البـوح مشكلة كـبرى

حينما يصبـح كبــت المشاعــر وسيلـة لبقــاء “الــود”

«حتى لا أخسره، لا أريد التكلم”؛ عبارة يردّدها كثيرون، يكبتون بها مشاعر الغضب أو الحزن أو حتى العتب على المقربين، خوفا من أن يتحول البوح إلى مشكلة أكبر، قد تصل حد “القطيعة”؛ فيختار الشخص أن “يكبت ولا يفصح”.
هذه المشاعر التي ترافق مختلف أنواع العلاقات؛ الأسرية، الزوجية، علاقات العمل، أو ضمن مجتمع الأقارب، هي ذاتها التي يحاول البعض كبحها خوفا من أن يتحول التعبير عنها أو كثرة مراجعتها، إلى مواجهات تمتد وتتوسع، فتتحول من خصام عابر إلى “جحيم المقاطعة”؛ كما يسميها البعض.
في هذا السياق، يعبّر خالد عن رأيه في مسألة “كبت المشاعر الأسرية”؛ قائلا: “لا تخلو حياة أحد من العلاقات الاجتماعية، مهما ضاقت دائرة التواصل، والعلاقات لا تخلو بطبيعتها من الجدال والخصام والعتاب”.
لكنه يرى أن كثيرين يجدون صعوبة في المواجهة خاصة وقت الغضب، وخصوصا إن كان الطرف الآخر سريع الانفعال أو إطلاق الأحكام، ما قد ينتهي احيانا بجفاء وبعد طويل.
خالد لا يعتقد أن كبت المشاعر أو كتمان كلمات العتب واللوم هو أمر صحي، فبرأيه “تؤذي النفس وتبقى في القلب لسنوات”؛ لكنه في المقابل يصف نفسه بـ “الشخص الكتوم”؛ الذي لا يفضّل العتاب، خصوصا حين يتعلق الأمر بالأهل والأقارب من الدرجة الأولى، الذين كما يقول “لا يمكن الاستغناء عنهم مهما كانت الظروف”.
هي علاقات إنسانية وأسرية ومجتمعية في آن واحد، تتطلب وعيا وسعة صدر وحرصا على استمراريتها، مدفوعة بوازع ديني وأخلاقي وتربوي، فإخفاء المشاعر السلبية تجاه المقربين من العائلة أو الأصدقاء، قد يسهم أحيانا في الحفاظ على متانة العلاقات الاجتماعية، وعلى الروابط التي ينشأ الإنسان فيها منذ ولادته.
لكن في المقابل، يعيش الفرد تحت ضغط هذه المشاعر المكبوتة، ويشعر بالإحباط المستمر، والحاجة لمن يصغي إليه ويخفف عنه وقع الإساءة أو القسوة أو عدم الفهم.
ولهذا، يلجأ كثيرون إلى حسابات شخصية أو حتى أشخاص غرباء للتفريغ والبوح، رغم أن هذا النوع من الفضفضة قد يطغى فيه الجانب السلبي على الإيجابي.
في مثل هذه الحالات، لا يفضّل كثيرون الإفصاح عن أسمائهم، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يكتب البعض عن تجارب ومواقف مروا بها مع أهلهم أو أقاربهم، أو حتى أصدقائهم.
وقد تكون أكثر الحكايات غرابة وإيلاما، تلك التي تتعلق بمشاعر مكبوتة بين “الابنة وأمها، أو الأخت ووالدها، أو الزوجين”، وغالبا ما تروى من خلال أسماء وهمية هربا من المواجهة أو الخوف من العتاب.
مواقع التّواصل..للبوح
 إحدى هذه الحالات، ظهرت من خلال منشور على “فيسبوك”، لفتاة لم تذكر اسمها، تصف نفسها بأنها عشرينية، في مرحلة الدراسة الجامعية. عبّرت عن معاناتها مع والدتها، ووصفت علاقتها بها بأنها “سلبية ومؤذية جدا” بسبب الانتقادات المستمرة، والانتقاص من قدرها أمام الآخرين، والتمييز الواضح في التعامل معها مقارنة بأفراد آخرين في العائلة.
الفتاة، كما تقول، لجأت لمواقع التواصل للبوح، لأنها لا تستطيع مصارحة والدتها بما تشعر به، خوفا من أن يعتبر ذلك نوعا من العقوق أو قلة الاحترام، لكنها في المقابل تعاني بشدة من هذا الكبت، وتحاول التنفيس عنه من خلال الحديث إلى غرباء بأسماء وهمية.
وتختلف الآراء حول هذا النوع من الفضفضة الإلكترونية؛ فهناك من يؤيّدها كمتنفس ومن يراها خطوة خطرة على الشخص نفسه، إذ إنها قد تحوله إلى سجين لحزنه وغضبه، ويثقل نفسه باللوم، ويصف ذاته بأنه “شخص سلبي لا يعبر”.
في المقابل، يرى آخرون أن كتمان المشاعر قد يكون سلوكا ينبع من شخص مسالم ومتصالح مع نفسه، يسعى إلى “دوام حبل الود” مع الآخرين، ويحرص على صلة الرحم، ولا يتوقف عند المشاعر السلبية التي تحيط به. شخص قادر على تجاوز المواقف الصعبة، ولديه روح متسامحة تتقبل أخطاء الآخرين وتعفو عنها، دون أن تؤثر على مسار حياته.
لكن، وبين هذا وذاك، تبقى لكل حالة خصوصيتها. فالتعبير أو الكبت يختلف بحسب طبيعة العلاقة؛ فمشاعر موجهة إلى “أب، أم، أخ، أخت، زوج، صديق مقرّب، أو حتى أبناء” لا تحمل ذات الوقع النفسي مقارنة بمشاعر تجاه زملاء عمل أو دراسة. وهنا يكمن الفارق بين القدرة على التجاوز، أو الكبت الذي قد يخرج في وقت لاحق بطريقة مؤلمة وسلبية وبأشكال متعددة.
أضرار صحية على المدى الطّويل
 وتشير العديد من الدراسات الطبية المنشورة في مواقع عالمية متخصصة، إلى أن كبت المشاعر السلبية، مثل الغضب أو الشعور بعدم التقدير، قد يسبب أضرارا صحية جسدية على المدى البعيد.
ومن بين هذه الأعراض؛ أمراض القلب بأنواعها، صداع متكرر، آلام في المفاصل، شعور عام بالإجهاد، إضافة إلى اضطرابات في الجهاز الهضمي، كفقدان الشهية أو الإفراط في الأكل كنوع من التعويض النفسي، والتفريغ العاطفي الناتج عن فقدان الثقة بالآخرين.
ويوضح النفسانيون أن كل شعور يعيشه الإنسان، تجاه أي شخص، يترك أثرا مباشرا على حياته، بدءا من سنواته الأولى، وقد تظهر هذه المشاعر بصور مختلفة؛ كفرح واطمئنان وثقة بالنفس وشعور بالاحتواء أو تكون مشاعر سلبية تتجلى عبر اضطرابات جسدية ونفسية وسلوكية تظهر في مختلف المواقف اليومية.
كما أن الأثر النفسي هو الأكثر عمقا لدى الأشخاص الذين يحاولون الحفاظ على العلاقات بالصمت، ويكبتون مشاعرهم حفاظا على “حبل الوصل”. ومن أبرز هذه الآثار؛ الحزن الشديد الذي قد يصل إلى الاكتئاب، نتيجة تراكم المشاعر غير المعلنة، إلى جانب توتر العلاقات الأسرية أو الاجتماعية التي قد تفتقر إلى الثقة والأمان.
وينصح المختصّون بضرورة خلق مساحة للحوار وإبداء الرأي والاستماع داخل البيت، خصوصا بين أفراد الأسرة، لأن منها يبدأ الإنسان في بناء ذاته ومجتمعه، بروح إيجابية وقدرة على التعبير، بعيدا عن الكتمان المؤذي للنفس.
ووفقا لهم، فإنّ الشخصية القوية لا تعني الكتمان، بل التوازن والقدرة على حماية الذات من الصدمات والانهيارات الناتجة عن ضغوط مجتمعية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19822

العدد 19822

الإثنين 14 جويلية 2025
العدد 19821

العدد 19821

الأحد 13 جويلية 2025
العدد 19820

العدد 19820

السبت 12 جويلية 2025
العدد 19819

العدد 19819

الخميس 10 جويلية 2025