من ناحية أخرى، بيّنت جميع الدراسات السوسيولوجية التي أجريت بالجزائر في منأى عن النظريات والمبادئ والقيم المتوارثة، أنّ ظاهرة «دور العجزة» بات حقيقة بمجتمعنا، لكنها ربطت الارتفاع المتواصل لكبار السن بدون مأوى بظاهرة الطلاق وعدم الإنجاب والعنوسة، لما لها من تأثير سلبي على استقرار الأسر، حيث أكّدت هذه الدراسات التي اشتغل عليها الأساتذة المختصين في علم النفس وعلوم التربية، بوحالة منصورية من مستغانم وبن شعيبي محمد من تلمسان ومنتصر ميموني بدرة عن جامعة وهران أنّ «حالات تخلي الأولاد عن الآباء ضئيلة جدا، وأنّ أغلب المقيمين بهذه المؤسسات لم يتزوّجوا إطلاقا أو أنهم مطلقين ولم ينجبوا».
وهو ما أشارت إليه الأستاذة منتصر ميموني بدرة، التي أوضحت لـ «الشعب» أنّ مشكلة تلاشي الروابط بين أفراد الأسرة الواحدة في المجتمع الجزائري تتّضح بجلاء في قضايا اجتماعية أخرى ترتبط أساسا بالأساليب غير السوية والخاطئة في تربية الطفل والمبالغة في تكريس سلطة الأولياء وانشغالهم الدائم عن أسرهم سواء بدافع العمل أو الزواج المتعدّد وظروف أخرى».
وفي ذات السياق استدلت ميموني بالدراسة التي أجرتها الأستاذة بوحالة منصورية على مستوى دار العجزة بمدينة مستغانم، حيث أكّدت أن هذه الأخيرة لم تجد سوى 4 حالات لديهم أبناء وأحفاد بعد بحث كبير دام لفترة طويلة، من بينها رجلا طلّق زوجته وهجر ابنته، ولما ضاع منه مصيره ومعه مستقبله وجد نفسه بدار العجزة، كما كشف التحقيق الاجتماعي أن الابنة عاشت ظروفا صعبة ولم تشأ أن تعرف شيئا يذكّرها بطفولتها القاسية وأبيها الذي لم يسأل عنها يوما.
وهو حال أبناء آخرين حاولت دار الشيخوخة بتلمسان إصلاح العلاقة فيما بينهم وبين أبيهم الذي سبق وأن أكّد أنه طرد، قبل أن تتضح حقيقة أخرى، وهي أنّ الأب كان يعنّفهم ويقسو عليهم ورحل عنهم بمحض إرادته، وأنهم مستعدّين رغم كل الظروف أن يتكفّلوا به، لكنّه رفض العودة معهم، وفق ما نقلته عن الباحث الأستاذ «بن شعيبي محمد».
وحسب محدثتنا فإنّ «دور العجزة الحل الأمثل لكبار السن في وضعية هشّة، حفاظا على كرامتهم وإنقاذا لنفس بشرية من الضياع»، لكنها وفي الوقت نفسه اعترفت بوجود «اضطرابات متعدّدة، يعاني منها الأبناء والآباء في ظل التحولات الكبيرة التي مست العائلة التقليدية والقيم الاجتماعية عامة».
واستدلت في هذا الصدد بقصة أخرى نسجها أستاذ من مدينة مستغانم، أقدم على طرد والدته المسنّة التي كتبت سكنها باسمه، ولما ساءت العلاقة بينها وبين زوجته التي تشغل نفس وظيفته قرّر طرد أمّه، تضيف مستنكرة «الابن في هذه الحالة جانح، يستحق أقصى درجات العقوبة، وكان عليه أن يترك المنزل ليستقر ويرتاح على أن لا يقطع حبل الصلة بأهله».
كما اعترفت الأستاذة ميموني بقلّة الدراسات المتخصّصة التي تناولت هذه المرحلة الحساسة من حياة الفرد، مرجعة ذلك إلى «حداثة الظاهرة التي تعتبر دخيلة عن القيم الأصيلة للمجتمع»، وهذا ما يحدث في بلد مسلم ومجتمع يطمح للعيش في منطقة وسطى بين الأصالة والمعاصرة، لكن الكثير منهم حاد عن أصله.