من المشروبات الأكثر شعبية

الشــاي الورڤلـي الأصيل سيــد الجلسـات

ورڤلة: إيمان كافي

يعد إعداد الشاي من بين العادات اللصيقة بالتفاصيل اليومية للسكان المحليين بورقلة، لهذا يبدع فيه الكثير من أبناء المنطقة، الذين نشأوا وتربوا على مذاق الشاي الورقلي الأصيل، الذي لا يكاد يفارق طاولة الطعام، بل ويعتبره الكثيرون هنا سيد كل الجلسات.

تقول المهتمة بالتراث المحلي فايزة لعلام، لصينية الشاي بورقلة عموما وبالقصر العتيق على وجه الخصوص، قيمة كبيرة، تمثل رمزا للحكمة بالنسبة للمجتمعين عليها. وقد كان التجمع على صينية الشاي في السابق صباحا بعد الفطور مباشرة وبعد الغداء وبعد العشاء، لكن تغير النمط المعيشي للأسر والعائلات، التي كانت ترتبط أغلبها بتوقيت عمل رب العائلة، الذي كان ينشط أكثر في غابات النخيل، أحدث التغيير. وأصبح التوقيت الشائع في الوقت الحالي للاجتماع على صينية الشاي في البيوت الورقلية، هو في فترة ما بعد العصر وما قبل المغرب وهو وقت يجتمع فيه كل أفراد العائلة بعد الانتهاء من مشاغلهم اليومية. ومع ذلك، فإن آداب جلسة الشاي لازالت نظاما تحرص العائلات هنا على الحفاظ عليه والتمسك به.

- «صينية الشاي» رمز للحكمة في البيوت الورقلية
لمكونات صينية الشاي، كما تذكر محدثتنا، رمزية تعكس معانيَ كثيرة، كما تعطي قراءة خاصة للجلسة، حيث تضم الصينية إبريقين وكأسا كبيرة الحجم أو «الخلاط» كما يطلق عليه محليا وكؤوس الشاي والمناديل الخاصة بصينية الشاي.
ويعبر في صينية الشاي، الإبريقان عن الوالدين الأب والأم والكؤوس الصغيرة هي أفراد العائلة، أما «الخلاط» فهو بمثابة الحوار الذي يدور بينهم والصينية هي المساحة التي تجمع العائلة وتمثل أرضية الحوار بينهم، بالإضافة إلى المنديل الذي يغطي الصينية وهو بمثابة السقف الذي يحمي العائلة.
وبجانب صينية الشاي دائما، هناك علب لورق الشاي والنعناع والسكر التي تتبع الصينية وترمز لاحتمالية قدوم أي ضيف مرحب به دائما والغلاّية والموقد أو «الكانون» الصغير، الذي يكون بجانب من يترأس الصينية، تعبر عن كبار السن في البيوت الورقلية التي تعرف بالعائلات الممتدة، حيث لابد من وجود الجد أو الجدة أو العمة في البيت والذين لا يستغنى عنهم، حيث يمدون الجلسة بالطاقة والحكمة وحسن التدبير.
ويعد النعناع الأخضر نكهة الجلسة، أما المناديل الخاصة بصينية الشاي وهي 3 تخصص منها، واحدة لتغطي الصينية والثانية لحمل الإبريق من على النار وأخرى لتجفيف الصينية من أي رواسب للشاي والتي تعني أن أي كلام خاص دار في الجلسة سيحفظ بين الجلوس فقط ولا يخرج.
معان كثيرة تحملها تفاصيل جلسة الشاي، حيث يجتمع أفراد العائلة والأهل والأصدقاء على صينية الشاي وفق نظام معين، فمن يترأس صينية الشاي من المهم أن يحرص على غسل يديه قبل البدء وأن يكون صبورا وذا صدر رحب، لأنه سيكون في خدمة الجماعة ومكلفا بتلبية طلباتهم جميعا ومن واجبه أن يسأل بكل أدب كل شخص، خاصة إذا كان ضيفا كيف يحب أن يشرب الشاي.
ومن آداب جلسة الشاي، أن كأس الشاي يقدم إلى الجلوس دون أن يتقدموا بأنفسهم لصينية الشاي أو يطلبوا ذلك، حيث يتكفل شخص آخر بإعانة من يترأس الصينية لتوزيع كؤوس الشاي على الجميع والذي يجب يكون أيضا واسع الصدر لتقبل طلبات الجلوس.
ويعتمد هذا الأسلوب، لأن من يترأس صينية الشاي لا يمكنه أن يترك الصينية قبل الانتهاء من إعداد الشاي. إلا أنه وفي حال حدوث طارئ يتطلب منها التحرك إلى مكان آخر ولو لدقائق، لابد له أن يستأذن الجماعة وبعد أن يأذنوا له بذلك يجب أن يحرص على تغطية الصينية بالمنديل الخاص بها.
ولكن في حالة عدم الاستئذان يسمى هذا تجاوزا للجلسة ويتلقى مترئّس الصينية إنذارا من الجماعة بهذا التجاوز، حيث يتم إخفاء «الخلاط» أو شيء من صينية الشاي وإذا قال لهم عبارة «مودي»، يعني سأقبل بما تحكمون به عليّ فسيسامحه الجميع، أما إذا واجههم بأسلوب تبريري، فإن الجماعة تتفق بأن يسمح لمترئس الصينية بالعودة لخلط الشاي بمقابل يرضيهم وفي بعض الجلسات تأخذ طابعا حاسما في التمسك بما يسمى «الخطية» كنوع من الاعتذار وهو أسلوب تأديبي منهم في طابع فكاهي.
يخلط الشاي على 3 مراحل وللجالسين الحق في شرب كؤوس الشاي 3 مرات وأحيانا 4. ويطلق على كأس الشاي الذي يقدم من المرحلة الأولى «العزيز» يشربه كبار الدار والأحباب وفي الخلطة الثانية يسمى «الحنين» يكون أقل تركيزا من الأول وفي الخلطة الثالثة «المنعنع» والذي يكون للجميع بمن فيهم صغار العائلة، لأنه يكون بتركيز أخف ومن الهم أن يتميز الشاي بالرغوة التي تعطيه منظرا مميزا.
 وفي حال لم يطلب أي شخص كأسا للشاي، تختتم جلسة الشاي وتغسل صينية الشاي أمام الجماعة وتجفف الأواني والمقصد في ذلك حكمة خاصة، تعني اختتام الجلسة بدون حمل أي ضغينة وبقلوب صافية نظيفة أي تفرق الجلسة «بلا ذنوب» ويتم بعد ذلك إعادة صينية الشاي مغطاة إلى مكانها، كما تم وضعها أول الجلسة، وتوضع في مكان بعيد عن المطبخ لمنع اختلاطها بروائح الطهو والزيوت المختلفة، بالإضافة إلى ضرورة تنظيفها جيدا بالماء للتخلص من أي رواسب.
هذا النظام معتمد سواء في الجلسات الصغيرة أو الكبيرة في مختلف المناسبات ولدى الرجال أو النساء على حد سواء.
كما أن الكثير من المواضيع المهمة تطرح على مجلس الشاي هذا، حيث يكون بمثابة فضاء لتبادل الرأي والاستشارة. ولأن بعض القضايا قد تطرح وتتجاوز قدرة الصغار على الاستيعاب، تحضر المعاني التي يفضل استخدامها عوضا عن الطلب من الصغار القيام من الجلسة.

- عادة اجتماعية أخذت منحى اقتصاديا في شوارع المدينة
يعتمد إعداد الشاي الأخضر على ورق الشاي الأخضر والنعناع والسكر والماء المغلّى. إلا أن الاحترافية في تحضيره، تختلف من فرد لآخر وهي ترتبط أساسا بالمقادير المعدة وطريقة الطهو وكذا الخلط، الذي يُحرص فيه على تقديم الشاي بصورة أكثر جذبا للرائي.
ولأن الشاي مازال «سيد القعدة»، كما يفضل الكثير أن يطلق عليه هذا الوصف، فإن الطلب عليه يبقى قائما في كل الجلسات العائلية داخل البيوت وحتى التجمعات المختلفة خارجها.
وقد دفع هذا التمسك الكبير بالشاي الأخضر في الثقافة المحلية بالكثيرين إلى التفكير جديا في الاستثمار فيه، فالملاحظ مع مرور الوقت أن طهو الشاي اتخذ طابعا آخر محليا، إذ أضحى الشاي من بين أكثر المشروبات الساخنة المطلوبة هنا كما يلقى طلبا كبيرا من زوار المدينة أيضا.
نشاط باعة الشاي بورقلة، من بين المظاهر التي صارت مرتبطة ارتباطا وثيقا بخصوصية الشارع المحلي، إذ لا يكاد يخلو شارع من وجود طاولات الشاي التي يتخذ أصحابها من الأرصفة مساحة لممارسة نشاطهم.
وبالرغم من أن انتشار طاولات بيع الشاي كان في بداية الأمر يحمل معه العديد من التساؤلات حول هذا النوع من النشاط، الذي يختلف فيه الكثير من المواطنين، بين مؤيد ومتحفظ، إلا أنه يلقى تشجيعا كبيرا بالمقابل، باعتباره نوعا من التفكير الإيجابي لممارسيه، خاصة وأن بعض ممتهنيه، لجأ إليه سعيا لاستحداث فرصة من أجل توفير مداخيل إضافية لبعض الأسر هنا.
المتجول في الشوارع الرئيسية والأحياء الشعبية وبمحيط قصر ورقلة العتيق سيلاحظ الانتعاش الكبير الذي يسجله هذا النشاط في عدد من زوايا المدينة.
مهنة بدأ فيها السيد بوعلام محمد أو عمي الريش، كما يحب أن يطلق عليه الكثير من معارفه، منذ حوالي 8 سنوات عندما كان لا يزال يعمل موظفا، أسس لمشروع ما بعد التقاعد ليشغل نفسه واختار مشروع طاولة للشاي، باعتباره أحد المشروبات الساخنة التي تلقى رواجا كبيرا محليا ونظرا للعديد من الفوائد الصحية التي يعرف بها.
ففي الأعراس المحلية ومختلف المناسبات، لا يمكن التجمع دون شاي، كما أن شرب الشاي عادة لصيقة بيوميات سكان ورقلة، فبعض البيوت لازالت تحافظ على ضرورة إعداد الشاي بعد وجبة الغداء وبعد العصر بشكل متواصل، كما يعتمد الكثيرون عليه بدرجة أكثر من القهوة في المشروبات الساخنة بالمنطقة، وكما يقول عمي الريش «التاي يزهي القعدة».
ويرتكز هذا النشاط على توفير نوعية ورق شاي أخضر، من المهم أن تكون ذات جودة رفيعة، بالإضافة إلى نعناع من محاصيل الحقول المحلية التي تتميز بنوعية أوراقها الخضراء التي تساعد على تقديم مذاق مقبول.
وتختلف طلبات المارة بين من يطلب كأس شاي وآخر يطلب قارورة لنقله معه، خاصة بالنسبة للعمال في الورشات البعيدة، كما أن الكثير أصبح زبونا يوميا لهذه الطاولات وعدد المقبلين عليها في تزايد واضح.
وبالرغم من أن للشاي سمة مرتبطة بالصحراء الجزائرية، إلا أن التفنّـن في تحضير الشاي ودرجة تركيزه يختلف من منطقة لأخرى.
وإلى جانب الشاي، يلجأ البعض إلى تقديم بعض المكسرات، كالكاوكاو الذي يتماشى كثيرا مع هذا المشروب الساخن، بالإضافة إلى البيض المغلى الذي يلقى الطلب عليه كفطور صباحي للعمال والعديد من الإضافات الأخرى التي أضحت تزين هذه الطاولات كعنصر جذب ولتحصيل مداخيل إضافية.
يقول عمي «الريش»، إن كل ما يتطلبه هذا النوع من النشاط هو تحضير الصينية و2 «براد» شاي، كؤوس للشاي، قارورة غاز صغيرة خاضعة للرقابة القبلية أو الحطب في الشتاء، مشيرا إلى أن للشاي على الحطب مذاقا خاصا جدا يستهوي كل من سبق له تجربته.
وعن العائدات المادية لهذه المهنة، قال إن الكثير من المصاريف اليومية تغطيها هذه المهنة من مستلزمات البيت، كما تقدم مدخولا جيدا ومقبولا لممتهنها بشكل جدي.
ونفس الأجواء التي تصنعها المقاهي تحاط بطاولات الشاي، حيث يتجمع حولها الكثير من الأصدقاء لتبادل أطراف الحديث حول القضايا العامة التي تشغلهم كمواطنين محليا أو وطنيا.
ويأمل عمي «الريش» أن تأخذ الجهات المعنية زمام المبادرة، من أجل إنعاش هذا النوع من النشاط محليا الذي تجاوز مجرد تحصيل مداخيل إضافية من طرف الناشطين فيه، إلى الترويج السياحي للمنطقة، حيث أن الشاي أضحى رمزا من رموز الأصالة الذي اتخذ توجها اقتصاديا، يُنتظر العمل على تطويره من خلال إتاحة الفرصة للراغبين في الاستثمار فيه في إنشاء صالونات للشاي الورقلي الأصيل كالمقاهي، تجمع بين المتقاعدين وحتى المثقفين والشباب.

- 3 ملايين سنتيم لمشروع «طاولة شاي»
أما إبراهيم دغة، وهو شاب يمارس المهنة منذ 10 سنوات، متزوج ورب عائلة، يتخذها كمهنة إضافية يمارسها بعد ساعات العمل وهواية فضل تطويرها، يعتبر أن أهم ركائز هذه المهنة هو توفر شرط النظافة.
طريقة إعداد الشاي تكون بغسل ورق الشاي الأخضر جيدا بالماء الساخن حتى التأكد من نقاوتها وبإضافة ماء ساخن لها توضع على نار هادئة حتى يصل مذاق الشاي إلى درجة التركيز المطلوبة، كما يلعب لونه دورا كبيرا في الوصول إلى المذاق المثالي، حيث من المهم أن يكون اللون صافيا كالعسل وهو ما يتطلب عناية خاصة في اختيار نوعية ورق الشاي والنعناع الجيد.
التفنـن في تقديم الشاي الصحراوي تطبعه في الغالب سمة الرغوة -يقول محدثنا- والتي تكون من بين عناصر الجذب التي تشد الزبون. وتلعب طريقة خلط الشاي دورا بارزا في إضفاء هذه اللمسة، كما يشير البعض إلى أن أواني الشاي لابد أن تكون بعيدة عن الزيت أو الدهن ورائحة العطور التي لا تساعد على خلط الشاي وإعداد الرغوة بالشكل المراد.
توفير نحو 3 ملايين سنتيم كفيلة بتمكين الراغبين في التأسيس لهذا المشروع. الانطلاق، كما أكد لنا إبراهيم دغة، صاحب طاولة شاي، يكون بتوفير الوسائل المتمثلة في الغلايات، قارورة الغاز وطاولة حديد تصنع عند اللحام، بالإضافة إلى مستلزمات تحضير الشاي ولن تكلف مجتمعة مبلغا أكبر من هذا. خاصة أن هذه المهنة أضحت تجد إقبالا كبيرا من العمال في الورشات الذين يصحون باكرا خلال ساعات الصباح الأولى وقبل أفراد العائلة للتنقل للعمل أو الذين يتواجدون في المنطقة للعمل دون عائلاتهم، حيث يجدون في هذه الطاولات ملاذا للفطور الصباحي.
كما تجد هذه الطاولات إقبالا أكبر بعد العصر، حيث تسجل هذه الفترة توافدا كبيرا، سواء من قبل الرجال أو حتى النساء على طلب الشاي وذلك نظرا لتغير طبيعة المجتمعات التي لم تعد لمة أفراد العائلة والجيران والأقارب فيها أكثر حضورا كما كان في السابق، حيث كانت هذه الجلسات تحمل الكثير من الحكايات والعبر والحكم ومن خلال الأمثال الشعبية المتوارثة التي تحضر بقوة في قوالب قصصية والتي تكون خلال فترة ما بعد العصر وما بعد المغرب لدى البعض.
ويرى المتحدث، أن ما يرجوه الشباب من باعة طاولات الشاي، الالتفات لهذه المهنة وتطويرها، خاصة وأن مشروب الشاي يحظى بشعبية كبيرة، حيث لا يفارق البيوت الورقلية، كما تدعم حضوره طاولات الشاي التي أصبحت في تزايد ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، كما يعد فرصة للترويج للسياحة، إذ يجد السياح، سواء من داخل الوطن أو حتى الأجانب، متعة خاصة في تذوق الشاي الورقلي الذي يبلغ الطلب عليه معدلات متزايدة من زوار المدينة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024