أجمع إعلاميون على التقصير الكبير تجاه تاريخ الجزائر الذي يعرف الكثير من التجاذبات بين مختلف الفاعلين، قائلين إن المذكرات والشهادات التي يدلى بها جعلت الإعلاميين يتجنبون الخوض في التاريخ من باب التريث لمعرفة الحقيقة وعدم الحكم على أي كان.
طرح رجال الإعلام ضعف التسويق والتعريف بالكتابات التاريخية عن الجزائر، موضحين أن المثقفين والمؤرخين وحتى الوصاية، أكبر المسؤولين عن تراجع التعريف بتاريخ الجزائر الذي يبقى مهمة يشترك فيها الجميع. كما أشاروا إلى محاولة بعض احتكار التاريخ وتخوين أو التشكيك في التاريخ النضالي للكثيرين وهو ما يجعل الوصول للحقيقة أمرا صعبا للغاية.
بمناسبة الذكرى 62 لثورة الفاتح نوفمبر ١٩٥٤، حاولت «الشعب» فتح المجال بكل حرية للإعلاميين، للتعبير عن آرائهم ونظرتهم لواقع الاهتمام بالتاريخ من قبل السلطة الرابعة.
الذاتية تطغى على كتابة المذكرات والشهادات
كشف الطيب سعد الله، من يومية «البلاد»، أن اهتمام الإعلام بالتاريخ الجزائري والثوري على وجه الخصوص، أملته الظرفية الخبرية ونوعية المعلومة، وأن هذا تاريخ نجده أكثر حضورا في الكتب والمذكرات. كما أن المجاهدين يتكلمون بتحفظ، وتناقض في أحيان أخرى، لذلك نجد الإعلام يتصيّد الهفوات والتناقضات في طرح المعلومة التاريخية مما يحتم مزيدا من التمعن والتعمق في قدسية العمل الجهادي الثوري.
وأضاف سعد الله لـ «الشعب»، «لا توجد حقيقة مطلقة في كتابة التاريخ، مما يحيلنا آليا إلى تناقض في المعلومة».
والتصدي للتخوين لا يكون إلا بالمكاشفة والشجاعة الأدبية وكذا الاعتراف بالخطإ، حيث نلاحظ أن جل من كتب مذكراته لا يعتبر أنه مخطئ، بل يقدم نفسه ضحية ويرمي اتهاماته على إخوانه، هذا الأمر يصل حد للتخوين في كثير المرات.
كما أن عدم فتح النقاش الثوري بشكل جدي كفيل بخلق نوع من المصداقية. إلى جانب هذا، يبقى التاريخ مبتورا إلى غاية استرجاع أرشيف البلاد من فرنسا، لأنها أرشفت لمرحلة معينة ونحن كتبنا المذكرات بعد خمسين سنة، مما ينقص من مصداقيتها.
احتكار الأرشيف وراء اهتمام الأجانب بكتابة تاريخنا
من جهته قال رياض هويلي، من قناة «كا.بي.سي»، إن اهتمام الإعلام الجزائري بالتاريخ غالبا ما يكون مناسباتيا، لأن الحديث عن التاريخ خارج الإطار الرسمي يكاد يكون محظورا. ومن هنا، فإن المناسباتية تصبح ضرورة تفرضها المعطيات العملية.
وأضاف هويلي لـ «الشعب»، «...أن كتابة الأجانب التاريخ الجزائري، مرده إلى محاولات فهمهم لما يجري وجرى، من جهة، وأيضا لاحتكارهم الأرشيف وثالثا لمحاولة استغلال التاريخ للتأثير على الحاضر والمستقبل، كون التاريخ حجر الزاوية في المنظومة السياسية بأبعادها الاجتماعية».
وأوضح الإعلامي، «أن التشكيك والتخوين ليس خيارا، إنما لغياب الأرشيف وغياب الشهادات المستقلة وتسييس التاريخ من قبل السلطات المتعاقبة منذ الاستقلال والتي تحتكر الحقيقة، فضلا عن الصراعات التاريخية بين الفاعلين في المناصب القيادية وعلاقاتها بالشرعية الثورية التي بنت منظومة الحكم».
أسباب وراء ضعف التعريف بتاريخنا
أرجع سفيان مراكشي، صحافي بالقناة الإذاعية الأولى، تقصير وسائل الإعلام في الاهتمام بتاريخ الجزائر إلى عدة أسباب، موضحا «...صحيح الإعلام الجزائري يهتم بمآثر ثورة نوفمبر وتاريخ الجزائر في المناسبات فقط وهذا راجع لطبيعة النشاط المصاحب لهذه المناسبة، وأن «...النشاط الرسمي يحتم على الصحافي مواكبة الحدث. لكن ما يعاب الحديث عن ثورة نوفمبر في ذكراها فقط. في حين الإعلام الأجنبي يتحدث عنها دائما ويضرب بها المثال كثورة طاهرة، أو كما يسمونها بمعجزة القرن العشرين، ثورة قادها ثلة من الشباب الثائر طرد رابع أقوى قوة إمبريالية في ذلك الوقت ووجه المقارنة يسقط على ثورات ما يسمى الربيع العربي عندما يتجرأ بعض الناس ويشبهها عبثا بثورة نوفمبر».
وواصل مراكشي: «لذلك أنا أعتقد أن المسؤولية تقع على السلطات وجمعيات المجتمع المدني والطبقة المثقفة في الجزائر. مازلنا لا نعرف كيف نسوق لتاريخنا، مآثرنا وبطولات أجدادنا.
في المشرق العربي انتفاضة بسيطة يسقط فيها شهيد أو اثنان يقيمون الدنيا عليها ولا يقعدونها، يفتخرون بالبطولات والشجاعة والبسالة، في حين نحن لدينا معجزات وخطط حربية تدرس في مدارسهم وأبطال يستلهم من تاريخهم وسيرتهم، لعل المثال القوي الذي صادفته عندما زرت سوريا حين وجدت أن الأمير عبد القادر الجزائري أعظم رمز للجهاد الورع والدين والشهامة في إصلاح التربية والسلام والأخلاق والحرب وحتى حوار الديانات والمصالحة بين الفرقاء. في حين نحن في الجزائر نستطيع إنجاز فيلم وثائقي يروي سيرة حياته… إن التاريخ لا يرحم ومن لم يسوق لتاريخه وأصوله سيصطدم بآلة النسبيان… آلاف الأبطال لا نعرف بطولاتهم، سمعنا عنها شفهيا ومات الراوي واندثر الأثر».
تأسف مراكشي لظاهرة التشكيك والتخوين في الكتابة عن تاريخ الجزائر، قائلا: «البحث عن الإثارة وبيع الصفحات الأولى للصحف هو الذي يدفع بعض الزملاء للكتابة عن التخوين والتشكيك… لكل ثورة كبوة وأخطاء، هذا أمر طبيعي. لكن غير الطبيعي أن نركز على هذا الجانب ونهمل الصح... أنا أعتقد أن الذي يبحث عن الإثارة في تاريخ الجزائر والتخوين والتشكيك، كالذي ينبش في قبور الموتى، وعِوَض ذكر محاسنهم يسهب في ازدراء نواياهم التي لا يعلمها إلا الله… أمانة الشهداء هي الوحدة الوطنية، الجزائر للجميع، حررها الجميع ويبنيها الجميع».
التبعية امتدت للتاريخ
اعتبر طه بليدي، أن لجوء الكثير من الجزائريين لمعرفة تاريخ الجزائر إلى الأجانب، بالنظر لموجة التأثر بالغرب واستيراد كل شيء، موضحا «.... صار الأفراد بصفة عامة ومنذ زمن يميلون لما يقوله الآخر، أكثر من أن تقبل الحقائق من الأشخاص الذين يتقاسمون معهم التركيبة الاجتماعية القريبة. والسبب، برأيه، هو التطور الذي عرفه الاتصال البشري في السنوات الأخيرة والأشواط الكبيرة التي قطعها في تقريب التواصل بين الناس، ويزداد الأمر حدة إذا كانت القضايا المطروحة غير واضحة وفيها لبس وتشوبها الإشاعات والأقاويل والاتهامات المتبادلة والمجال التاريخي وتاريخ الجزائر خير دليل.
التشكيك والتخوين تمارسه أقلام مأجورة
من جهته قال رشيد كعبوب، من يومية المساء: «نحن، للأسف، لا نملك رؤيا لا اجتماعية ولا إعلامية ولا ثقافية، مما يجعلنا لا نضع الأمور في نصابها. مرجع ذلك، غياب نسق تسييري واضح، منها احترام التخصصات والاعتراف بالقدرات، من منظور علمي موضوعي، وليس من منظور سياسوي أو مصلحي أو عشائري…
وأمر اهتمام الإعلام الجزائري بتاريخ الجزائر في المناسبات فقط، في رأيي هو عينة من النمط المطبق في كل القطاعات الأخرى وبالتالي، فإعلامنا لن يشذ عن القاعدة، لأنه لا يملك مفاتيح النظرة الاستراتيجية والخبرة والقدرة على التحليل الإيجابي، وهو يترجم سلوكات القمة والقاعدة معا، وبالتالي فلا عجب أن نرى الإعلام الجزائري يخوض مع الخائضين في ملفات التخوين والتشكيك».
وأضاف كعبوب قائلا: «...نجد صحافيين مختصين في هذا الميدان الحساس المتعلق بتاريخ أمة وليس حادثة معزولة… وقد تعهد الكتابة الإعلامية عن تاريخ الجزائر - عن طواعية أو بتكليف - لأشباه الإعلاميين أو لأقلام مأجورة بأبخس الأجور، أو لمن يريدون ركوب قطار الشهرة وتحقيق المآرب، فينتجون صورا قاتمة وتحاليل عدوانية ورسائل غير مشرفة عن تراث الأمة».
أظن أنه آن الأوان لكي نفكر في انطلاقة جادة لمجتمع ظل لعقود يعيش فوضى الأشياء وعمى الألوان، ويتصرف «مناسباتيا وظرفيا» دون الاستناد إلى «تراث تسييري راشد» لا يلغي الجديد منه القديم، بل يكمله مثلما تجسده بقية الأمم المتقدمة التي تحترم تاريخها وجغرافيتها وعلى رأسها قدراتها البشرية.