في موسم الربيع، حين تتفتّح أزهار النارنج وتملأ الأزقة بعطرها الأخّاذ، تفتح قسنطينة أبوابها من جديد على طقوس تقطير الزهر والورد، مستعيدةً تقاليد الأمهات والجدّات ضمن فعاليات مهرجان تقطير الزهر والورد، الذي تحوّل من حرفة منزلية إلى مناسبة ثقافية واقتصادية تُجسد ذاكرة المدينة وتُنعش روحها.
التظاهرة التي نظمت تحت شعار “قسنطينة التراث.. تتعبّق وردًا وتتوشّح زهرًا”، تحتضنها عدّة منشآت ثقافية، أبرزها قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة، حيث تتناغم ألوان المعروضات التقليدية مع أصوات المالوف وروائح البخور. ويُشارك في الفعالية عدد كبير من الحرفيات، خاصة من منطقة حامة بوزيان، المعروفة ببساتينها الغنّاء وتقاليدها العريقة في تقطير الزهر.
طقـــوس فـــــي الذاكــــرة
يُعيد المهرجان إحياء عادات قديمة كانت النساء القسنطينيات يُمارسنها بحب واهتمام، فعملية التقطير لم تكن مجرد نشاط موسمي، بل كانت طقسًا جماعيًا تُغلفه الروحانية. تقول مفيدة لوصيف، إحدى الحرفيات المشاركات، “لا تبدأ عملية التقطير إلا بعد صلاة الفجر، بعد أن نرش ماء الزهر في أركان البيت الأربعة طلبًا للبركة. أوّل قطرة تُقطر نضعها في طمينة بيضاء ونوزعها على الأطفال.”
وارتبط ماء الزهر في قسنطينة بمختلف مراحل الحياة، من الفرح إلى الحزن. فهو يُقدَّم في الأعراس ضمن “الشراب القسنطيني”، ويُرش على ثياب العروس، ويُستعمل في مجالس العزاء تعبيرًا عن الصفاء. كما يدخل في تحضير منتجات تقليدية مثل “الصابون البلدي” و«الخُمرة القسنطينية”، التي تُصنَع من مزيج الزهر والمسك وتُقدَّم ضمن جهاز العروس.
دعــم الاقتصـــاد المحلـــي
مع تصاعد الإقبال على المنتجات الطبيعية، تحوّل تقطير الزهر إلى نشاط اقتصادي ساعد الكثير من النساء على إطلاق مشاريع منزلية ناجحة. تقول مفيدة، “بدأنا من بيوتنا واليوم نبيع في المعارض والأسواق، وحتى على الإنترنت. الناس يثقون في المنتجات الطبيعية.”
ورغم ارتفاع أسعار المواد الأولية هذا الموسم (وصل سعر كيلو الزهر إلى 2000 دج وكيلو الورد إلى أكثر من 3000 دج)، إلا أن الزبائن لا يزالون يقبلون على شراء الزيوت والمياه المقطرة لما لها من فوائد صحية وجمالية وروحية.
مدينـــة تتنفّـــس تراثًــــــا
لا يكتمل التقطير دون الطقوس المصاحبة: الخرزة الزرقاء على القطار النحاسي لطرد العين، تغطية القوارير بالقطن الأبيض، والبخور المشتعل في الزوايا، تقول زهرة بن طيب، حرفية من المدينة: “نبدأ بآيات من القرآن، ونختم بالدعاء... التقطير بالنسبة لنا تطهير للنفس والمكان.”
بفضل هذا المهرجان، تُعيد مدينة الجسور المعلقة تأكيد هويتها الثقافية، وتُبرز موروثها اللامادي كجزء حي من يومياتها. فالزهر ليس مجرد نبات عطري، بل ذاكرة، وهوّية، وتاريخ حي تحمله النساء في تفاصيلهن اليومية، ويُبعث من جديد كل ربيع في أزقة المدينة العتيقة.