فشلت القيادة الفرنسية في إنهاء الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ قيام الرئيس الفرنسي بحل البرلمان، وتنظيم انتخابات تشريعية مسبقة، على أمل أن يحصل اليمين على أغلبية ليتناغم مع صعود اليمين في البرلمان الأوروبي، غير أن النتائج أسفرت عن برلمان هجين لم تستقر فيه الأغلبية لكتلة بعينها، بل ازداد الوضع سوءا بسبب تشكل ثلاثة أقطاب سياسية تقاسم كل منها العداء للأخرى، الجبهة الشعبية وهي يسارية، واليمين المتطرف، والموالون لماكرون.
في هذه الظروف والأزمة غير المسبوقة أثارت عديد الأوساط الفرنسية مسألة استمرار “الجمهورية الخامسة”، واعتبرت أنها مهدّدة بالزوال، نتج عن التشريعات المسبقة في فرنسا برلمان هشّ للدرجة التي لا يمكنه اعتماد قرارات تخدم الشعب الفرنسي الذي يعاني من وضع اقتصادي صعب، بفعل تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا، وكذا القرارات الأمريكية الحمائية ضد السلع الأوروبية ما يؤثّر حتما على الإقتصاد الفرنسي.
وأسفرت الإنتخابات التشريعية الفرنسية عن برلمان غير مستقر، تتضارب فيه المواقف بشأن القضايا الداخلية والخارجية، ما أدخل البلاد في أزمة سياسية غير مسبوقة، وتزامن ذلك مع سقوط أربع حكومات خلال عام واحد، وأبعد من ذلك تطالب الطبقة السياسية الفرنسية من يمين ويسار باستقالة الرئيس الحالي الذي فشل في إخراج البلاد من أزمتها.
سياسيا، فشل رئيس الوزراء الجديد فرانسوا بايرو في مشاوراته مع المعارضة، خاصة جهة اليسار، لتوسيع القاعدة السياسية التي يستطيع الإرتكاز عليها لدعم أداء حكومته، هذا الفشل دفع به إلى تشكيل حكومة يمينية، احتفظ فيها بنصف وزراء الحكومة السابقة التي حجب عنها البرلمان ثقته، في محاولة لاسترضاء اليمين المتطرف لحمايتها من السقوط كسابقاتها.
صــدام مــع اليسـار
وتواجه الحكومة الجديدة هي الأخرى شبح حجب البرلمان ثقته عنها، حيث يهدّد اليسار بتفعيل هذا الخيار، بسبب رفض الحكومة التي وصفها بـ “اليمينية المتطرفة” الملفات الاجتماعية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جبهة جديدة تشكلت داخل البرلمان سميت “ الجبهة الشعبية الجديدة” و هي تحالف من قوى “اليسار” الفرنسية، مكون من “الديمقراطيين” و«الاشتراكيين” و«الخضر” و«الشيوعيين” و«اليسار الراديكالي” و«فرنسا الأبية”.
وتعارض الجبهة الشعبية الجديدة معظم سياسات الرئيس الفرنسي الحالي، على رأسها صمته إزاء القضية الفلسطينية، وموقفه من الصحراء الغربية، المتعارضة مع الشرعية الدولية، والمطالبة بإلغاء الهجرة الذي أقرّه ماكرون، وقضايا داخلية تتعلق برفع الأجور، ومراجعة سن التقاعد إلى 60 سنة، وتعزيز القدرة الشرائية عبر “تحديد سقف لأسعار السلع الأساسية من الغذاء اليومي والطاقة والوقود”، وإصلاح قانون الضرائب، وهي مطالب تعكس الوضع الاقتصادي الفرنسي المتردي.
وتشير أصداء فرنسية محلية أن حجب الثقة عن الحكومة الجديدة هو مسألة وقت فقط، بعد أن صرحت زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، نهاية ديسمبر 2024، أن الشعب الفرنسي سيختار “في غضون أشهر قليلة طريقاً جديداً هو طريق الطفرة والانتعاش”، وهو ما فسّرته أوساط فرنسية على أنه تلويح بالمشاركة في حجب الثقة عن حكومة بايرو كما فعلت ضد سابقه “بارنييه”. خاصة وأن الحكومة الحالية فشلت في تمرير ميزانية 2015، وهو السّبب المباشر في حجب الثقة عن الحكومة السابقة.
أزمة اقتصاديـة
بلغ الدّين العام الفرنسي أكثر من مائة بالمائة من الناتج المحلي الخام، أو ما يعادل 3303 مليار يورو، وهي مستويات تفوق معيار الدين لدول الاتحاد الأوروبي، المعروف بمعيار أوتريخت، والذي لا يجب أن يتجاوز 60 في المئة، غير أن فرنسا تجاوزته منذ 2002، بحسب إحصاءات المعهد القومي للإحصاء والدراسات الاقتصادية. كما تشهد المنتجات الفرنسية ارتفاعا في تكلفتها وهو ما يحول دون تنافسيتها وبالتالي عدم القدرة على التصدير.
إلى ذلك، فشلت الحكومة في إقناع الجمعية الوطنية الفرنسية “البرلمان” في تمرير ميزانية العام الجديد وقد شارف شهر جانفي على الإنتهاء، ما دفع مسؤولين إلى التصريح بإمكانية اعتماد ميزانية السنة الماضية لتفادي التعطيل.
ولا يمكن فصل الأزمة الاقتصادية الداخلية، عن وضع فرنسا الدولي، وهي التي بدأت تفقد نفوذها في مستعمراتها الإفريقية ما وراء الصّحراء، هذه الأخيرة التي فكّت اتفاقيات الإرتباط معها، وما يزيد الأمور تعقيدا هو كما أسلفنا التكلفة المرتفعة للإنتاج في فرنسا التي تحد من تنافسية صادراتها، إلى جانب القيود الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على السلع الأوروبية قبل أيام.
مطالــب باستقالــة ماكـرون
ووسط هذا التجاذب والفشل الذي ولّد أزمة سياسية غير مسبوقة، أظهر استطلاع رأي أعدّه مركز “إيلاب”، أن 63% من الفرنسيّين يؤيّدون استقالة الرّئيس إيمانويل ماكرون في حال إسقاط حكومة بارنييه بسبب حجب الثقة، وقد تمّ إسقاطها فعليا، وفي الأثناء وبعد أيام فقط من تسمية الرئيس الفرنسي حكومة جديدة، برئاسة فرانسوا بايرو، الذي لا يتمتّع بأية شعبية، أو تمثيل في البرلمان، وقيامها الأخير بتعيين حكومته، دعا حزب الوطنيين الفرنسي فلوريان فيليبو إلى استقالة حكومة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو والرئيس إيمانويل ماكرون معا، ويتّفق اليسار واليمين على مطلب استقالة ماكرون، لتفادي إدخال البلاد في أزمة، وسط دعوات لتفعيل المادة 16 وسلطات الطوارئ.
وقد أشار استطلاع نشره مركز “ايلاب” قبل يومين أن شعبية الرئيس الفرنسي ماكرون بلغت مستويات دنيا غير مسبوقة منذ ولايته الأولى في الرئاسة العام 2017، وعبّر 79 بالمائة من المستطلعين عن عدم رضاهم عن أدائه، وأنهم غير سعداء فيما عبّر 44 بالمائة منهم أنهم غير راضين تماما عن أدائه، وقد تدنّت شعبيتيه بنسبة أكبر بكثير عنها في فترة احتجاجات السترات الصّفراء، بحسب الأرقام المقدمة.
ولعلّ هذه الأزمة متعدّدة الأبعاد دفعت بالقيادة، التي فشلت في استتباب وضعها الداخلي، إلى محاولة صرف الأنظار باختلاق توتّر غير مبرّر مع الجزائر التي قطعت أشواطا كبيرة في الرّقي بمكانتها الدولية إلى المصاف التي تستحقها.