تحضيرات العائلات لليوم الأول في المدرسة، بمنطقة القبائل، تشبه مراسيم الأعراس التي لا تغيب عنها أجواء الفرح والبهجة، ويشهد المنزل العائلي حركية كبيرة تتبادل النسوة - في أثنائها - خبراتهنّ، وتروي كلّ واحدة منهنّ العادات والتقاليد المرافقة لهذا الموعد الهام الذي يعتبر أول خطوة على طريق المستقبل بالنسبة للطفل.
عادات وطقوس توارثتها الأمهات عن الجدّات باختلاف الأزمنة، تحضّر عائلات المنطقة، وفقها، لدخول الطفل المدرسة أول مرة، ولقد صرحت “النا سمينة” (عجوز في العقد الثامن من عمرها بقرية سيدي علي موسى بمعاتقة) لـ«الشعب”، أنّ كثيرا من العادات والتقاليد تغيّرت، غير أنّ مناسبة الدخول المدرسي تبقى موعدا لا يمكن للعائلة تفويته، لما له من أثر إيجابي في نفسية الطفل، وحدث يتذكّره مدى حياته بحكم أنّه بداية المشوار إلى مستقبل زاهر؛ لهذا يسعى كلّ أفراد العائلة إلى تحبيب الدراسة للطفل من خلال جعل أول يوم له بالمدرسة عرسا تطغى عليه مراسيم الاحتفال والبهجة، خاصة وأنّ العديد من الأطفال لا يتقبلون فكرة الانفصال عن أمهاتهم، والتوجّه إلى المدرسة في تجربة جديدة.. هو موعد يمثل حدثا حقيقيا يجب التحضير له جيدا كي يُقبل الطفل على الدراسة بحبّ وفرح.
«النا سمينة”، أكّدت أنّ أول يوم للدخول المدرسي بالنسبة للطفل، لا يخلو من التعطّر برائحة الأطباق التقليدية التي تبدع في تحضيرها الأم، من خلال لمستها وشطارتها في إعداد ألذّ الأطباق التقليدية، ومختلف العجائن التي تزيّن مائدة يجتمع حولها أفراد الأسرة، يتوسّطهم “العريس” (آو “العروس”)، في ثياب جديدة يختارها المتمدرس الجديد قبل أيام من الموعد المنتظر، إلى جانب محفظة مليئة بمختلف اللوازم المدرسية، وبعض الحلويات.. هذه غالبا ما توضع بجانب سريره كي ينام على عطورها، فهي ملكية خاصة ينبغي له المحافظة عليها..
هي أجواء الليلة الأخيرة قبل إشراقة صباح يوم الدخول المدرسي، حسب ما وصفته محدّثتنا التي تعايش الأحداث مجدّدا مع حفيدتها “شعبان شاهيناز” التي تنتظر يومها الموعود بشغف وفرحة كبيرة.
وعادت “النا سمينة” بذاكرتها إلى الزمن الجميل، وهي تحضّر لدخول أبنائها المدرسة أول مرة، وقالت إنّها كانت تضطر إلى حمل ابنها على ظهرها إلى غاية المدرسة؛ لأنّه كان يرفض الابتعاد عنها، ولم يكن يتقبّل الدراسة في الأيام الأولى، غير أنّ حفيدتها “شاهيناز” عكس أعمامها وعماتها، فهي تنتظر يوم الدخول المدرسي بشغف، وتعدّ الأيام على أصابعها في انتظار للتعرّف على مدرستها ومعلّمتها وزملائها في القسم.
الخفاف والبغرير.. فأل المراتب الأولى
يعدّ تحضير البغرير والخفاف، أو ما يسمى “السفنج”، من بين العادات التي تتصدّر قائمة ما يميّز الموعد الدراسي الهام بمنطقة القبائل، حيث تحرص الأم على تحضير العجينة التي تتكوّن من “سميد، خميرة وماء” خلال الليل، على أن تستيقظ في الساعات الأولى من صبيحة اليوم الموالي من أجل طهيه، وتسمى أول (بغريرة) أو (خفافة) باسم المتمدرس الجديد، وتقوم الجدّة أو الأم بقطعها إلى نصفين على رأس الطفل وهو عند عتبة باب المنزل في طريقه إلى المدرسة، على أن يأكل هو النصف، بينما يقدّم النصف الآخر لتلميذ أو تلميذة نجيبة ومجتهدة في المدرسة، كي يحذو حذوها، ويكون من الأوائل.
هناك أيضا عادة رشّ الماء وراء الطفل عند خروجه من المنزل باتجاه المدرسة لأول مرة في حياته، وهذه من الصور التي تتكرّر على عتبات المنازل، حيث تحمل الأم أو الجدّة إناء ماء، وترافق طفلها إلى غاية باب المنزل من أجل أن ترافقه بعينيها وهو يخطو خطواته الأولى نحو مستقبله المنشود، فتقوم الأم برشّ الماء وراءه من أجل أن تسهل خطواته، ويسير بسهولة كما تسير المياه في الأودية، على حسب تعبير والدة “شاهيناز” التي تطمح أن تكون ابنتها من الأوائل في قسمها، وتخطو خطوات كبيرة في دراستها لتكون في أعلي المراتب والمناصب.
«البركوكس”.. طبق العودة من المدرسة..
بعد توجّه الطفل إلى المدرسة لأول مرة في حياته، تعود الأم أدراجها إلى المنزل، وتدخل المطبخ مباشرة من أجل تحضير طبق “البركوكس” بالمرق والدجاج ومختلف الخضر، ليكون هذا الطبق سيد الأطباق على مائدة الغداء الذي يقام على شرف الطفل العائد إلى المنزل بعد الفترة الصباحية، ليتفاجأ بأفراد العائلة ينتظرونه، فيترأس المائدة، ويوضع “البركوكس” في قصعة من الفخار يجتمع حولها أفراد العائلة الذين يتقاسمون الوجبة وهم يستفسرون الطفل عمّا عاش داخل القسم من أحداث، وعن انطباعه الأول حول المدرسة، في أجواء ملؤها الفرحة والبهجة والدعوات بالتوفيق والمضيّ قدما في المشوار الدراسي.
دخول الطفل أول مرة إلى المدرسة بمنطقة القبائل، حدث يتعطّر بمختلف العادات والتقاليد، ولمسات الأمهات التي تظهر جليا على الموائد المزيّنة بألذّ الأطباق والأكلات الشعبية والحلويات التقليدية.. “الخفاف، البغرير، البركوكس”، إلى جانب ممارسة بعض الطقوس، التي تجعل من هذا الموعد حدثا راسخا في ذاكرة الطفل وهو يدرج بأول الخطوات إلى بناء مستقبله.. هذه العادات والتقاليد تعزّز رغبة الطفل في التوجّه إلى المدرسة وحب الدراسة، وهو قصد الأمهات والجدّات من إلقاء بسمات فرح وبهجة يتشارك فيها جميع أفراد العائلة..