روتايو يتصرف وكأنه المقـرر الوحيــد لسياسـة باريس الخارجية

تصدّع فرنسي متـواصل أمـام صلابـة الدبلـوماسية الجزائــريـــة

علي مجالدي

في مشهد لا يخلو من دلالات التصدع السياسي والتخبط المؤسسي، تواصل فرنسا، عبر جناحها اليميني المتطرف، خرق الأعراف الدبلوماسية تحت ستار «إجراءات أمنية» غير مبررة، في وقت بات فيه وزير داخليتها روتايو يتصرف وكأنه المقرر الوحيد للسياسة الخارجية، متجاوزًا بذلك كل ما تمليه قواعد الفصل بين السلطات ومقتضيات الأعراف الدولية.

تُعيد الحادثة الأخيرة، المتعلقة بمنع الأعوان المعتمدين في سفارة الجزائر بباريس من الوصول إلى مناطق مقيّدة داخل المطارات لتسلّم الحقائب الدبلوماسية، طرح جملة من التساؤلات الجدية حول وجهة الدولة الفرنسية وطبيعة سلطتها المتداخلة وموقع العقلانية في قراراتها.
في بيان شديد اللهجة، اتسم بالاتزان والدقة، أعربت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية عن استغرابها الشديد من هذا التصرف، معتبرة إياه انتهاكًا صريحًا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، ومساسًا واضحًا بالسير الحسن لأعمال البعثة الجزائرية.
في سياق متصل، أبرز البيان أن الإجراء قد اتُّخذ من قبل وزارة الداخلية الفرنسية، دون علم وزارة أوروبا والشؤون الخارجية، ما يعكس بجلاء حجم التناقض الحاصل داخل الأجهزة الفرنسية، ويدفع للتساؤل حول الجهة الحقيقية التي تصوغ السياسة الفرنسية تجاه الجزائر.
في نفس السياق، لا يمكن عزل هذه الخطوة عن المسار التصاعدي لمحاولات التشويش المتكرر على العلاقات الجزائرية- الفرنسية، خاصة في ظل التطورات المتلاحقة التي تشهدها القارة الإفريقية، والتي أثبتت فيها الجزائر حنكة دبلوماسية لافتة، وفرضت نفسها شريكًا محوريًا في صياغة التوازنات الإقليمية، في وقت فقدت فيه فرنسا الكثير من نفوذها التاريخي في الساحل وغرب إفريقيا.
 وقد أثار هذا التراجع الواضح لباريس، حفيظة تيارات داخلية فرنسية، لاسيما اليمين المتطرف، الذي لم يتقبل تلاشي الهيمنة الفرنسية السابقة، ولا التقدم الذي تحققه الجزائر على مستوى توسيع شراكاتها الأوروبية، لاسيما مع دول كإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وهي قوى وازنة داخل الاتحاد الأوروبي ومؤثرة في قراراته الاستراتيجية.
كذلك، يُدرك المتابعون أن هذا التضارب في المواقف ليس سوى انعكاس لحالة الارتباك العامة داخل السلطة الفرنسية، حيث أصبحت بعض الجهات –وعلى رأسها وزارة الداخلية– تتصرف وفق أجندات انتخابية ضيقة، مستعملة ملف الجزائر كورقة استقطاب داخلي، في وقت تغيب فيه وزارة الخارجية تمامًا عن الساحة، أو تُدفع للتبرير في كل مرة يحدث فيها خرق دبلوماسي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الرد الجزائري الذي جاء سريعًا ومدروسًا، يجسد مرة أخرى نضجًا في الأداء الدبلوماسي، يميز السياسة الخارجية للجزائر في السنوات الأخيرة. فبعيدًا عن التصعيد الانفعالي، فضّلت الجزائر تفعيل آلية المعاملة بالمثل، مع التأكيد على إمكانية اتخاذ مسارات قانونية قد تشمل اللجوء إلى الأمم المتحدة، وهو ما يعكس اتزانًا واضحًا في الموقف، ويقطع الطريق أمام محاولات اليمين الفرنسي جرّ العلاقات نحو التصعيد الشعبوي.
في هذا الإطار، تؤكد الجزائر، مرة أخرى، قدرتها على التفريق بين الدولة الفرنسية كمؤسسة قائمة على مبادئ القانون الدولي، وبين بعض الفاعلين السياسيين داخلها الذين يضمرون عداء تاريخيًا للجزائر ولا يتوانون عن تسميم العلاقات الثنائية كلما أتيحت لهم الفرصة، خاصة في سياقات انتخابية أو فترات احتقان داخلي في فرنسا.
علاوة على ذلك، فإن الجزائر لم تنجرّ في أي لحظة نحو تعميم الأحكام أو الانفعال، بل ظلت، في كل المناسبات، متمسكة بخطاب عقلاني، يحفظ الاحترام المتبادل ويفرض، في الوقت ذاته، صون سيادتها وهيبة مؤسساتها الدبلوماسية. ويُعدّ هذا الموقف من أبرز معالم مدرسة جزائرية في الدبلوماسية، تجمع بين الحزم والانضباط، وتؤسس لعلاقات دولية متوازنة قائمة على الندية، لا التبعية.
كما يتضح أن ما يجري في فرنسا اليوم، ليس مجرد خرق بروتوكولي، بل هو عرض لمشكلة أعمق تتعلق بتآكل بنية القرار السياسي، وصعود قوى داخلية تسعى لتحريف بوصلة العلاقات الخارجية نحو زوايا ضيقة تتغذى على الذاكرة الاستعمارية والصراعات الهوياتية.
 وفي مواجهة هذا الوضع، تبقى الجزائر صامدة بدبلوماسيتها الناضجة، تحمي حقوقها وتُراكم مكاسبها، وتؤكد من جديد أنها ليست طرفًا ضعيفًا يمكن تجاوزه، بل فاعل مركزي في معادلات المتوسط وإفريقيا، وصوت وازن لا يمكن كتمه في زمن الحقائق.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19832

العدد 19832

السبت 26 جويلية 2025
العدد 19831

العدد 19831

الخميس 24 جويلية 2025
العدد 19830

العدد 19830

الأربعاء 23 جويلية 2025
العدد 19829

العدد 19829

الثلاثاء 22 جويلية 2025