خالتي أنيسة...إمرأة من حكايات ألف ليلة وليلة

سيدة من حديد قهرت الزمن واعتمدت على بيع البيض لتعيش

البليدة: لينة ياسمين

حينما يرزق المرء بزوج لا يقدر العشرة الزوجية ولا يحسن لشريكة الحياة، ويكذب ويدعي انه البطل الذي لا يُرد ولا يُصد، ثم تدور عجلة الزمن وتفضحه الأيام،  فينسحب ويختفي ويترك شريكته تصارع الدهر بيدين عاريتين، لا عدة ولا مال ولا ظهر محمي، زمن يُحملها مسؤولية تربية طفل معاق، تكسيه وتغطيه وتداويه و تضمن له الطعام وهي المعدمة والمعدومة.... ولا تتوقف وتأبى أن تمد يدها  أو تسأل الناس حاجتها، فتلكم هي الصورة المثالية للمرأة والحقيقة الكامنة، لإنسان خُلق من ضلع أعوج ومعدن العفة والشرف والأنفة، ولعلّ الخالة “أنيسة” وهي تقترب من عقدها السابع، الأنموذج الحي في هذا النوع من الناس والنساء المكافحات، “الشعب” اقتربت منها ولامست حياتها البسيطة في كوخها مع وليدها المتخلف ذهنيا.

شتاء الربيع وخريف الصيف...

صاح ديك شهم لم يغط ريشه كامل عنقه، ولطف فضاء فسيحا هادئا ومعزولا عن المساكن والناس، وخرجت تجري دجاجات تلونت بيضاء وحمراء مزركشة وسوداء الريش، وكأنها مرعوبة من ثعلب تسلل إليها أو وحش أراد أن يطعمها ويطعم صيصانها وبيضاتها، والمشهد يجري أطلت سيدة تقوس ظهرها وقلّ بصرها وتحركت نحونا وهي العاجزة، وسألت “وشكون مرحبا مرحبا”، سؤال رافقه ترحيب وهي الجاهلة للضيف والزائر من غير موعد ولا ميعاد، ثم تبسمت وقالت “هذه أنت” تفضلي من غير عزومة الدار دارك - وتقصد
الكوخ المتواضع -، سقفه مصنوع من مادة الامويونت السامة، إذا هبت ريح الشتاء ارتفع في الفضاء وتسرب الهواء البارد إلى الداخل، أرعبها وصغيرها الكبير “فتحي”، وإن حل الصيف تحول إلى فرن ساخن لا يحتمل، فتهجره وتقصد شجرة البرتقال بالجوار لتستظل تحته و دجاجتها الأربعة.
جلست وأنا لا أدري أين أجلس، كانت فرشة على الأرض ممدودة، هي لابنها تموضع واختار زاوية من كوخها الغرفة، وقابل جهاز التلفاز القديم، إن تردد الصوت انقطعت الصورة، وإن ظهرت الصورة ذهب الصوت، لكنه و رغم كل ذلك هو راض وهي لا تدري، ودارت بيننا دردشة تسأل و الابتسامة لا تفارقها، وقالت هذا هو منزلي هو جنتي وملجأي، رغم انه لا يليق بمقام الضيوف إلا أنه لا حيلة لي، وبدأت تسرد أيام شبابها لما كانت بين أهلها
تعيش وتسعد بالمكان الفسيح والأغنام والدجاج وبطات وإوزات بيضاء وبقرات ربوهم،  ليحيوا من حليبها وبيضها ولحمها، ولم تكن تحسب للقدر وللأيام، حتى جاءها شقيقها واخبرها بأن خطيبا وفد إليهم و يريدها زوجة، “و هنا توقف الزمن ولم ادر ما اقول وما افعل” قالت و هي تدرك وتعي كلامها جيدا، ثم توقفت عن الحديث ومدت يدها إلى إبريق طاعن في القدم، وصبت قطرات من قهوة في فنجان التقطته يدها وهي ترتجف، وتنفست لتواصل الكلام.

بداية الرحلة...

لم أتردد ولم أسأل وأنا الخجولة “الحشمانة”، واختبأت بين وسادتي وشرشفي وحرارة جسمي أحرقت الشرشف وألهبته، وفهم شقيقي الأكبر أن الخجل والحياء علامة الرضا، وقبل نيابة عني، وما هي إلا أيام و كنت في مسكن لا هو بالقديم ولا بالجديد، ومرت الأيام وأنا في شبه غيبوبة، عالم جديد وحياة غير التي كنت أحياها، وإنسان أنا معه وله ولا اعرف عنه شيئا، ولم تمض سنتان ورزقت مولود، عوض ان يبقى معي هجرني وانا النفساء، ولم اسمع عنه شيئا الابعد سنين قليلة انه رحل من عالمناو غادر من غير عودة.
 هنا دارت الدنيا وفكرت ثم دبرت أمري، وعدت الى اهلي واجتهدت في المصروف واقتصدت، وبنيت كوخا من غرفة واحدة، وبدأت حياتي تأخذ اتجاها جديدا وظروفا أجبرت عليها وأنا الكارهة لها، واعتمدت خطة ونفذتها، أربي الدجاج و ابيع بيضه وصيصانه حينما يكبرون، وكانت حيلتي رغم بساطتها نافعة، وظللت زمنا وأنا على تلك الحال، اصوم من غير وقت، واحتفل بالعيد من غير فرح ولا حزن، ورفضت صدقة الأهل وشفقتهم وأبت نفسي السؤال والتسول، ورغم نجاحي في تدبر حالي وأحوالي، كانت مصيبتي في سرقة دجاجاتي وديكي الشهم، كنت كمن يتصارع مع عفريت من وهم، اتعب واكابد واكابر وأجهد واجتهد، وأعود لأقف على قدماي المتورمتين، وهكذا كان وما يزال حالي واحوالي، وهنا حمدت الله والابتسامة لا تفارق وجهها.

الحلم والألم والأمل...

وهي على تلك الحال اقتربت من باطنها وتسللت الى عمق حزنها، وحاولت ان اجعلها تستفرغ ما يؤلمها، وكان الجواب صادما وغير متوقع، تكلمت الخالة “انيسة” وهي تضحك وقالت أملي وحلمي أن تكون لي دورة مياه مثل البشر، وأن يدعني صاحب البستان بالجوار ولا يضايقني، وأن اغمض جفني وأنا مطمئنة على ابني “فتحي” ، وأضافت بأنها اجتهدت واتصلت ببعض من لديهم علم وخبرة ودراية في ترميم السكن، لأجل ترميم بيتها ما استطاعوا، لكن جهدها خاب واملها لم ينقطع، فرغم ضنك العيش وصعوبة الظروف، هي الراضية بقدرها غير الشاكية ولا الباكية، تحلم فقط ببيت بسيط مرتب، بارد فيالصيف و دافئ في عز البرد والشتاء، وجزء منه تضع فيه دجاجاتها وتحميها من ثعالب البشر، ولم تزد وقالت دعائي أن ينعم صغيرها بكل تلك الأحلام وتهنأ ولن تزيد ولن تسأل، وعادت إلى إبريقها الطاعن في القدم تعبث به تريد فنجان قهوة لتواسيني.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024