الدكتورة نزيهة زاغز (جامعة بسكرة) أدب المراسلات أو الرسائل فنا من الفنون النثرية الذي عرف قديما.. فكثيرا ما كانت تشكل دواوين (وزارات) خاصة بهذا الفن، ويجلب لها أبرع الكتاب، وأجودهم تعبيرا.. فديوان الرسائل قديما بمثابة وزارة الإعلام والاتصال حاليا.. ورئيس الديوان عادة هو الناطق الرسمي باسم الحكومة.
وقد تطور فن الرسائل ليخرج عن نطاق السياسي ليدخل في الإطار الإخواني (ما يسمى بالإخوانيات).. ليتبادل الكتاب والأدباء رسائل عدت دررا في قلادة الأدب العربي.
وإن كان الزمن قد باعد بيننا وبين ذاك العهد، وفن المراسلات لم يأخذ في العصر الحديث المكانة التي أخذتها الفنون الأخرى، تقول زاغز، إلا أن كتب التاريخ احتفظت لنا بكثير من المراسلات بين الأدباء، وكان أشهرها على الإطلاق في العصر الحديث مراسلات الأديبة مي زيادة وجبران خليل جبران من جهة، وبينها وبين العقاد، والرافعي من جهة أخرى.
وفي دراستها “أدب الرسائل في العصر الحديث: مراسلات محمود درويش وسميح القاسم أنموذجا”، تقول الدكتورة زاغز إن تاريخ الأدب احتفظ كذلك برسائل متبادلة بين شاعرين من أبرز شعراء القضية الفلسطينية، وهما محمود درويش وسميح القاسم.. وقد جمعت هذه الرسائل في كتاب يحمل عنوان “الرسائل، محمود درويش وسميح القاسم”، وقد قدّم للكتاب الروائي الفلسطيني إميل حبيبي صاحب رواية “المتشائل”، ومن جملة ما استنتجه زاغز من خلال قراءتها لرسائل الشاعرين الكبيرين محمود درويش وسميح القاسم:


-  أدب الرسائل هو فن أدبي قائم بذاته وما يزال يحظى باهتمام الأدباء والنقاد رغم انحساره.
-  أدب الرسالة قد يكون أحد أهم الفنون الأدبية على الإطلاق لإسماع صوت الشعوب.
-  قد يخرج فن الرسالة من إخوانيته، ليخترق جدار الوطنية، والقومية، والعكس صحيح.
-  تبدو من خلال الرسائل تلك القدرة، والبراعة النادرة التي مثلما ميزت شعر الشاعرين أبانت عن باعهما النثري، فهما ينثران كأنهما يقولان شعرا بتلقائية، وبكثير من الجمالية، والإبداع.

رسائل إلى آدم

من الأمثلة أيضا، نذكر آسيا علي موسى.. عرفناها صاحبة دار النشر “ميم” التي قدمت عديد الأفلام الجزائرية المتألقة، وفازت بجوائز أدبية راقية. ولكن آسيا علي موسى كاتبة، قبل أن تكون ناشرة، ولأننا في صدد الحديث عن أدب الرسائل، نستشهد بكتابها “رسائل إلى آدم”، والذي من المثير فيه، أنه رسائل، ولكن إلى مجهول، رسائل في اتجاه واحد.
«رسائل إلى آدم” نصوص جمعتها آسيا وقسمتها إلى جزئين: الأول، وهو الجزء الأكبر، حمل رسائل يبدو أنها كتبت على نسق واحد.. والثاني تضمن نصوصا أقرب إلى الشعر، ليكون المجموع 18 نصا، جاءت في شكل جديد أنتجته لنا أستاذة الرياضيات التي تخلت عن الأرقام لتلج عالم النشر والكتاب.
آسيا كاتبة تميل إلى الشعر، وشاعرة تميل إلى النثر، فجاءت نصوصها بين الرواية والشعر.. تحكي آلامها وهواجسها في قالب جميل، فيحتار المرء هل يتوجب عليه الإحساس بالمرارة والحزن، أم بالمتعة والاستمتاع.. وتجيبه الكاتبة بأن ينساب مع الكلمات وينسى حتمية الاختيار، ففي عالم الكتابة كل شيء مباح.. هي نصوص جمعت بين رقة المرأة وقسوة الرجل، فكانت الثمرة “رسائل إلى آدم”..
وتزودنا آسيا علي موسى بمفاتيح تمكننا من قراءة خريطة عملها.. فتبدأ رسالتها الأولى بتعريف آدم الذي تخاطبه، إذ تقول: “اليوم الموالي.. على صفحات رسائل إلى آدم.. آدمي الذي لم يُستكمل خلقه بعد.. صباح جديد من دونك، كما ترى، ورسالة جديدة، ولن أضيف أكثر، فلقد بدأت أتعود على غيابك”.
ولعلّ الطريف في الأمر هو أنه في حين تقول آسيا إنها “لن تضيف أكثر”، فإنها ستضيف بعد ذلك “كتابا كاملا”، كما أنها قد أنذرتنا منذ البداية، أن آدم هذا “غائب” ولم “يستكمل خلقه بعد”، لذا نتساءل إن كان موجودا أصلا..
وقد أرسلت الكاتبة أكثر من رسالة إلى آدم، وهي رسائل من مُرسل واحد، في اتجاه واحد، إذ لا نحسّ بوجود ردود على هذه الرسائل، ولا يهتمّ العنوان أصلا بوجود ردّ من عدمه.
أما الإهداء: “إليهما.. نفسي ونفسي”، فقد نفهمه في البداية على أنه صورة بلاغية، وعلى أن “نفسي” في هذه الحالة تعني شخصا آخر، حبيبا أو عزيزا، يرتفع قدْره ليحلّ محلّ النفس.. ولكن الرسالة الرابعة “نرجس.. راقصيني التانغو”، تسمح لنا بقراءة الإهداء قراءة صحيحة، وهي النرجسية التي تريد الكاتبة أن تضفيها على شخصيتها، على الأقل من خلال مؤلّفها هذا.. وتقول آسيا في رسالتها الرابعة: “عندما أحبك آدمي أتحول إلى نرجس، وأشعر أنني المرأة الوحيدة في العالم وأنني الأجمل”.
هو مثال عن أدب الرسائل في المشهد الأدبي الجزائري المعاصر، ولكنه قد يحمل أيضا جوابا على سؤال: “هل سيتأثر هذا الأدب بالتكنولوجيا ويندثر؟”.. ولكنه جواب في شكل السؤال: “ومنذ متى يندثر الأدب؟”..

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024