الانخراط الكامل والجدي في مسار التنمية الشاملة التي يرسى دعائمها الرئيس تبون
في تاريخ كل أمة، هناك أزمنة تترك بصمات خالدة مدونة بحبر لا يُمحى، وتشكل منعطفات حاسمة في مسار التاريخ؛ ذلك أن أحداثها توثق نهاية مرحلة وبداية أخرى، قبل أن تتحول إلى ذكريات تُروى.. و19 ماي 1956 هو واحدة من هذه المراحل التي شهدتها الجزائر الثورية.
في الحقيقة، لم يكن بإمكان الجزائريين من الطلاب وتلاميذ الطورين الثانوي والمتوسط، البقاء على هامش الزخم الثوري للفاتح نوفمبر 1954.. ولم يكن بإمكانهم الاقتصار على وضعية الترقب والانتظار حتى لا أقول الحياد، في حين قرر شعبهم كسر نير استعمار استيطاني استعبده وحاول سحق هويته وإلغاء وجوده.
هذه النخبة المثقفة وإن كانت قليلة وضئيلة، سيما وأن الاستعمار لم يدخر أي جهد سياسي ولا أي حيلة بغية التقليل من قيمة الجزائريين وتصنيفهم تحت مستوى البشر، من أجل استغلالهم كفرائس لسياسته الحضارية المزيفة، أقول هذه النخبة المثقفة قد لبت نداء الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، وواجهت بذلك الأقدام السوداء، كما وقفت في مواجهة الجمهورية الرابعة وهي تترنح آنذاك وتتداعى تحت الضربات القوية للمجاهدين الذين «تجرأوا»، على حد قول من آمن بفرنسا الاستعمارية من بني جلدتنا.
لقد أثبت الطلبة وتلاميذ الطورين الثانوي والمتوسط من أبناء الجزائر، تمتعهم الكامل بحس الوطنية وانتمائهم لهذا الشعب النبيل الأبي، الذي مارست ضده فرنسا سياسة تمييز عنصري، شكلت بشاعتها مصدر إرشاد لنظام الأبارتيد والاحتلال الصهيوني.. هذه السياسة الإجرامية كان الهدف منها إزالة الشعب كليا، ظنا أن ذلك كفيل بطمس شخصيته إلى الأبد.
لقد أبان الجزائريون من الطلبة وتلاميذ الطورين الثانوي والمتوسط بوضوح، وعبر نداء إلى الإضراب، عن حس تضحية رفيع، وعبروا عن استعدادهم الكامل لبذل دمائهم من أجل استقلال بلادهم، على غرار كافة شرائح المجتمع الجزائري، مؤكدين بذلك أن كونك متعلما أو محصنا بالشهادات، لن يجعل منك فردا من طبقة ثرية، وأنهم رغم تعلمهم سيبقون في نظر المستعمر «بونيول»، الإفريقي الكادح الفقير والفأر القذر، وسيناديهم باحتقار «ياولد».. ومدركين أن شهاداتهم وألقابهم العلمية لن تجعل منهم جثثا أفضل، لأن «العربي يبقى عربي»، كما تقول العبارة التي لقنها البائس المعروف العقيد بن داود لأتباعه.
إن التحاق المتعلمين وأصحاب الشهادات من الجزائريين بالثورة، قد أمد الكفاح المسلح بنَفَس جديد، رؤية معينة.. ومقاربة معينة.. فهم لم يلتحقوا بالجبال برداء الزعامة، بل كمحاربين بسطاء مستعدين للموت من أجل أن تحيا الجزائر.. وعلى طلبة اليوم أن يعلموا أن أسلافهم قد أدركوا أنه لا خيار آخر أمامهم إلا الالتحاق بالجبل، بهدف ضخ ديناميكية متوهجة في صفوف الثورة، بما اكتسبوه من معرفة.
وعليه، وضعوا مهاراتهم وعلمهم وثقافتهم في خدمة القضية، منهم على سبيل المثال طالب عبد الرحمان، وعلاوة بن بعطوش والدكتور بن زرجب والعقيد لطفي وحسيبة بن بوعلي... ستبقى أسماء هؤلاء محفورة في الذاكرة الجماعية إلى الأبد، فحين تعلق الأمر بالجزائر، لم يترددوا لحظة واحدة في تلبية نداء الواجب حتى غادروا الحياة في ريعان شبابهم، بعد أن أودت بهم قنبلة أو رصاصة أو مقصلة... إنهم الأنموذج والمثال والمرجع، فقد رسموا بتضحياتهم طريق الكرامة وإنكار الذات وحب الوطن بصدق وتفانٍ، كما فعل كل الشهداء والمجاهدين.
وقد حان دور طالبات وطلاب اليوم للمحافظة على شعلة الوطنية التي حملها شهداءنا الأبرار، بأن يبقوا أوفياء لقيم ومبادئ نوفمبر، ويضعوا نصب أعينهم أن الانضباط والمثابرة هما مفتاح النجاح والتطور في كافة المجالات.
إن الغرض من إحياء يوم الطالب هو تشجيع طلابنا الشباب على مواصلة درب سلفهم، وأن يكون هذا السلف مصدر إلهامهم الرئيس.. سيمكنهم ذلك من الفهم العميق لتضحياتهم والتماهي مع التزامهم، ويزيدهم عزما على رفع مختلف التحديات التي تواجه بلادنا.
لقد أثبت 19 ماي 1956 أن طالبات وطلاب الأمس، فضلوا المصلحة الوطنية ووضعوها فوق كل اعتبار شخصي ضيق، وأعطوا بذلك لطالبات وطلاب اليوم درسا عميقا في الوطنية، مؤكدين لهم ضرورة الانخراط الكامل والجدي في مسار التنمية الشاملة، مثلما يتجلى كل يوم في إنجازات ومكاسب الجزائر الجديدة المنتصرة التي يرسى دعائمها السيد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون.
إن الجزائر التي تحيي اليوم الوطني للطالب، من حقها أن تفتخر بالقفزة النوعية التي شهدها قطاع التعليم العالي، والذي يضم أكثر من 1.8 مليون طالب وطالبة، بعد أن كان عددهم بضع مئات فقط غداة الاستقلال.. يؤكد هذا أن المجتمع الجزائري يواصل بثقة ونجاح مسار التقدم، بفضل ثمار قطاعات التربية والتعليم والبحث العلمي والتكوين المهني، مما يمنح الجامعة الجزائرية فرصة المشاركة الإيجابية والملموسة في كافة مجالات الحياة الاجتماعية.
إن الشعب الجزائري، الذي ضحى بأكثر من مليون ونصف المليون شهيد، يستحق أن يرى أبناءه ينهلون من كل ميادين المعرفة، من أجل استيعاب التطورات الحاصلة والتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تؤثر في بلادنا.. فالجامعة تتيح لنخبتنا التموقع في طليعة المجتمع الجزائري، وتمنحها فرصة تسخير كل قدراتها في خدمة وطنها ومن أجل تقدمه ورفعته، بعيدا عن الانقسامات الإيديولوجية والحزبية، وبعيدا عن كل أشكال السلبية المثبطة.