اقتصــاد سيّد متـين.. دبلوماسيـة ثوابت واحترافية عسكريـة حصن للوطــن
“لمّا قلت إنّ الجزائر قوة ضاربة، فهي اليوم بالفعل قوّة ضاربة”. بهذه الكلمات التي جاءت خلال تدشين محطة تحلية مياه البحر للرّأس الأبيض بوهران، لم يكن رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، يطلق شعارًا سياسيًا بقدر ما كان يؤكّد واقعًا قائمًا تدعمه معطيات حقيقية تعكس مكانة الجزائر في المنطقة والعالم، هذه القوة ليست حديثة العهد، بل جاءت نتيجة تراكمات تاريخية وسياسات إستراتيجية جعلت الجزائر اليوم تمتلك اقتصادًا متينًا، دبلوماسية نشطة، وقوة عسكرية تحمي استقرارها الداخلي وتؤثّر في محيطها الإقليمي.
تحتلّ الجزائر موقعًا متقدّمًا في القارة الإفريقية، حيث تصنّف ضمن أكبر ثلاث اقتصادات بعد جنوب إفريقيا ومصر بناتج إجمالي تجاوز 267 مليار دولار سنة 2024، وما يميّز الاقتصاد الجزائري ليس فقط حجمه، بل قدرته على مواجهة التقلبات العالمية من خلال سياسات تهدف إلى تعزيز الاستقلالية الاقتصادية مع ديون خارجية تساوي الصفر تقريبا.
فبعد عقود من الاعتماد على النفط والغاز كمصدر رئيسي للإيرادات، نجح رئيس الجمهورية في تنفيذ إصلاحات اقتصادية عميقة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل، من خلال دعم القطاعات الصّناعية والزّراعية وتعزيز الاستثمار في الطاقات المتجدّدة، ومن المتوقّع أن تصل صادرات الجزائر خارج قطاعات المحروقات إلى غاية سنة 2030، إلى 30 مليار دولار، مع العلم أنّ الدولة تهدف هذه السنة الوصول إلى 13 مليار دولار صادرات خارج قطاع المحروقات، وانتاج فلاحي يناهز 40 مليار دولار ما يمثل أكثر من 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل الجزائر الأولى إفريقيّا وعربيّا في مجال الأمن الغذائي، حسب المنظمات الدولية المتخصّصة، حيث أشار تقرير “الفاو” الأخير إلى أنّ مؤشر انتشار نقص التغذية في الجزائر ظل أقل من 2.5% من إجمالي السكان، ممّا يجعلها الدولة الإفريقية الوحيدة التي تحقّق هذا المستوى المنخفض، في حين يبلغ المتوسط القاري 19.1%.
كما شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة طفرة في مشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل شبكات النقل والسكك الحديدية خاصة في الجنوب والموانئ، التي تعزّز من موقعها كجسر بين إفريقيا وأوروبا. كما أنّ المشاريع المتعلّقة بتحلية مياه البحر تعكس توجّه الدولة نحو تأمين الموارد الأساسية، وضمان الأمن المائي كجزء من استراتيجية الاستدامة، وهذه المشاريع ليست مجرّد مبادرات تنموية، بل أدوات تعزّز مناعة الاقتصاد الجزائري، وتمنحه قدرة على مقاومة الصدمات الخارجية، سواء كانت تقلّبات أسعار النفط أو الأزمات الاقتصادية العالمية.
دبلوماسية متّزنة وحضور إفريقي فاعل
إذا كانت القوة الاقتصادية إحدى ركائز الجزائر، فإنّ الدبلوماسية تمثل عنصرًا أساسيًا في تثبيت مكانتها كقوة إقليمية، فمنذ الاستقلال، تبنّت الجزائر سياسة خارجية قائمة على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما منحها مصداقية كبيرة في المحافل الدولية. وتستثمر الجزائر الجديدة اليوم هذا الرصيد السياسي لتعزيز دورها في القارة الإفريقية، حيث تعتبر أحد أبرز الفاعلين في الاتحاد الإفريقي، وتشارك في هياكل صنع القرار التي تحدّد مستقبل القارة، وآخر هذه الإنجازات هو انتخاب الدبلوماسية الجزائرية سلمى حدادي بمنصب نائبة رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، خلال الانتخابات التي جرت بمناسبة انعقاد الدورة 38 لمؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي، بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
الحضور الجزائري يتجلى أيضًا في جهودها لحل النزاعات في إفريقيا، حيث لعبت دور الوساطة في عدة أزمات معقّدة، كما أنها تواصل دعم الاستقرار في دول الجوار ومنطقة الساحل الإفريقي، انطلاقًا من قناعتها بأنّ الأمن الإقليمي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمنها الداخلي. وفي هذا الإطار، تسعى الجزائر إلى تعزيز التكامل الإقتصادي الإفريقي، من خلال مشاريع البنية التحتية التي تربطها بالدول الإفريقية، مثل الطريق “العابر للصّحراء”، والطريق الرابط بين تندوف و الزويرات الموريتانية، و الأنبوب العابر للصّحراء بين الجزائر ونيجيريا، إلى جانب ذلك، تحتفظ الجزائر بعلاقات متوازنة مع مختلف القوى العالمية، ممّا يمنحها قدرة على المناورة في السياسة الدولية، ويجعلها شريكًا موثوقًا به في القضايا الإستراتيجية مثل أمن الطاقة، مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية.
قوة عسكرية..جاهزية واحترافية
وفي عالم يشهد اضطرابات أمنية متزايدة، لا يمكن الحديث عن “القوة الضاربة” دون الإشارة إلى البعد العسكري، حيث تعد الجزائر المنتصرة واحدة من أقوى الدول في المنطقة من حيث القدرات الدفاعية والتسليحية. حيث تمتلك الجزائر جيشًا مجهّزًا بأحدث التقنيات، مع خبرة طويلة في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ما يجعلها قوة إقليمية فاعلة في الحفاظ على الاستقرار، ليس فقط داخل حدودها، ولكن أيضًا في المناطق المجاورة.
ويعتمد الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، على استراتيجية واضحة تقوم على تأمين الحدود، ومحاربة التهديدات الأمنية، خاصة في منطقة الساحل الإفريقي التي تعاني من انتشار الجماعات الإرهابية وشبكات التهريب. وفي هذا السياق، تواصل الجزائر دعم جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا، من خلال التعاون الأمني مع دول الجوار، وتعزيز آليات التنسيق العسكري الإقليمي.
لكن القوة العسكرية الجزائرية ـ برأي مراقبين - لا تقتصر على الدفاع التقليدي فقط، بل تشمل أيضًا الاستثمار في تطوير الصناعات الدفاعية، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الواردات العسكرية. هذا التوجه يعكس رؤية الجزائر لبناء جيش قوي احترافي يعتمد على إمكانياته الوطنية، ويضمن التفوق الاستراتيجي في مواجهة التحديات المستقبلية.
موقع استراتيجي يعزّز التأثير الإقليمي
وإلى جانب العوامل الاقتصادية، السياسية، والعسكرية، يتمتّع الموقع الجغرافي للجزائر بأهمية استراتيجية، حيث تطلّ على البحر الأبيض المتوسط وتمتلك أحد أطول السواحل في المنطقة. هذا الموقع يمنحها ميزة جيوسياسية تجعلها نقطة ربط بين أوروبا وإفريقيا، وتفتح أمامها فرصًا واسعة في مجال التجارة والنقل البحري.
كما أنّ الامتداد الجغرافي الواسع للجزائر يجعلها لاعبًا أساسيًا في المعادلة الأمنية الإقليمية، خاصة مع التحديات التي تشهدها منطقة الساحل، حيث تسعى الجزائر إلى فرض معادلة توازن قائمة على الاستقرار والتنمية الاقتصادية كبديل عن الحلول العسكرية التقليدية.
وعندما تحدث رئيس الجمهورية عن الجزائر كـ “قوة ضاربة”، لم يكن الأمر مجرّد توصيف لوضع راهن، بل هو تعبير عن مسار استراتيجي تسير عليه البلاد منذ سنوات، ويستند إلى ركائز اقتصادية متينة، سياسة خارجية متوازنة، وقوة عسكرية قادرة على حماية الاستقرار الوطني والإقليمي. هذه القوة ليست شعارًا، بل واقع مدعوم بأرقام، مشاريع، ومبادرات تجعل الجزائر واحدة من الدول الأكثر تأثيرًا في محيطها. وبينما تتغيّر التوازنات الإقليمية والدولية، يبقى التحدي الأكبر هو الاستمرار في تعزيز هذه القوة، وضمان استدامتها في مواجهة التحولات القادمة.