«الألغام التي زرعها الاستعمار الفرنسي على حدودنا الشرقية والغربية فككت ونزعت جميعها”، خبر جعل الجزائريين يتنفسون الصعداء لأنها و على مدى سنوات طويلة كانت السبب في سقوط ضحايا كثيرون بعضهم يعاني الإعاقة
و الموت البطيء إلى يومنا هذا....
هذه الألغام التي استطعنا التخلص منها بفضل خبرة الجيش الوطني الشعبي تقابله ألغام غير مرئية سربها المستعمر إلى مجتمعنا منذ أن وطئت قدماه هذه الأرض الطيبة ، ألغام تضرب هويتنا وتاريخنا لأن انفجارها يعني الانسلاخ عن الذات وعن المقومات التي تجعل أي واحد منا جزائريا بكل ما تحمله الكلمة من معاني.
هي ألغام اجتماعية غرست في مجتمع تشبع الحضارة حتى الثمالة و كان لقرون طويلة الغنيمة التي حلمت بها الجهة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط ، و أدرك المستعمر حينما غزى الجزائر أنه شعب له هويته وشخصيته التي مكنته من فرض هيبته على طول ضفاف المتوسط، لذلك فكر في الوسيلة التي تجعله تابعا له للأبد فكانت النتيجة والحل الأمثل هو زرع الثغرة بين المجتمع وذاته و ثقافته، زرع ألغام لا مادية تخلق الفتنة والغربة وسط أبناء الشعب الواحد، و لمدة تقارب القرن و النصف سخر المستعمر كل وسائله المادية و المعنوية من أجل تحقيق ذلك.
الجهوية، الأمازيغي والعربي، الجهل، الفقر، غرس الذل والمهانة في نفس كل جزائري، تغيير الأسماء وجعلها بعيدة عن الانتماء و الأصل في محاولة يائسة من المستعمر لسلخ الجزائري من أصوله الإسلامية وهويته التاريخية التي عرفت تمازجا سلميا بين عدة ثقافات، و لكن الثورات الشعبية كانت تذكره في كل مرة أنه شعب لا يرضخ ، لذلك حاولت تلغيم المجتمع بخلق نموذج للمرأة الجزائرية يقارب في صورته تلك الموجودة في المجتمعات الغربية و أعطت الرجل معالم محددة ليكون كائنا حضاريا، لذلك كان احتفالها بمئوية احتلالها للأرض الجزائرية كبيرا وعظيما لأنها اقتنعت أن مهمة السلخ و الزرع قد انتهت و أن الشعب الجزائري قبل حقيقة أنه فرنسي ولكن بأقل درجة من الفرنسيين.
عندما دخلت فرنسا الجزائر طمعا في كنز القصبة المقدر حينها حسب المؤرخ “لبييار فرانسوا” بـ 250 مليون فرنك فرنسي أي ما يعادل ملياري أورو بالإضافة إلى حوالي ثمانية و أربعين مليون من الذهب و الفضة، و عند خروجها حاولت كل ما تستطيعه في مفاوضاتها مع الجزائريين من أجل تقسيم الجزائر لغاية الاحتفاظ بالصحراء و ما تتربع عليه من ثروات باطنية و سياحية، ولكن كما دخلت خرجت خالية الوفاض.
هذا الخروج حتى وإن كان بعد تضحيات أسالت أنهارا من دماء الشهداء لن يكون سهلا كما يتصور البعض لأنها إلى اليوم حاقدة على البلد الذي لفظها خارجا بعد أن قالت كذبا الجزائر فرنسية، و لعل ما نراه من محاولات لتشويه المجاهدين والشهداء و التشكيك في وطنيتهم يعكس الإستراتيجية الفرنسية اتجاه الجزائر، البلد الذي رفضت أن تتقاسمه مع أي من الدول العظمى عند بداية تحرك أسطولها نحو المحروسة عروس البحر الأبيض المتوسط.
يؤلمني كثيرا أن أرى الفرنسية تبدو سيدة في وطن كافح أبناؤه لقرن ونصف من أجل حرية التحدث بالعربية ،...يؤلمني أن يقر الدستور العربية لغة الجمهورية الجزائرية الشعبية الديمقراطية و يبقى أداء المجلس الأعلى للغة العربية هزيلا
أمام الدور التغريبي الذي تقوم به اللوبيات الفرنسية من أجل طمس معالم الحضارة التي وجدها المستعمر عندما احتل الجزائر، هم أشخاص لا نعرفهم يتحركون في صمت و لكن ما يفعلونه من أجل تفجير تلك الألغام الاجتماعية والمعنوية جلي وواضح للعيان، فما عاشته الجزائر من مآس و محاولات لتقسيمها سواء في القبائل الكبرى، أو غرداية، أو التوارق أو سنة وأباضية وأخرى في جعل الجزائري مسخ هجين لكل ما هو فرنسي خير دليل على ذلك.
ولكن أقولها وأعيدها أن الدرس الذي لم تعه الضفة الأخرى أن المجتمع كشف وسيكشف تلك المحاولات المتكررة في هز أساسات المجتمع الجزائري، وأن أحفاد الأمير عبد القادر و فاطمة لالا نسومر لن يكون تاريخهم ومجدهم خارج الإطار الحضاري الذي ميزهم لسنوات طويلة، فكما حيرت رسومات الطاسيلي الخبراء، وكما كانت الثورة التحريرية في 1954 ثورة القرن العشرين، و كما استطاع سليل جيش التحرير الوطني القضاء على آخر أثر مادي و فيزيائي للمستعمر الفرنسي، ستتمكن أجيال الجزائر الحرة المستقلة من بناء دولة قوية بسواعد أبنائها، وكما استرجعت آلاف الهكتارات الملغمة لتدب فيها الحياة، ستكون أجيال الحرية مبدعة و متطلعة إلى غد أفضل و ليست عقيمة كما أرادوها دائما.