تدويل المسؤوليـة القانونية والأخلاقيـة للجرائم الصهيونيـة
منذ بداية حرب الإبادة الصهيونية على غزة في أكتوبر 2023، تحوّل مشهد العدوان إلى اختبار أخلاقي وسياسي للنظام الدولي؛ اختبار تتقاطع فيه لغة القانون الإنساني مع حسابات القوة العارية وتتكشّف عبره هشاشة الآليات الأممية أمام مأساةٍ مفتوحة.
اشتغلت الجزائر على واجهتين متلازمتين: واجهة المبدإ التي ترى في فلسطين جوهر قضية التحرر الحديثة، وواجهة الفعل التي تبحث عن ترجمة عملية في مجلس الأمن وفي المنظمات متعددة الأطراف. ومن هنا يكتسب تنويه منظمة التعاون الإسلامي بجهود رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون معنى سياسيًا يتجاوز بروتوكول الثناء، لأنه يربط بين سردية الجزائر التاريخية في دعم فلسطين وبين مساعيها العملية في مجلس الأمن لصناعة أثر تشريعي وإنساني ملموس، في سياقٍ يتعرض فيه المدنيون للتجويع الممنهج والقصف المستمر ويُحاصَر فيه الحقّ في الحياة قبل أي حق آخر.
تنويه المنظمة الصادر في دورتها الاستثنائية بجدة، وضع علامة فارقة على هذا المسار، إذ أكد دعمه «للجهود الملموسة والمقدّرة» التي تقودها الجزائر تحت إشراف رئيس الجمهورية، وربطها مباشرة بعضوية البلاد غير الدائمة في مجلس الأمن وفترة رئاستها. المغزى هنا مزدوج: أولًا، تثبيت القيادة السياسية كرافعة لفعلٍ دبلوماسي منسّق لا ينحصر في الخطاب بل يطلب قرارات مُقاربة لواقع الميدان. وثانيًا، إدراج تلك الجهود ضمن إطارٍ إسلامي واسع يطالب بتعبئة عاجلة داخل مجلس الأمن لاتخاذ تدابير فورية توقف مسعى إعادة احتلال غزة، وتضع حدًّا لحرب الإبادة، وتضمن وصول المساعدات بشكل آمن ومستدام على نطاقٍ واسع.
في سياق متصل، يعيد هذا التنويه الاعتبار لوظيفة الإجماع الإسلامي حين يتحول من بيان موقف إلى ضغطٍ منظّم على بوابة القرار الدولي، علاوة على ذلك فهو يمنح الجزائر تفويضًا معنويًا إضافيًا كي تمضي أبعد في تدويل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن الجرائم الجارية.
على خط مجلس الأمن، راكمت الجزائر سجلا واضحًا منذ بداية ولايتها 2024–2025، إذ طرحت العديد من مشاريع القرارات لوقف فوري لإطلاق النار، وواجهت فيتو أميركي رغم تأييد غالبية الأعضاء، ثم واصلت الدفع بنصوص وبيانات تُحذّر من اجتياح رفح وتؤكد حماية المدنيين وإطلاق سراح الأسرى وفتح المعابر أمام الإغاثة.
كذلك ترأست الجزائر أعمال المجلس في جانفي 2025، فرفعت منسوب النقاش العلني حول «السؤال الفلسطيني» وأتاحت للدول الداعمة توسيع هوامش التأثير. وفي السياق ذاته، عملت ضمن تنسيق «A3+» مع الدول الإفريقية والإسلامية غير الدائمة لإسناد أي تحرك يُقارب معايير القانون الدولي الإنساني، بالإضافة إلى الدفع المتكرر لآليات المساءلة ومنع الإفلات من العقاب. وكان ذلك ليس مجرد اشتغال شكلي، بل يتصل بتصميم سياسي يربط مشروعية الخطاب بمصداقية الأداة، ويضع الدول المعرقلة تحت ضوءٍ نقدي أمام الرأي العام الدولي.
حضور سفير الجزائر لدى الأمم المتحدة عمار بن جامع في جلسات المجلس، شكّل واجهة هذا الاشتغال الميداني، إذ قدّم مرافعات موثقة استند فيها إلى تقارير أممية وشهادات حيّة عن التجويع المتعمّد واستهداف البنية المدنية، وقرأ في إحدى الجلسات رسالة مؤثرة لصحفية فلسطينية قُتلت خلال تغطيتها، كاشفًا وظيفة الشهادة كحجّة أخلاقية وقانونية. كذلك ظلّ الخطاب الجزائري يلحّ على المعادلة التأسيسية لأي تسوية جادة: وقفٌ فوري شامل لإطلاق النار، حماية المدنيين، دخول المساعدات بلا عوائق ومسار سياسي ينتهي إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشريف. علاوة على ذلك، نبّهت الجزائر إلى أن ربط وقف النار بشروط تعجيزية يطيل عمر المأساة ويُحوّل المجلس إلى مسرح لشرعنة «الوقت الميت» الذي تُقتَل فيه الحياة اليومية للفلسطينيين.
كما أن تنويه منظمة التعاون الإسلامي بهذه الخلفية لا يكتفي بوصف الأداء الجزائري، بل يضعه في مقام «المعيار» الذي تُقاس به جدّية المواقف. حين يطالب القرار بدعم جهود الجزائر مع بقية الدول الإسلامية الأعضاء في المجلس للتعبئة العاجلة وتحميل المجلس مسؤولياته بموجب ميثاق الأمم المتحدة، فهو يمنح ذلك الأداء إطارًا مؤسسيًا أوسع من الثنائية العربية– الغربية المعتادة، ويحوّل المخزون الرمزي للتضامن إلى خطة ضغطٍ متتابعة الحلقات: قرارات سياسية، تحريك لمسارات الإغاثة، توثيق قانوني للجرائم وفتح قنوات المحاسبة الدولية.
في السياق نفسه، يتوافق ذلك مع معطيات إنسانية موثوقة تشير إلى قتلى بعشرات الآلاف وإلى مجاعة مُعلنة أمميًا، ما يجعل من أي «حياد» مزعوم شكلًا آخر من أشكال الانحياز للعنف. بالإضافة إلى ذلك، يكرّس التنويه سردية الجزائر التاريخية بوصفها دولة تُبقي فلسطين في صدارة أولوياتها الدبلوماسية، لا كشعار بل كسياسة عمومية تتكرر عبر العقود.
كذلك، فإن أثر هذا الاعتراف أوسع من رمزية التصفيق؛ فهو يرفع الكلفة السياسية على المعسكر الذي يراهن على إنهاك المجتمع الدولي بالاعتياد على المأساة، ويمنح الجزائر رأسمال دبلوماسيًا إضافيًا لتوسيع ائتلافٍ عابر للأطر الجغرافية يضغط من أجل وقف الحرب وفتح الممرات الإنسانية وتثبيت مسار دولة فلسطينية قابلة للحياة. كما يرسل رسالة إلى الداخل الفلسطيني والعربي مفادها، أن هناك عناوين دولية مازالت تتعامل مع العدالة كقيمة عملية لا كشعار أخلاقي مؤجل. وعلاوة على ذلك، يثبت أن دور الدول متوسطة الحجم ليس تفصيلًا في صناعة القرار الدولي إذا امتلكت وضوح بوصلة ونسجت تحالفات ذكية ومثابرة.
وتنويه منظمة التعاون الإسلامي بجهود رئيس الجمهورية، يلتقط لحظةً مهمة في تراكم الفعل الجزائري تجاه فلسطين؛ لحظة تجمع بين وضوح الرواية الأخلاقية حول المأساة وبين الجدوى العملية لتحويل تلك الرواية إلى أدوات ضغط وتدابير واقعية. وإذا كانت غزة اليوم تختبر صدقية العالم، فإن الجزائر تقدّم نموذجًا لدبلوماسيةٍ لا تساوم على المبدإ ولا تتوقف عنده، بل تعبر به إلى منصة الفعل، فتجعل من التضامن سياسة عامة، ومن الشهادة وثيقة اتهام، ومن القانون الدولي حجّة تُسمع في قاعة مجلس الأمن قبل أن يُكتب نصّ القرار.