تدخل العلاقات الجزائرية الفرنسية مرحلة حرجة ومعقّدة للغاية، تفرضها مغامرات سياسية متهوّرة تقودها تيارات يمينية متطرفة داخل الحكومة الفرنسية، على رأسها وزير الداخلية برونو روتايو، الذي يدفع نحو التصعيد مع الجزائر من منطلقات إيديولوجية ضيقة وحسابات حزبية تفتقد للرؤية الاستراتيجية.
ويبدو جليّا أن هذه السياسات تعكس رغبة انتقامية واضحة ضد الجزائر كدولة مستقلّة ترفض أن تكون طرفًا ضعيفًا في أي معادلة سياسية أو دبلوماسية، مستندة إلى تاريخ طويل من المقاومة والكفاح لأجل فرض احترام سيادتها وكرامة شعبها.
تأتي هذه الأزمة في وقت يشهد العالم تغيرات جذرية في التوازنات الجيوسياسية، ما يجعل من التصعيد الفرنسي ضد الجزائر خطوة غير محسوبة العواقب، تؤشّر إلى تخبط واضح وعدم إدراك عميق للتطورات الإقليمية والدولية التي منحت الجزائر أوراقًا سياسية قوية وفعالة، تمكّنها من مواجهة أي محاولة للضغط أو الابتزاز.
اليمين الفرنسي الذي يبدو فاقدًا لأي عمق سياسي أو استراتيجي، يغامر اليوم باستخدام ورقة الجالية الجزائرية والهجرة، في محاولة لكسب نقاط سياسية في الداخل الفرنسي، وذلك من خلال تصوير الجزائر كدولة يمكن ابتزازها أو إخضاعها لضغوط سياسية، وهو رهان يظهر قصورًا واضحًا في فهم التحولات العميقة التي تعرفها الجزائر خلال السنوات الأخيرة، باعتبارها بلدًا قادرًا على حماية مصالحه ومواجهة أي تصعيد بحزم وثقة.
في هذا الإطار، تأتي تصريحات جان لوك ميلانشون، زعيم حركة فرنسا الأبيّة، كاشفةً للنهج الخطير الذي تتبعه الحكومة الفرنسية في تعاملها مع قضايا الهجرة والإسلام، مشيرًا إلى أنّ هذا السلوك يعيد إنتاج ممارسات خطيرة عرفتها فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي، حين استُخدمت نظريات المؤامرة لشيطنة مجموعات اجتماعية معينة وإثارة التفرقة، وهو ما يهدّد اليوم بإحداث شرخ كبير في النسيج الاجتماعي الفرنسي، خاصة أن الجاليات المهاجرة ومنها الجزائرية باتت مكونًا أساسيًا من هذا النسيج.
وتعكس التقارير الصحفية الفرنسية، خصوصًا من وسائل إعلامية كبرى مثل «لوفيغارو» و»لوموند»، مدى التخبط الذي تعيشه الحكومة الفرنسية جرّاء السياسات المتهورة لليمين المتطرف، فتحْتَ عنوان «مؤامرة إسلامية»، يحذّر مراقبون من خطورة السياسات التي ينتهجها روتايو، ويدعون إلى ضرورة التعامل مع ملف الهجرة بعقلانية بدلًا من التصعيد الأعمى، الذي لا يخدم سوى أجندات انتخابية قصيرة الأمد، وقد يتسبّب في عزلة دبلوماسية واقتصادية لفرنسا، خصوصًا مع الجزائر، الشريك الاستراتيجي المهم في المنطقة، وثالث أكبر اقتصاد في إفريقيا، وثاني مموّن لأوروبا بالغاز الطبيعي.
من جانبها، لم تتردّد الجزائر في اتخاذ موقف واضح وصارم، يؤكّد على أنّ العلاقات الثنائية لا يمكن أن تُبنى إلا على مبادئ الندية والاحترام المتبادل. وتؤكّد ردود الفعل الرسمية الجزائرية أن زمن الهيمنة انتهى، وأنّ الجزائر لم تعد مستعدة لقبول أي محاولات لفرض إرادة خارجية، وهو ما يضع فرنسا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا مراجعة سياستها واحترام سيادة الجزائر، أو مواجهة عزلة إقليمية متزايدة، خاصة وأن فرنسا تسعى إلى تمرير ممارسات لا تحترم الأعراف الدبلوماسية، سواء من خلال طريقة تعيين دبلوماسيّيها العاملين بالجزائر، أو عبر محاولاتها الترويج لمغالطة مفادها أن الجزائر هي الطرف المستفيد من اتفاق المرور بدون تأشيرة لحاملي الجوازات الدبلوماسية بين البلدين، في حين أن هذا الامتياز كان في الأصل مقترحًا فرنسيًا، وتمّ اعتماده سنة 2007، قبل أن يُوسّع نطاقه سنة 2013 بناءً على رغبتها.
القراءة السياسية المعمقة للمشهد الحالي، تُظهر أن فرنسا تواجه اليوم أزمة داخلية وخارجية عميقة، بفعل السياسات الشعبوية والمتطرفة، والتي، وإن بدت ظاهريًا موجّهة ضد الجزائر، فإنها في حقيقتها تحمل بذور التفكك والانقسام الداخلي الفرنسي، وهو الأمر الذي يجعل من استمرار هذه السياسات مغامرة خطرة على استقرار فرنسا نفسها.
كما بات واضحًا أنّ ما تقوم به التيارات المتطرّفة في فرنسا ليس سوى هروب من أزمات داخلية عميقة عبر اختلاق عدو خارجي، وهي استراتيجية أثبت التاريخ مرارًا فشلها ونتائجها الكارثية، خصوصًا مع دولة بحجم الجزائر التي تملك كل الأدوات السياسية والدبلوماسية اللازمة للتعامل بحزم مع أي تهديد لمصالحها الوطنية.