صحراوي: النظام الفرنسي عاجز عن صياغة مقاربة متماسكة
في مشهد يُذكّر بلقطات من مسرح سياسي عبثي، أقدمت وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية على اقتراح إجراء مؤقت يمس جوهر العمل الدبلوماسي، حين فرضت قيودًا جديدة على عملية وصول أو استلام موظفي البعثة الجزائرية للحقيبة الدبلوماسية في المطارات الفرنسية.
الإجراء العبثي، يشترط مرافقة شرطية دائمة وتقديم طلب كتابي قبل ثمان وأربعين ساعة، يبدو كأنه محاولة لإخضاع الأعراف الدولية إلى «مزاج مراهق»، في تناقض صارخ مع اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 واتفاقية العلاقات القنصلية لعام 1963، بل ومع الاتفاقية القنصلية الجزائرية–الفرنسية الموقعة عام 1974.
الجزائر، وبقراءة هادئة للمشهد، رفضت الإجراء جملة وتفصيلًا، معتبرة أن ما اقترحته باريس لا يمثل خرقًا قانونيًا فقط، بل يندرج ضمن ما يسميه أهل السياسة بـ»سوء الإدراك» أو «الخطأ في تقدير اللحظة»، فمن الناحية القانونية، النصوص واضحة لا لبس فيها: المادة 27 من اتفاقية فيينا تضمن لأي بعثة دبلوماسية الحق في إرسال أحد أعضائها لاستلام الحقيبة مباشرة وبحرية من قائد الطائرة، دون وسطاء ولا عراقيل. والمادة 13 من الاتفاقية القنصلية الثنائية، تكرّس هذا الحق حرفيًا.
أما من الناحية السياسية، فإن استهداف موظفي البعثة الجزائرية وحدهم، يعكس معاملة تمييزية تتنافى مع مبدإ عدم التمييز المنصوص عليه في المواد ذات الصلة من الاتفاقيات الدولية.
في سياق متصل، لا يمكن فصل هذا السلوك الفرنسي عن مسار الأزمة الدبلوماسية المتواصلة منذ أشهر، والتي شهدت سلسلة من القرارات المرتجلة والتصريحات المتضاربة. من تقليص التأشيرات، إلى التصعيد الإعلامي، وصولًا إلى محاولات غير مباشرة لليّ ذراع الجزائر في ملفات حساسة.
وما يثير الانتباه، أن مثل هذه الإجراءات لم تعد تصدر فقط عن وزارة الخارجية، بل باتت تمثل تداخلاً واضحًا بين السلطات الفرنسية، حيث يظهر وزير الداخلية اليميني المتطرف المدعو روتايو -أو من يسير على خطاه- وكأنه وزير على كل الوزارات، بقراراته التي تمس جوهر العلاقات الثنائية دون تنسيق مؤسسي حقيقي.
ويرى أستاذ النظم السياسية، الدكتور سليم صحراوي، في تصريح لـ»الشعب»، أن ما يحدث هو انعكاس لحالة «تيه دبلوماسي» تعيشها باريس، وحالة عجز عن صياغة مقاربة متماسكة في التعامل مع الجزائر. ويضيف، أن التهديدات الفرنسية السابقة، مثل الحديث عن قطع مساعدات اقتصادية «لا وجود لها إلا في مخيلة صانعي القرار الفرنسي»، تتكرر اليوم على شكل أفعال صغيرة من حيث الحجم، لكنها كبيرة في دلالاتها، وتكشف ارتباكًا في فهم قواعد اللعبة الدولية.
في نفس السياق، يمكن استحضار ما قاله أحد النواب الفرنسيين عام 2018 حين وصف الرئيس الفرنسي بأنه «مراهق غير ناضج» يعيش تحت وطأة «شعور بالقدرة المفرطة». اليوم، يبدو أن هذا التوصيف لم يعد حكرًا على شخص بعينه، بل صار صالحًا لوصف ذهنية جماعية تحكم بعض دوائر القرار في باريس، حيث تُدار الملفات الحساسة بعقلية التحدي لا بعقلانية المصالح المشتركة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الجزائر التي ردّت بالمثل عبر تقييد وصول البعثة الفرنسية إلى المناطق المخصصة في مطاراتها، تؤكد أنها لا تتحرك تحت وقع الانفعال، بل وفق مبدإ المعاملة بالمثل، المدعوم بنصوص القانون الدولي. وهذه المقاربة تمنحها هامشًا واسعًا لتفادي فخ التصعيد غير المحسوب، وفي الوقت نفسه ترسل رسالة واضحة بأن السيادة ليست موضوعًا للتفاوض أو المقايضة.
اللافت في الأمر كذلك، أن الأزمة الحالية تضع باريس أمام اختبار حقيقي؛ إما العودة إلى احترام التزاماتها الدولية، بما فيها إعادة بطاقات الوصول الدائم لموظفي البعثة الجزائرية، أو المضي في نهج التصعيد الرمزي الذي لن يغيّر شيئًا على الأرض، لكنه سيترك أثرًا سلبيًا طويل المدى على العلاقات بين البلدين. فالجزائر، التي اختارت منذ بداية الأزمة النبرة الندية، تُدرك أن رهانها على القانون والاتفاقيات الثنائية يمنحها أفضلية أخلاقية وسياسية في أي مواجهة دبلوماسية.
وما يحدث اليوم بين الجزائر وفرنسا في ملف الحقيبة الدبلوماسية، ليس مجرد خلاف بروتوكولي، بل هو مرآة تعكس عمق الأزمة السياسية والدبلوماسية بين البلدين. ففرنسا تتصرف بعقلية أقرب إلى «المراهقة السياسية»، فيما الجزائر تردّ ببرود محسوب، لتُذكّر شريكها السابق –والحالي حين يتعقّل– أن العلاقات الدولية لا تُدار بالانفعالات ولا بالقرارات المفاجئة، بل بالتزامات راسخة واحترام متبادل، وإلا فإن الكلمة الأخيرة ستبقى دائمًا لمن يحسن قراءة اللحظة التاريخية قبل الإقدام على الفعل.