يحاول يائسا إنتاج آليات الاستعمار القــديم بأساليب بالية

المخزن الكولونيالي..تلميذ بليد في مدرسة التّاريخ

سليمان . ج

القضيـة الصّحراويـة فضيحـة مستمـرّة فـي  وجـه القانـــون الدولـي

 خمسون عاما مضت، والجمهورية العربية الصّحراوية الديمقراطية تقف شامخة بصمود شعبها، وتطرح على العالم سؤالًا أخلاقيًا وقانونيًا صارخًا: إلى متى تستمر آخر مستعمرة في إفريقيا رهينة لنظام توسّعي لم يترك دليلا على شناعته إلا قدّمه؟! الجواب لا يحتاج كبير عناء، فالمخزن المغربي يُعيد إنتاج آليات الاستعمار القديم، ولكن بوسائل جديدة، أبشعها تلك التي تجمع بين القمع الميداني والسيطرة الرقمية، والاختراق السياسي والدعائي، في محاولة مستميتة لطمس هوية شعبٍ، وإنهاء قضيةٍ ما تزال تحت وصاية القانون الدولي.

 لقد أثبتت كل المعطيات منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، أنّ “قضية الصحراء الغربية” ليست مجرد نزاع إقليمي أو ملف حدودي كما يسعى المخزن المغربي إلى تقديمه، بل هي في جوهرها قضية تصفية استعمار مكتملة الأركان، وفضيحة مستمرّة في وجه القانون الدولي، الذي لم يتمكّن - حتى اللحظة - من فرض منطقه، أمام نظامٍ بدائي لا يعرف الحركة إلا في مستنقعات الكذب والزور والبهتان، ليعيد إنتاج أبشع أشكال الاستعمار عبر أدوات جديدة: من التوسع الاقتصادي إلى شراء المواقف، ومن توظيف خطاب معتلّ، إلى تعليب ما يسمّيه “الحل الواقعي” بواجهة دعائية مخادعة.
محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قانونية أممية، قالت كلمتها بوضوح لا لبس فيه في الرأي الاستشاري الصادر بتاريخ 16 أكتوبر 1975: “لا توجد أي روابط قانونية للسيادة بين الصحراء الغربية والمملكة المغربية”. ومع ذلك، لم يكتف المخزن بتجاوز هذا الرأي، بل تعامل معه بأذن من طين وأخرى من عجين..انطلقت بعده مباشرة أكذوبة “المسيرة الخضراء”، وهي في حقيقتها غطاء دعائي لاجتياح عسكري محض، غُلف بخطاب شعبوي، ليجد الشعب الصحراوي نفسه تحت إدارة استعمارية متخلّفة مغرقة في الرداءة، لا شبيه لها في التاريخ، فهي معجونة بالنفاق السياسي والسذاجة الدبلوماسية.
توالت منذ ذلك الحين انتهاكات صارخة للشرعية الدولية، الأمم المتحدة التي أنشأت بعثة المينورسو عام 1991 لمراقبة وقف إطلاق النار وتنظيم استفتاء لتقرير المصير، لم تستطع أن تفرض المراحل المتفق عليها، ومع مرور الوقت، تحولت البعثة إلى شاهد سلبي على سياسات التوسع المغربي، التي تراوحت بين الاستيطان المنهجي، وبناء جدار رملي هائل يُعد الأطول من نوعه في العالم، مزروع بملايين الألغام التي تحصد أرواح المدنيين والمواشي، وتمنع التنقل الطبيعي داخل الوطن الواحد.
ورغم عشرات القرارات الأممية التي تؤكّد على حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، واعتراف الأمم المتحدة بجبهة البوليساريو كممثل شرعي ووحيد لهذا الشعب، يواصل المغرب خطاب الإنكار، متهمًا هذا وذاك بتأجيج النزاع، دون أن يرعوي أو يتقي، حتى إنه جعل من دعم الشعوب المضطهدة تهمة، وكأن تصفية الاستعمار يجب أن تمرّ عبر محمية إقليمية تُفرض من الرباط وليس من الأمم المتحدة.
تندرج ممارسات المخزن ضمن ما يمكن تسميته بـ “الاستعمار المقنّع”، وهو أسوأ أنواع الاحتلال: استعمار لا يعترف بنفسه، ويطلب من الضحية أن تعترف بشرعيته، بل وأن تشكره على “سعة صدره”.

الابتزاز الدّبلوماسي وتواطؤ الصّمت الأوروبي

 ما كان للاحتلال أن يستمر عقودًا لولا التواطؤ الدولي، خصوصًا من قوى أوروبية تغضّ الطرف مقابل خدمات استخباراتية أو عقود اقتصادية، فالمخزن يستثمر مليارات الدولارات في شراء مواقف وتلميع صورته، بينما يترك الشعب المغربي الشقيق للضيم والهوان، بل وحتى المبيت في العراء، وطرد أصحاب الأرض من منازلهم، كي يحلّ محلهم صهاينة يقدم لهم “المساكن” مجانا قربانا للتطبيع.
ومع كل المهاترات التي يرتكبها المخزن، تأتي القرارات العادلة لتحول دون تحقق البهتان المخزني، ولقد كانت قرارات محكمة العدل الأوروبية حاسمة، وفصلت: “لا شرعية لأي اتفاق يشمل الصحراء الغربية دون موافقة ممثلي شعبها”. ومع ذلك، تواصل الشركات الأوروبية توقيع اتفاقيات نهب مع الرباط، في تحدٍ سافر للقانون والأخلاق.
فضيحة “ماروك غايت” ليست عرضًا جانبيًا، بل هي تجلٍّ فجّ لسياسة مخزن لا يتقن سوى شراء الذمم، وتزوير المواقف داخل أروقة الديمقراطيات الغربية، ولقد أحسن النائب الأوروبي ميك ويلامز الوصف حين قال: “ما فعله المغرب داخل البرلمان الأوروبي يُعد تهديدًا مباشرًا لشفافية المؤسسات الديمقراطية في أوروبا”..صرخة مدوّية ضد الفساد المخزني..لكن، من يعاقب “الفاسد المفسد” الذي يبتز أوروبا؟!
التواطؤ الأوروبي لا يمر دائمًا بسلام، فقد أكدت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي في أكثر من قرار، كان آخرها في 2024، أن المنتجات القادمة من الصحراء الغربية لا يمكن تسويقها باعتبارها مغربية، وأن أي اتفاق يشمل هذا الإقليم دون موافقة الشعب الصحراوي هو باطل قانونًا. ومع ذلك، تواصل شركات أوروبية كبرى توقيع صفقات صيد واستخراج فوسفات مع الرباط، في استهتار واضح بقرارات القضاء، وتكريس للازدواجية الأخلاقية التي تميّز مواقف بعض دول الاتحاد.

إفريقيـا موحّـدة ضـد الظّلــم

 في السياق الإفريقي، ظلّ الموقف واضحًا، وإن لم يكن موحّدًا في التطبيق. فالجمهورية الصحراوية عضو مؤسس في الاتحاد الإفريقي، ومشاركتها في القمم والمؤتمرات تؤكد الاعتراف الإقليمي بها، رغم محاولات المغرب المتكررة لتعليق عضويتها أو الضغط على بعض الدول لسحب اعترافها بها. وفي هذا السياق، يقول رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا: “لا يمكن أن ندّعي أنّنا قارّة محرّرة، ونحن نغض الطرف عن احتلال الصحراء الغربية. هذا تناقض لا أخلاقي لا يجب أن يستمر”.
وقد عبّر عن هذا المنحى عدد من القادة الأفارقة الذين ضاقوا ذرعًا بسلوك المغرب، إذ قال الرئيس الناميبي السابق هيفيكبونيي بوهامبا: “إذا سكتنا عن احتلال المغرب للصحراء الغربية، سنكون قد وقّعنا شهادة وفاة لقيم التحرر والاستقلال التي دفعت شعوبنا دماء غزيرة من أجلها”.
الرّهان المغربي على الزمن، وعلى تآكل الزخم الداعم للصحراويين، رهان خاسر..صحيح أنّ قوى دولية متواطئة تضمن للمخزن مظلة دبلوماسية واقتصادية، وصحيح أنّ موازين القوى في مجلس الأمن كثيرًا ما تميل بفعل الفيتو الفرنسي، لكنّ الواقع يُظهر أنّ المسألة الصحراوية لم تمت، بل تتجدّد في كل مناسبة، وكلما حاول المخزن طمسها ظهرت بقوة أكبر، سواء في المحاكم الأوروبية، أو في القمم الإفريقية، أو في مواقف دولية صريحة، مثل تلك التي عبرت عنها كولومبيا، أو بوليفيا، أو جنوب إفريقيا.

هشاشـة مخزنيـــة

في الداخل المغربي..لم يعد الحديث عن الصحراء “مقدّسًا” كما كان، فقد بدأت الأصوات تتحرّر، وبدأت الأسئلة حول كلفة الاحتلال تتواتر، وبدأت الضمائر تسائل جدوى الصراع الطويل، ومعنى الشرعية الأخلاقية لفرض حكم بالقوة على شعب يرفض جبروت المخزن، ثم إنّ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالمغرب، من غلاء المعيشة إلى موجات الهجرة، تُنذر بأن الاستمرار في سياسة “الهروب إلى الأمام” لن يكون مجديًا.

دونكشوتيـات المواقــع

 الاحتلال المغربي يواصل قمع الصحراويين بمختلف الوسائل لإسكات الأصوات الحرة التي تعمل على كسر جدار التعتيم الإعلامي المفروض على القضية الصحراوية العادلة، وهذه المرة عبر الفضاء الرقمي، حيث صار يستخدم قراصنة “الواب” لمهاجمة الحسابات الشخصية للمناضلين الصحراويين، ويمرر من خلال صفحاتهم خطابا فجّا ساذجا، ليحقّق “انتصارات” دونكيشوتية” يئس من تحقيقها في الواقع، فراح يلهث خلفها في المواقع.
وأكّد المناضل الصّحراوي علي السعدوني أنّ حجم القمع الرقمي يتضاعف حين يلمس النظام تأثير الصفحات والمنشورات على الرأي العام، حيث تعتبر أي صفحة صحراوية ذات متابعة واسعة تهديدا مباشرا لخطابه الرسمي، ما يبرّر استهدافها بوسائل رقمية ممنهجة، وأضاف أنّه، رغم عدم كونه إعلاميا محترفا، فقد سعى بما توفّر له من إمكانات إلى كسر التعتيم المفروض من خلال تجاربه في إنتاج أفلام قصيرة ذات طابع مقاوم ومساهمته في إصدار مجلة “الشهيد” إلى جانب رفاقه، مؤكّدا أن النشاط داخل الجزء المحتل من الصحراء الغربية يفرض على المناضل أن يؤدّي أدوارا متعدّدة كالإعلامي والمدافع عن الحقوق وغيرها.
ولم يتردّد المناضل الصحراوي والمعتقل السياسي السابق في تحميل الاحتلال المغربي المسؤولية الكاملة عن هذه الهجمة الرقمية، موضّحا أنّ المواقع الإلكترونية النضالية أصبحت ساحة معركة مكشوفة، تواجه فيها  الأصوات الحرّة ترسانة من الذباب الإلكتروني، تقودها أجهزة مخابرات مدربة على أساليب الاختراق والتشويش.
وتتقاطع هذه الشهادة مع ما أكّده الصحفي الصحراوي ومنسّق الفريق الإعلامي “إيكيب ميديا”، محمد ميارة، إذ أبرز بدوره أنّ ما يتعرّض له النشطاء والإعلاميون الصّحراويّون ليس مجرد سلسلة من المضايقات الفردية، بل هو “كابوس يومي ممنهج تقوده أجهزة الاحتلال المغربي بكل ما تملكه من أدوات رقمية”.
وأكّد ميارة أنّ عمليات اختراق الحسابات والتهجمات الشخصية والمهنية، إلى جانب حملات التبليغات الكيدية، “أصبحت روتينا قمعيا يهدف إلى حجب الصفحات، وإيقاف الحسابات التي توثق صوت الأرض المحتلة”، مشدّدا على أن منصات التواصل تغص بحسابات وهمية مخصصة لتشويه المناضلين، وتهديدهم وتخويفهم في وقت يضيق فيه الخناق على المحتوى المرتبط بالهوية الوطنية الصحراوية أو بتوثيق جرائم الاحتلال.
وأكّد أنّ هذه الهجمات ليست تخريبا عشوائيا، بل سياسة دولة قائمة على التضليل وقمع حرية التعبير، بهدف منع العالم من رؤية الوجه الحقيقي للاحتلال المغربي والتعتيم على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الصحراء الغربية.

الصّحـراء الغربيــة..حــرّة

 الخيار واضح، وإن كان صعبًا: لا سبيل لتسوية عادلة ومستدامة إلا من خلال استفتاء حر ونزيه تحت إشراف الأمم المتحدة، يمنح الشعب الصحراوي حقه الكامل في تحديد مصيره. وهو ما أكّده كل الأمناء العامين للأمم المتحدة، وليس عنا ببعيد قول بان كي مون: “الصّحراء الغربية قضية تصفية استعمار، ولا يمكن تجاوزها بحلول وسط دون استفتاء حقيقي”.
أمّا البديل، فهو استمرار نزاع مفتوح قد يتحوّل إلى مواجهة مسلحة شاملة، خصوصًا في ظل التوترات المتزايدة شرق الجدار، وعودة جبهة البوليساريو إلى العمل المسلح منذ نوفمبر 2020، بعد خرق المغرب لاتفاق وقف إطلاق النار. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت المواجهات في صمت إعلامي دولي مطبق، مع استمرار البوليساريو في شنّ عمليات نوعية ضد مواقع عسكرية مغربية.
يبدو أنّ السؤال الأهم لم يعد متى تتحرّر الصّحراء الغربية، بل كم من الوقت يحتاج العالم للاعتراف بأنّ المخزن المغربي ليس سوى امتداد لنظام كولونيالي بائد، وأنّ شرعيته في الصحراء لا تختلف في جوهرها عن أي احتلال آخر عرفه التاريخ.
إنّ حماية القانون الدولي تقتضي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تسمّى الأمور بأسمائها، وأن يُوقف المشروع التوسعي للمخزن قبل أن يتحوّل إلى نموذجٍ يُحتذى في التعدي على حق الشعوب في تقرير مصيرها

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19831

العدد 19831

الخميس 24 جويلية 2025
العدد 19830

العدد 19830

الأربعاء 23 جويلية 2025
العدد 19829

العدد 19829

الثلاثاء 22 جويلية 2025
العدد 19828

العدد 19828

الإثنين 21 جويلية 2025