قال الدكتور بوعموشة أن طرقاتنا تعرف كثافة ملموسة في حجم حركة السير عبر الطرق، صاحبها تزايد رهيب في عدد حوادث المرور، وما تخلفه من ضحايا بشرية وخسائر مادية جسيمة، لذا أصبح الاهتمام بخطورة ظاهرة حوادث المرور مطلبا غاية في الأهمية، كونها أضحت تشكل هاجسا خطيرا يهدد الأمن الاجتماعي، رغم الجهود المبذولة من طرف القطاعات المعنية بالتصدي للظاهرة.
شدد الأستاذ المحاضر بقسم علم الاجتماع - جامعة تامنغست، نعيم بوعموشة، على ضرورة فهم ظاهرة “حوادث المرور” بكل حيثياتها وعناصرها، وإيجاد الحلول الناجعة للحفاظ على الأرواح والممتلكات التي تهدرها هذه الحوادث، حيث تؤكد الإحصائيات أن العامل البشري هو السبب الأول والرئيسي فيها، إذ يتحمل السائقون المسؤولية كاملة بسلوكياتهم المتهورة والخطرة والمنافية لقواعد المرور أثناء القيادة، والتباهي بالمركبة القائم على الإحساس بقوة اجتماعية واعتبارها دليلا على النجاح والمكانة الاجتماعية، تجعل الشخص يتحرك بطريقة قوية ليبين أنه لا يخاف.
كما تتداخل عوامل أخرى في حوادث المرور التي تهدد الأمن المروري في الجزائر، أماط اللثام عنها الدكتور بوعموشة، وهو يؤكد أنها تتمثل في ثلاثة أسباب رئيسية متعلقة بالعامل البشري: حيث يؤثر سلوك الأفراد بشكل مباشر على تصرفاتهم في الطريق، سواء تعلق الأمر بالسائق أو بالراجل، فبالنسبة للسائق – يقول المتحدث - نجد عدم المعرفة بأصول القيادة، فقيادة المركبة فن له أصوله وعلم له قواعده، لهذا نجد أن كثيرا من الحوادث ترجع إلى عدم إتباع السائق لأصول القيادة الآمنة أو عدم إلمامه بقواعد وآداب المرور، كالسرعة المفرطة والتجاوزات الخطيرة دون مراعاة شروط التجاوز وعدم احترام الأسبقية في السير وعدم ترك الأولوية، عدم احترام المسافة القانونية الآمنة، عدم احترام إشارة قف، السير في الاتجاه الممنوع، ويرجع ذلك إلى عدم فعّالية منظومة التكوين والتدريب على السياقة، كما أن هناك العديد من السائقين لا يمتلكون حتى رخصة سياقة لبعض المركبات كالدراجات النارية.
السنّ والخبرة، يمثلان أيضا عاملين حاسمين، فكثيرا ما يجد السائق المسنّ صعوبة في ردّ الفعل السريع أثناء ظهور الخطر نتيجة لضعف التآزر الحسّي الذي يقلّ مع تقدّم الفرد في السنّ، الشيء نفسه بالنسبة لصغار السنّ من السائقين الذين يمتازون – غالبا - باللامبالاة والاندفاع وعدم احترام قوانين المرور والثقة الزائدة في المركبة وتجهيزاتها.
الانشغال الذهني، هو الآخر مؤثر مباشر، فالشرود أثناء السياقة، ولو للحظات قليلة، قد يترتّب عنه حادث؛ لأنّه يؤدّي إلى إضعاف اليقظة التي يجب أن يتصف بها السائق، ويتوقف عليها ردّ فعله أثناء القيادة، مع ما يحتمل أن يحدث من مفاجآت، خاصة أثناء السياقة ليلا، إضافة إلى الشعور بالإرهاق والتعب، وتناول المشروبات الكحولية وتعاطي المخدرات والعقاقير المهدّئة، فالسائق الذي يقع تحت تأثير الخمور، يكون ردّ فعله بطيئا، وتتضاءل قدرته على الرؤية الواضحة، وتقلّ قدرته على الانتباه أثناء السياقة، ناهيك عن استعمال الهواتف النقالة أثناء السياقة، فهي عادة تصرف انتباه السائق عن مراقبة حركة المرور وصعوبة المحافظة على السيارة في وضع السير السليم أو على السرعة المناسبة وعدم الانتباه إلى الحفر الموجودة في الطريق.
أما بالنسبة للراجل فتظهر في عدم استعمال ممرات الراجلين وعدم أخذ الحيطة من طرف المشاة عند عبور الطريق أو محاولة عبور الطرق السريعة، والمشي على حافة الطريق واللعب وسط الطريق.
أما الأسباب المتعلقة بالمركبة، فنجد أنّ الخلل الميكانيكي يعدّ من أهم المشاكل المتعلقة بالمركبة، بسبب عدم فاعلية الصيانة لها، نظرا لعدم صلاحية بعض الأجزاء منها، أو وقوع خلل في أجهزة الكبح وغيرها، ولعلّ ذلك راجع بالأساس لجهل السائق وقصور معرفته حول طبيعة المركبة وعناصرها، إذ أنّ معظم السائقين لا يراقبون سياراتهم إلا في حالة وجود عطب.
وأخيرا الأسباب المتعلقة بالطريق والمحيط، واعتبر بوعموشة المحيط عاملا مساهما في زيادة الحوادث، فزيادة الطلب على النقل والزيادة في عدد المركبات يتطلّب مواكبتها بشبكة طرق والتجهيزات المتصلة بها من إشارات عمودية وأفقية وضوئية وإنارة عمومية وأرصفة وغيرها، حيث أنّ عدم صلاحية أجزاء من الطريق أو انعدام الإشارات والإنارة، قد يؤدّي إلى وقوع الحوادث، خاصة وقت سوء الأحوال الجوية كتساقط الأمطار أو الضباب وهبوب الرياح والجليد والثلوج، دون أن ننسى عبور الحيوانات في الطريق.. كلّ ذلك من شأنه أن يفقد الطريق أمنها وسلامتها، ويفقد السائق قدراته على التحكّم الجيد بمركبته أو الرؤية الواضحة للطريق.
تداعيات وانعكاسات
وتحدّث الدكتور بوعموشة إلى “الشعب” عن وجود ثلاثة أوجه لتداعيات وانعكاسات ظاهرة حوادث المرور، أوّلها التداعيات النفسية، وتتمثل في المعاناة النفسية التي يمر بها الشخص الناجي من الحادث بسبب ما خلّفته الإصابة التي تعرّض لها من آثار في جسمه، إذ قد تنتج عنها بعض التشوّهات في الجسم أو حرمان المتضرّر، كليا أو جزئيا، من التمتع بأوجه الحياة العادية، والمعاناة ستكون أكبر بالنسبة لعائلة وأقارب الضحية في حال الوفاة.
في المقام الثاني – يواصل بوعموشة – تأتي التداعيات الاجتماعية، فبالنسبة للمتضرّر أو الضحية، تترك الإصابات أو العاهات المستديمة التي يتعرّض لها آثارا اجتماعية دون شكّ كحرمانه من ممارسة حياة طبيعية بكلّ صورها، كما أنّ نظرة بعض الأصدقاء والأقارب إليه قد تتغير بسبب إصابته بعاهة مستديمة، سواء كانت حركية أو عقلية أو سمعية أو بصرية.
أما بالنسبة للمتسبّب في الحادث، فهو لا يسلم من الأضرار الاجتماعية، كونه يفقد صفته كمواطن صالح، ويعيش في حالة من القلق والتوتر وعدم الاستقرار وتأنيب الضمير لتسبّبه في وفاة طفل أو شخص بالغ. كما قد يتعرّض الشخص المتسبّب في الحادث للسجن وهو ما يضع أسرته في ظروف صعبة، خاصة إذا كان هو المعيل الوحيد لها. كما قد يحرم من رخصة السياقة لفترة من الزمن، ما من شأنه حرمانه من وظيفته كسائق وتعطيل مصالحه.
هناك تداعيات اقتصادية أيضا – يقول بوعموشة - حيث تمثل حوادث المرور مصدر خسائر مادية تثقل كاهل مؤسّسات الدولة في تكاليف الخدمات العلاجية المقدّمة للمصابين ضحايا الحوادث المرورية، وكذا الخسائر والتكاليف المادية الناتجة عن الأضرار في الممتلكات العامة والخاصة، ضف إلى ذلك تكاليف تتحمّلها شركات التأمين، مثل مبالغ مالية تصرف على مركبة المؤمن وتكلفة إصلاح السيارات الأخرى المتضرّرة، ودفع مبالغ المتضرّرين من الحوادث، خاصة إذا كان مالك المركبة يملك تأمينا شاملا على مركبته وعلى غيره. ناهيك عن الوقت الضائع ربما لساعات بسبب الاختناق المروري الناتج عن حادث المرور.
مشكلة سلوك ووعي اجتماعي
وانطلاقا من النسب الكارثية لحوادث المرور، وهي تتزايد يوما بعد يوم بمثل ما يتزايد ما ينتج عنها من أضرار مادية وبشرية، أصبحت التوعية المرورية مسؤولية الجميع، فقيادة المركبة مسؤولية اجتماعية في المقام الأول، والمشكلة المرورية مشكلة سلوك ووعي اجتماعي، لذا وجب تنبيه وإرشاد السائقين للسلوك السليم أثناء السياقة، ومحاولة إقناع وتذكير مستعملي الطريق بالأخطار التي تشكّلها بعض السلوكيات المخالفة لقواعد السلام المرورية، والتي غالبا ما تؤدّي إلى وقوع حوادث مرورية مأساوية.
وأكّد محدّثنا على ضرورة مضاعفة الجهود الجادّة لمحاربة التهوّر والرعونة في استعمال الطريق، وذلك بالتطبيق الصارم للإجراءات الردعية المنصوص عليها في القانون لكلّ من يخالف قانون المرور، وتكثيف الدوريات المرورية والتشديد على استخدام معدّات السلامة في المركبات.
كما يجب العمل على تطوير وتحسين منظومة التكوين والتدريب على السياقة، وتحسين نوعية شبكة الطرق من خلال الصيانة الدائمة للطرق وتزويدها بمستلزمات السلامة المرورية ووضع الإشارات واللافتات لتنظيم حركة المرور، بالإضافة إلى التركيز على النقاط السوداء والمقاطع الخطيرة من الطريق والتحديد المكاني لمواقع الحوادث المرورية، والتي يمكن من خلالها التعرّف على نوع الحوادث التي تتكرّر فيها ونوع الإصابات وشدّتها.
ويجب أيضا – يقول بوعموشة - إعادة تهيئة الأرصفة ومنع أيّ نشاط تجاري عليها ضمانا لسلامة الراجلين. أما بالنسبة للمركبات، فإنّ المراقبة والصيانة الدائمة أمر ضروري للتأكّد من سلامتها وصلاحيتها للسير، مع تشديد الرقابة على وكالات الفحص التقني خاصة تلك التابعة للخواص.
في الأخير، قال بوعموشة إنّ السعي نحو تحقيق مستوى مقبول من السلامة المرورية، يمكن أن يؤدّي إلى تقليل عدد الحوادث المرورية وتخفيف حدّتها وخطورتها وتقليص عدد المصابين والضحايا، ويبقى تأصيل الحسّ الوقائي والسلامة المرورية ضرورة بغية الوصول إلى سياسة وطنية للوقاية والأمن عبر الطرق.
قال إن التوعية مسؤولية يتحملها الجميع.. الدكتور بوعموشة لـ ”الشعب”:
تأصيل الحس الوقائي للحد من حوادث المرور
فتيحة كلواز

شوهد:204 مرة