قـادة الثـورة يكشفـون المؤامـرة ويسترجعـون المرسى الكبــير
اتفاق المسائل العسكرية سمح لفرنسا بتهريب العديد من أدلة جرائمها النووية
تعود ذكرى الاستقلال وتعود معها الكثير من التساؤلات حول حيثيات وظروف الاستقلال التي كانت صعبة وعسيرة، والمطلع على اتفاقيات «ايفيان» وإن بقيت مجهولة لدى الكثير من الجزائريين بالنظر لعدم الاهتمام بها إعلاميا وعزوف من حضر المفاوضات عن تقديم الخلفيات والظروف التي تنم عن مكر كبير من الفرنسيين وسعيهم لإخفاء وطمس الكثير من الحقائق والجرائم. كما أن مضامين الاتفاقيات كانت موضع بعض الخلافات بين القيادة العسكرية للثورة والوفد المفاوض الذي شكلته الحكومة المؤقتة، وهو ما يؤكد عمق الاختلاف الذي اندلع بعد الاستقلال.
من بين المحاور الغامضة هو إعلان الاتفاق الخاص بالمسائل العسكرية، حيث نص في مادته الأولى “تمنح الجزائر فرنسا حق استخدام قاعدة المرسى الكبير البحرية والجوية مدة خمسة عشر عاما ابتداء من تاريخ تقرير المصير. وفي الإمكان تجديد المدة باتفاق بين البلدين، وتعترف فرنسا بالصفة الجزائرية للأرض المقام عليها قاعدة المرسى الكبير.”
والمادة صريحة جدا وتطرح العديد من الأسئلة وهي لماذا طلبت فرنسا استغلال قاعدة المرسى الكبير 15 سنة ولماذا تفاوضت على إمكانية تجديد المدة، إن القاعدة البحرية المنجزة بطريقة واقية من الهجمات النووية تعتبر استراتيجية، خاصة وأنها تطل على البحر المتوسط وقريبة من مضيق جبل طارق الذي تسيطر عليه بريطانيا، وبالتالي لم ترغب فرنسا في ترك القاعدة البحرية لأن ذلك سيبعدها عن مراقبة الحركة البحرية في المتوسط وهو ما قد يهدد أمنها من الجهة البحرية.
وحرصت فرنسا في المفاوضات على توسيع استغلالها للقاعدة ومحيطها وهذا ربما لتأمين القاعدة وتحقيق الأهداف المرجوة من استغلالها لأن الاكتفاء بالبقاء داخل القاعدة قد يفقدها الكثير من المكاسب دون هامش مناورة وخاصة استغلال المطارات القريبة، وكذا الجزر القريبة من عين تموشنت وقد جاء في المادة 2 “تحدد قاعدة المرسى الكبير طبقا للخريطة المرفقة بهذا الإعلان تتعهد الجزائر بمنح فرنسا المعدات والتسهيلات اللازمة لتشغيل القاعدة، في المنطقة المحيطة بها وفي مراكز معينة على الخريطة المرفقة تقع في الإدارات الآتية “الأنقور”، “بوتليليس”، “ميسرجان”، “جزر حبيبة”، و«بلان”.
وما زاد من الشكوك في نوايا فرنسا الاستعمارية هو طلبها استغلال المطارات الخاصة بالجهة الغربية وحرصها على استغلال مهبط احتياطي لطائراتها وكأنها كانت تخفي أسرارا خطيرة لم ترغب في كشفها في تلك السنوات.
وقد أشارت المادة الثالثة من الاتفاق العسكري على “يعتبر مطار “لارتيج” ومنشأة “أريال” المبينين على الخريطة المذكورة، كجزء من قاعدة المرسى الكبير، وذلك لمدة ثلاث سنوات ويتبعان نفس النظام. يمكن استخدام مطار “لارتيج”، بعد تشغيل مطار بوسفر كمطار إحتياطي للهبوط إذا حتمت الظروف الجوية ذلك. وسيتم بناء مطار بوسفر في ثلاث سنوات.”
المادة الرابعة من الاتفاق.. والتجارب النووية
يظهر أن تجاوزات فرنسا في تجاربها النووية في الجزائر فاقت كل الحدود والتصورات وعملت جاهدة على اخفاء الآثار المادية للجريمة من خلال حرصها في اتفاقيات «ايفيان» على استخدام منشآت “أن أكر، ورڤان”، وهي المناطق التي تم فيها تفجير القنابل النووية والتي لم تذكر في الاتفاقيات، وهو ربما ما حاربت من أجله فرنسا حتى تغيب الأدلة الدامغة واكتفت بذكر التجارب الفنية والمنشآت الفنية في صياغة تؤكد مكر وخداع فرنسا ومحاولة وضعها الجزائر أمام الأمر الواقع “الاستقلال بتنازلات.. أو مواصلة الحرب”.
وتحدثت المادة الرابعة صراحة “... تستخدم فرنسا لمدة خمس سنوات المواقع التي توجد بها منشآت “أن اكر، رجان” ومجموعة المنشآت في “كولومب” ببشار و«حماجير” والتي تبين الخريطة المرفقة حدودها. وتستخدم كذلك المحطات الفنية التابعة لها. تقوم الجهات الفرنسية المختصة باتخاذ الإجراءات المؤقتة، بالإتفاق مع السلطات الجزائرية لتشغيل المنشآت الواقعة خارج هذه المحطات وبالأخص من حيث الحركة الأرضية والجوية”.
وذكرت بعض الاجتهادات ممن يعرفون أسرار ومسالك المنطقة، أن فرنسا تكون قد هربت الكثير من الأمور من مواقع التجارب النووية، وذلك هو سر تمسكها بالتحرك برا وجوا في مناطق غرب البلاد والتمسك بقاعدة المرسى الكبير.
ونصت المادة 5 على “توضع تحت تصرف فرنسا تسهيلات الاتصالات الجوية على النحو التالي
خلال خمس سنوات في مطارات “كولومب” ببشار و«ريجان”، وستتحول بعد ذلك هذه الأراضي إلى أراضي مدنية تحتفظ فرنسا فيها بحق الاستفادة من التسهيلات الفنية وحق المرور.
خلال خمس سنوات في مطارات عنابة وبوفاريك، حيث ستحصل فرنسا على تسهيلات فنية وإمكانيات المرور والتموين والإصلاح. وسيتفق كل من البلدين على التسهيلات الخاصة بهاتين المنطقتين.” والمتمعن في هذه المادة هو إصرار فرنسا الكبير على ضمان حق المرور واستعمال الأجواء الجزائرية وطلبها مطارات “بوفاريك”، و«عنابة” وتسهيلات في الاتصالات الجوية.
قيادات الثورة العسكرية والوجه الآخر لاتفاقيات “إيفيان”
كان الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، أحد القيادات العسكرية الذي أشرف على جلاء القوات الفرنسية من قاعدة المرسى الكبير، ومطار وهران، وأكد في مذكراته “...في شهر فيفري 1968، بعد وصول بومدين إلى سدة الحكم قرر إعادة النظر في بعض بنود اتفاقية إيفيان، أشرفت على جلاء قوات الاستعمار الفرنسي من قاعدة المرسى الكبير قبل انقضاء آجال الاتفاقية وهو إنجاز اعتز به كثيرا. فقد كنت شخصيا، اعتبر استقلال الجزائر منقوصا ما لم نستعد هذه القاعدة الإستراتيجية وما لم يخرج آخر عسكري فرنسي من التراب الوطني. وفي نهاية 1970 استرجعت القوات الجوية الجزائرية قاعدة بوسفر، آخر موقع احتفظ به الاستعمار الفرنسي في الجزائر بموجب اتفاقيات إيفيان”.
وتحدث بن جديد عن استغرابه من بعض بنود اتفاقيات ايفيان، وتساءل عن كيفية قبول الوفد المفاوض الجزائري بتلك التنازلات التي جعلته يقول بأن استقلال الجزائر كان ناقصا، وأوضح الشاذلي في مذكراته قائلا “... والحقيقة أنني لم أكن مدركا لحجم التنازلات التي قدّمها في إيفيان الوفد المفاوض لفرنسا إلا بعد تعييني على رأس الناحية الثانية. واقتنعت أيضا، أن المجاهدين ما كانوا ليضعوا السلاح في جويلية 1962، لو أنهم كانوا على علم بكل تفاصيل بنود إيفيان”٠
وحول قاعدة المرسى الكبير، نقل الشاذلي جهل القيادات العسكرية حتى بعد الاستقلال الكثير من الجوانب العسكرية في الاتفاقيات التي تكون قد اخفيت عن الرأي العام، موضحا “…المرسى الكبير منطقة حساسة إستراتيجيا فهي قاعدة بحرية وميناء مضاد للسلاح النووي. كانت بمثابة دولة داخل دولة، وكنا نجهل ما يحدث بداخله”.
ومما ورد في المذكرات “...فقد أجرّت الجزائر هذه القاعدة لفرنسا لمدة 15 سنة ابتداء من الاستفتاء على تقرير المصير مع إمكانية تجديد الإيجار باتفاق الطرفين. ورغم أن فرنسا تعترف بالطابع الجزائري لهذه القاعدة، إلا أنها حصلت على امتيازات وتنازلات كبيرة، منها تعهد الجزائر بوضع أماكن وتسهيلات لفرنسا ضرورية لحسن سير القاعدة، ومنها الاستفادة من خدمات المطارات القريبة من القاعدة “.
ومن الأمور الخطيرة التي كانت ضمن الاتفاقية، هو منع الجنود الجزائريين من دخول قاعدة المرسى الكبير، حيث ورد في المذكرات كذلك “...وتعترف الجزائر بحق فرنسا في استعمال أرضية القاعدة وأنفاقها ومياهها الإقليمية والمجال الجوي، كما خوّلت الاتفاقية لفرنسا كل السلطات، فيما يخص مسائل الدفاع والأمن وحفظ الأمن في حدود القاعدة. كانوا يسيطرون على المنطقة كلّها حتى عين الترك، وكان يمنع على جنودنا الدخول إلى هذه المنطقة”.
وذكر الشاذلي أن الرئيس الراحل هواري بومدين هو من كلفه بالتفاوض مع الفرنسيين لاخلاء القاعدة قبل انتهاء المدة المتفق عليها، وقال الشاذلي “..كلّفني الرئيس هواري بومدين بالتفاوض مع القوات الفرنسية للبحث عن إجراءات سريعة لخروج الفرنسيين من قاعدة المرسى الكبير قبل انقضاء آجال الاتفاق”.
وأضاف “..قبل أن أتطرق إلى المفاوضات يجدر بي أن أذكر بأن الفرنسيين شرعوا دون علمنا في بناء تحصينات دفاعية لحماية مرسى الكبير من أي هجوم محتمل. وتبدأ هذه التحصينات من مرجاجو (بوسفر)، وتمتد حتى “سانتا كروز”، لتطل على وهران. ومعنى ذلك أن القوات الاستعمارية الفرنسية إما أنها تتوقع هجوما محتملا من الجزائريين، وإما أنها كانت تخطط للبقاء في القاعدة حتى بعد انتهاء أجال الاتفاقية.
وعاد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد إلى خلفيات تاريخية لرغبة فرنسا للبقاء في قاعدة المرسى الكبير، مذكرا بالدمار الذي لحق بفرنسا من الأسطول الأمريكي في قاعدة المرسى الكبير في الحرب العالمية الثانية، موضحا “... كان الفرنسيون قد استلهموا دروسا عملية “كاتابيلت” حين دمّرت البحرية الأمريكية في سنة 1940 أسطولهم في مرسى الكبير، كما درسوا تجربة الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. فعملية “طورش” التي قادها الجنرال “إيزنهاور”، لم تدم سوى ثلاثة أيام. في البداية أراد الحلفاء الدخول من مرسى الكبير معتقدين أنه تابع للحلفاء، لكنهم فوجأوا بقوات الماريشال بيتان تطلق النار عليهم. فاضطروا إلى إنزال قواتهم في الأندلس حيث المركب السياحي اليوم. في ذلك الوقت كان يوجد هناك رصيف إنزال ساعدهم على النزول في الشاطئ بدباباتهم وشاحناتهم. ثم صعدوا نحو “مرجاجو”، وشرعوا في قنبلة جنود الماريشال بيتان من أعلى، هكذا احتلت إذن قاعدة مرسى الكبير في الحرب العالمية الثانية. استخلص الفرنسيون الدرس، وفكروا أنه إذا حاول الجزائريون استعادة القاعدة، فإنهم سيلجأون حتما إلى الطريقة نفسها”.
وتم استعادة المرسى الكبير في ماي 1969، ومطار بوسفر كان آخر منشأة استرجعتها الجزائر في 1970.