في عالم تتسابق فيه الدول لإعادة ترتيب موقعها في المنتديات الدولية، تأتي بعض اللحظات السياسية بوقع خاص؛ لحظات لا تُقاس بعلو الصوت أو عدد الكاميرات، بل بعمق الدلالة واستقرار الحضور.
تكتسب مشاركة الجمهورية العربية الصحراوية في قمة TICAD-9 قيمة تتجاوز مجرّد التمثيل الشكلي. فهي ليست فقط حضورًا في محفل دولي، بل فعل رمزي يطعن في كل محاولات الحجب والإقصاء التي تبنّاها الاحتلال المغربي عبر سنوات من الضغوط والمناورات.
الوفد الصحراوي، بقيادة الوزير الأول بشرايا حمودي بيون، لم يأتِ بطلب استثناء ولا في وفد ضيف، بل بصفته الكاملة كعضو مؤسس في الاتحاد الإفريقي. واليابان تعاملت مع وجودها كأمر واقع لا يخدش سياقات المؤتمر، لأن الدعوة مصدرها الاتحاد الإفريقي، لا الدولة المضيفة. وهذا وحده كفيل بإرباك خطاب الرباط، الذي طالما بنى دفاعه على نفي الشرعية القانونية للبوليساريو، معوّلاً على فجوات المواقف الثنائية لتقويض الحضور الصحراوي في الساحات متعددة الأطراف.
من سحل البطاقة إلى صمت الحضور
لكن الأهم ليس فقط في الحضور، بل في المقارنة بين نسختي 2024 و2025 من ذات القمة. ففي العام الماضي، عاشت القاعة التحضيرية مشهداً كاريكاتوريًا بامتياز وفضيحة مغربية مدوية، عندما اقتحم دبلوماسي مغربي المكان محاولًا انتزاع بطاقة تعريف على الطاولة كُتب عليها «الجمهورية الصحراوية»، ليُفتح باب لمناوشة جسدية، في مشهد أقرب إلى «سحل دبلوماسي» منه إلى ممارسة سيادية. وكانت الورقة الصغيرة -مجرد بطاقة تعريف- كافية لتفجير مشاعر الخوف من مجرد اسم، وكشف هشاشة الادعاء المغربي بـ»السيادة الواسعة» في ظل كيان لا يحتمل رمزية كلمة. ذلك المشهد الفوضوي الذي جرى توثيقه وتداوله على نطاق واسع، لم يُحرج المغرب فقط أمام الكاميرات، بل سلّط الضوء على مكمن الضعف في طرحه السياسي، فعندما تستدعي بطاقة غضبًا بهذا الحجم، وعندما يُجند المجهود الدبلوماسي لنزع كلمة من طاولة، فإن من يدّعي السيادة لا يبدو واثقًا من قدرته على فرض روايته في إطار قانوني. في يوكوهاما 2025، لا وجود لذلك القلق. لا أحد مزّق بطاقة، ولا أحد تدخّل بالصوت أو الجسد. كانت الطاولة مكتملة، البوليساريو حضر بصمت، وشارك بفاعلية وسيخرج دون أن يضطر إلى تذكير أحد بشرعيته وهذا في ذاته، انتصار.
هنا تتحول السخرية إلى تحليل، فبينما يتورط المخيال المغربي في تضخيم وهم «الحكم الذاتي» وبيعه كمنتج نهائي لحل النزاع، يتقدم خصمه بهدوء في المحافل الدولية، لا بخطب نارية ولا بتشنجات مسرحية، بل بلغة مؤسساتية تقرّها الأعراف وتمنحها المعاهدات شرعية الوجود.
الحكم الذاتي في صورته التي تُصدّر اليوم، يبدو أقرب إلى ملصق إعلامي من كونه مشروعًا متماسكًا. فهو بلا توقيع أممي، بلا حاضنة إفريقية، وبلا إجماع داخلي في المغرب نفسه. أما البوليساريو، فتمشي بأقدام واثقة بين الطاولات الرسمية، لأن المعركة الحقيقية ليست في من يصرخ أكثر، بل في من يُعتمد دون حاجة إلى استجداء.
وفي النهاية، TICAD-9 لم تكن مجرد قمة تنموية، بل كانت مناسبة لاختبار قدرة البوليساريو على فرض وجودها ضمن منطق القانون، ومناسبة لفحص مدى هشاشة خطاب مغربي لايزال يعجز عن التعايش مع مقعد صحراوي في قاعة واحدة. والشرعية اليوم لم تعد تُقاس بعدد التصريحات، بل بوزن الحضور الهادئ حين يتكلم باسم القارة. واليابان أكدت بوضوح أن المقعد يُحدد في أديس أبابا، لا في طوكيو. أما المغرب، فمطالب بمراجعة رد فعله لا على ورقة طاولة… بل على واقع لا يمكن سحله.